صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “بعض قضايا المنهج: في علوم السياسة والتاريخ والقانون والديموغرافيا”، يحتوي على بحوث بارزة في حقول شتى، تنتمي وتتفرع عن أصول أربعة هي: السياسة والتاريخ والقانون والديموغرافيا، وهو مؤلف جماعي لثلاثة عشر باحثًا وباحثة عربًا متخصصين في حقول العلوم السياسية، والتاريخ والحضارة، والأدب الألماني، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وحوار الحضارات، والدراسات الأمنية، والأنثروبولوجيا، وعلم الآثار، والتاريخ الحديث، والفكر العربي الحديث، وتاريخ الأفكار، والعلاقات الدولية. وقد حرر مراد دياني مادة الكتاب الذي يقع في 504 صفحات، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
الإشكالية ومحاولة الحل
لا شك في أن حقول العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات التاريخية هي مجالات علمية تكتسي فيها إشكالية مناهج البحث أهميةً كبرى، من حيث توسّع هذه الحقول في العقود الأخيرة وتناسل اختصاصاتها، وانفتاحها على آفاق بحثية متجدّدة باستمرار، فضلًا عن هيمنة البردايمات الغربية المنشَأ فيها وصعوبة تبيئتها في السياقات البحثية العربية، وغيرها من الإشكالات ذات الصلة. وتمثّل بحوث كتاب “بعض قضايا المنهج” إسهامات فذّة في الربط منهجيًّا بين التطلعات العلمية لتخصص العلوم السياسية ومتطلبات معالجة الشأن السياسي بشمولية أكبر، وبين الحاجة الملحّة إلى درء ظاهرة الحشو المنهجي في الأطاريح البحثية لمصلحة “ما قلّ ودلّ”، وكذلك درء التحيزات الأيديولوجية في علم السياسة، وتجاوز ثنائية “الفهم/ التفسير” المانوية في العلاقات الدولية باستدماج منظور “السببية” والنظر في بدائل نظرية الاختيار العقلاني المهيمنة، وفي سبل التعزيز الإبستيمولوجي للتعميم والاستدلال في دراسات الحالة، والتجديد المنهجي في الدراسات التاريخية من بوابة التقاطع بين المعرفي والمنهجي، و”أهلنة” المعرفة التاريخية العربية، بمعنى جعْلها أهلية عربية وفكّ ارتباطها بالرؤى الغربية، وتعزيز التأويل الرمزي في الحقل التاريخي وغيرها من القضايا. وهي إسهامات تجمع بين منظورَي حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية وحقل الدراسات التاريخية، ومناظير أخرى مبتكرة عابرة للاختصاصات.
الأزمة ولاتقليدية المعالجة
يتصدى عبد الوهاب الأفندي في الفصل الأول من الكتاب لـ “أزمة العلوم السياسية المعاصرة”، عارضًا بعض ملامح “بردايم” محتمل لمعالجتها، في ظلّ عجز الإطار النظري الأشمل الذي يحكمها عن استيعاب المتغيرات السياسية الكبرى السريعة في عالم اليوم، وعن التوفيق بين التطلعات العلمية للتخصص ومتطلبات المعالجة الأشمل للشأن السياسي. ويقترح من أجل ذلك تعديل تعريف حنّة أرندت Hannah Arendt للسياسة إلى صيغة تجمع بين فهم السياسة مجالًا “للتغالب” ضمن إطار القيم المشتركة والضوابط العرفية، مع الإقرار بأنّ خيار “العنف المشروع” هو من أدواتها ممثَّلًا في الدولة. ولا يرى الباحث تعارضًا بين فهم شانتال موف Chantal Mouffe وآخرين “السياسيَّ” بوصفه تعريفًا للمركب التصادمي في السياسة، والمفهوم التوافقي لها، بل يرى أنّ صيغة موف تنطبق على الأوضاع الاستثنائية ومرحلة التأسيس أو استبدال نظام فقَدَ مبررات وجوده. ويعرض الفصل أيضًا لقضايا إشكالية المركزية الغربية، و”دراسات المناطق”، والمقاربات السياقية، وإشكالات “وحدة العلوم” وغيرها.
وتناول سيد أحمد قوجيلي، في الفصل الثاني، ظاهرة حشو أطاريح البحوث بعدد كبير جدًّا من المتغيّرات، عادًّا إياها من “الجهل المنهجي”. وهذه الظاهرة وإن كانت لا تحظى باهتمام واسع في مجال البحوث، يترتّب على استعمالها مغالاة في جمع البيانات وتحليلها على حساب بناء الأطروحة، لكنه ينافح عن “الشحّ” في تصميم البحث، بوصفه يساهم في تبسيط الأطروحة وتحديد فروضها ومتغيّراتها. ومن ثمّ يناقش مبدأ “الشحّ” بتوسع، معتبرًا إياه حلًّا ناجعًا لتخليص البحوث من “الميثودية”، عبر العودة إلى سياق الاكتشاف وجعل التنظير لا الممارسة المنهجية الهدفَ الرئيس للتحقيق العلمي. ويعتبره موجّهًا كشفيًّا مفيدًا لبناء النظرية، وتبسيط الأطروحة، ومساهمًا في اكتشاف القوانين العلمية وحلّ بعض المشكلات المنهجية، مثل مشكلة التصاميم غير المحدّدة للبحث في التحليل المقارن، ونقطة التوقّف في تقنية اقتفاء العملية خلال دراسات الحالة.
ويتناول خليل العناني، في الفصل الثالث، الأيديولوجيَّ – باعتباره حقلًا معرفيًّا – المرتبطَ بنشأة علم السياسة منذ أواخر القرن الثامن عشر ثم في مرحلة الحرب الباردة. ويجادل بأنّ ثمة مأزقًا معرفيًّا مع تأثير تحوُّل علم السياسة علمًا “غائيًّا” في بنيته المعرفية والمنهجية، نتيجةً للتحيُّز القبْلي في عملية إنتاج المعرفة، وتجسّد العلاقة بين القوة والمعرفة فيه بوضوح. ولئن كانت العلاقة بين علم السياسة والأيديولوجيا لا تزال جدليةً وغير محسومة، يبدو من الصعب نزع الطبيعة المتحيزة لعلم السياسة، كشأن بقية الحقول المعرفية الاجتماعية والإنسانية. فالباحثون يدافعون عن تطوير منهجيات بحثية، تتجاوز الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين الشمال والجنوب، للتقليل من نسبة التأثيرات السلبية لهذا التحيز؛ ما يُلقي بالمسؤولية على باحثي العلوم السياسية غير الغربيين لاجتراح مفاهيم بحثية تُلائم مجتمعاتهم وثقافاتهم.
يتناول محمد حمشي، في الفصل الرابع، بالدرس والتحليل إشكاليةَ “السببية” في حقل العلاقات الدولية من حيث كونها إشكاليةً إبستيمولوجية، مفترضًا النقاش بشأنها فرصة ملائمة لاستكشاف معالم الطريق نحو “رواية ثالثة” ممكنة بدلًا من الروايتين المتعارضتين (الفهم و/ أو التفسير). ويسعى الباحث، عند مناقشة إشكالية السببية، إلى لفت الانتباه إلى “نظرية التعقّد” ودروسها الأساسية، من أجل إعادة التفكير في التصور الهيومي التقليدي للسببية الذي هيمن على أغلبية النظريات السائدة. ويركّز على كيفية إعادة نظرية التعقّد النظرَ في مفهوم الحتمية، ليَخلُص إلى أن أحداثًا كبرى، كنهاية الحرب الباردة على سبيل المثال، ليست بالضرورة ناتجةً من “أسباب كبرى”، وأنّ الأنظمة الاجتماعية وأغلبية الأنظمة الفيزيائية والبيولوجية مفتوحة وحساسة للتغيرات في الشروط الابتدائية لعملها مهما كانت طفيفة أو عشوائية.
في الفصل الخامس، تطرح مروة حامد البدري فرضيةَ مفادها أنّ الاختيار العقلاني لا يؤدي بالضرورة إلى تعظيم المنفعة، باعتباره اختيارًا يخضع لحسابات الربح والخسارة؛ ما قد يؤثر في اختيارات صانع القرار ويوجّهه نحو المخاطرة أحيانًا. وبعد استعراض الباحثة فرضيات “نظرية المنفعة المتوقعة” وبدائلها المتعلقة بـ “العقلانية الوصفية” أو “المعرفية”، وكيفية تطبيق هذه النظرية وبدائلها على السلوك التفاعلي في العلاقات الدولية، تستنتج أنّ الاختيار العقلاني يخضع لجوانب معيارية ووصفية؛ إذ قد يكون للعقلانية بعدٌ معياري يعني أنّ على صانع القرار الاختيار وفقًا لمبدأ تعظيم المنفعة وتقليل الخسارة، وبعدٌ وصفي يعني أنّ الاختيار يخضع للطريقة التي تُصاغ بها المشكلة في مجال المكاسب والخسائر. وتخلص الباحثة إلى أنّ الاختيار العقلاني في صورته الوصفية والمعرفية يؤكد أن لا مبدأ واحدًا للاختيار دومًا؛ ذلك أنّ تحديد صانعِ القرار مجالَ الربح أو الخسارة هو الذي يحدد طريقة اختياره، إذ يكون في إطار الربح أقلّ ميلًا إلى المخاطرة، وفي مجال الخسارة أكثر ميلًا إليها.
ويخصّ حسن الحاج علي أحمد، في الفصل السادس، مناهج دراسات الحالة بالدرس والتحليل، وهي دراسات تشهد اهتمامًا وإقبالًا متزايدَين من الباحثين، مقارنةً بالعدد الكبير من البحوث في مجالات العلوم الاجتماعية، لكنها تواجه تحديات في مدى قدرتها على التعميم والاستدلال. ويركز الباحث في دراسة الحالة تحديدًا على الإسهام المنهجي الذي قدّمه “التحليل التتبعي” في البحث الكيفي، وعلى تحليل تطور الاستدلال العلمي من خلال ثلاثة مجالات: أولها تفسير المخرجات، وثانيها اختبار النظريات، وثالثها توليد النظريات. ليخلص إلى أنّ التحليل التتبعي يمكن استخدامه في مجالات اختبار النظرية وبنائها وتعديلها، وأنّ تناول آليات التسبيب في التحليل التتبعي قد فتح الباب أمام تطوير عملية التسبيب.
يُعتبر الفصل السابع مساهمةً من الباحث محمد الخراط في بحث تنشيط “أنثروبولوجيا القانون في الفكر العربي المعاصر”، يتناول فيها آليات الضبط الاجتماعي في القانون، وقدرة التشريع على الموازنة بين المصالح الراجحة والمرجوحة، والتفطّن إلى التغيرات العميقة التي يتطلّبها الإصلاح التشريعي بوصفها من أهم مداخل المنهج التاريخي والأنثروبولوجي. هذا إضافةً إلى نظره في الأفكار التشريعية التي استقاها من التجربة التونسية ومن القانونَين اللبناني والأردني، لا سيما في ما يخص “جرائم الشرف”، بوصفها كاشفةً عن رواسب العقل وقدرة الأعراف والعادات الموروثة على مقاومة التغيرات. ويخلص الباحث إلى أنّ المطالبة بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة أو المطالبة بإلغاء جرائم الشرف في حاجة إلى تصور مشترك لما هو “عادل” لا ينجم عن قرارات فوقية قهرية من رجل السياسة، بل يكون عملًا تربويًّا – تثقيفيًّا دؤوبًا من مؤسسات التعليم ومنظمات المجتمع المدني في نطاق تصورٍ شامل لوظيفة القانون والسياسة والدين والتعليم والمجتمع المدني، وللدولة وطبيعة الواقع ورهانات المستقبل؛ وقد يكون الأنثروبولوجي أحد أهم الفاعلين فيه.
في الفصل الثامن، يبحث علي الصالح مولى في “قضايا السياقات المعرفية” و”قضايا الاختصاص” المتشكلة داخلها، وبواعث التفكير في تجديد منهج الكتابة التاريخية العربية، وفرص ترقية الأداء الأكاديمي في الحقل التاريخي العربي، والنتائج التي انتهت إليها التجارب المنجزة. ويستعرض الباحث التقاطع بين المعرفي والمنهجي، وتلقّي المؤرخين العرب تيارات تجديد الكتابة ومناهجها، مع التركيز على “مدرسة الحوليات” و”مدرسة التاريخ الجديد”. ويعرض أيضًا لحظّ الأكاديميا العربية في كسب معركة تجديد مناهج تطوير المعرفة خارج سلطان الكتابة التقليدية. ويقف الباحث عند أزمة منهج الكتابة التاريخية العربية، مُرجعًا انعدام الكتابات النسقية أو قلّتها إلى كون أسئلة التجديد نزّاعةً غالبًا إلى إثارة المسائل التطبيقية أكثر من قضايا نظرية المعرفة والميثودولوجيا. ويقدّم الباحث معطيات لتمويل دراسات عابرة للاختصاصات والعناية بها خارج الفضاء المعرفي العربي، وتحديدًا في مقاطعة كيبيك الكندية وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ليستخلص أنّ كلًّا من مَأسسة تقاطع الاختصاصات، ورصْد التمويلات لها، وضبط خطط تطوير البحث العلمي وتنميته، لا يمكن أن يجري إلّا في سياق معرفي منتج، وأنّ البحث الأكاديمي العربي لا يزال بعيدًا عن ذاك السياق. ثمّ يخلص الباحث أخيرًا إلى أنّ آثار جغرافية التاريخ وهوية المؤرخ لا تزال في بلادنا العربية جزئيةً وقطاعية، رغم جهود صنّاع مشروع الكتابة التاريخية العربية الجديدة.
يقترح عبد الحميد هنية، في الفصل التاسع، العمل على إيجاد ظروف للتجديد في الكتابة التاريخية على أساس “أهلنة” المنهج، ويقصد بذلك فهمنا وتحليلنا مجتمعاتنا بالطريقة الصحيحة، من أجل تخطّي المعارف الإثنومركزية الغربية التي أنجزت حولها. وينبه الباحث إلى أنّ المشكلة ليست في كلّ المعارف الغربية، بل فقط في تلك التي صاغها بعض الدارسين الغربيين (ومن تأثر بمنهجهم من غير الغربيين) حول مجتمعاتنا، والتي لا تُظهر حقيقةَ واقعنا، بل حتى تمنعنا نحن أحيانًا من فهمه بطريقة مثلى. ولتطبيق هذا المنهج الفريد والواعد، اختار دراسة حالة من تاريخ تونس خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، أفادنا في ضوئها بأنّ التخلص من الهيمنة المعرفية الإثنو-أوروبية أو الإثنوثقافية الغربية يتطلب منا إعادة إنتاج المعرفة وتفكيكها ونقدها وإعادة صياغتها، وأن نأخذ في الاعتبار خصوصية الواقع الداخلي. وهذه هي “أهلنة” المعرفة التاريخية، التي تقتضي الانطلاق من أدوار الفاعلين المحليين والأخذ بأقوالهم وأفعالهم ودرس أدوارهم في علاقاتها وتفاعلها مع القوى الخارجية.
في الفصل العاشر، ينطلق إبراهيم القادري بوتشيش من التساؤل عن جدلية العلاقة بين حق مؤلف النص وحق قارئه في حالة النص التاريخي؛ إذ يصبح القارئ/ المؤرخ شريكَ صاحب النص في فهمه وإعادة إنتاج دلالاته بمنهج تأويلي، فالتاريخ حقلٌ معرفي يمور بالرموز والأساطير التي تستدعي التأويل، وهو بذلك يعيد صوغ القول في سؤال المنهج وكيفية تحيينه في العلوم الإنسانية عامة وفي التاريخ خاصة. وللإجابة عن تساؤله الاستهلالي يسعى الباحث إلى درس منهج التأويل الرمزي في الحقل التاريخي، الذي يروم إقامة علاقة جدلية بين العقل والتراث والعلم والروح في فهم دلالات النصوص، وإشراك قارئ النص المرموز في إعادة إنتاج معناه واستخراج دلالاته الممكنة عن طريق فهمه وتأويله، وإقامة روابط تفاعل وحوار معه. وبالتفاعل والحوار يتملّك المؤرخ – وفقًا للباحث – النصَّ ويساهم في بناء معانيه ودلالاته وينتجه من جديد. ويطبّق الباحث مرتكزات منهج التأويل الرمزي النظرية على طقوس احتفالات البيعة في تاريخ المغرب الراهن، لرصد ما تحمله من شحنات رمزية ومعان مضمرة، اعتمادًا على مقولة “التاريخ الفاعل” لهانز جورج غادامير Hans-Georg Gadamer، ولاستقاء دلالات الرموز المصاحبة للطقوس من قلب التاريخ والتراث المغربيين، ومن الذات الإنسانية في بعدها الكوني.
يسلّط زهير سوكاح، في الفصل الحادي عشر، الضوء على حقل “دراسات الذاكرة” بوصفه تعبيرًا جامعًا يحيل إلى مقاربات علمية ذات طبيعة “بينتخصصية” تسعى إلى التعامل مع “الذاكرة” الإنسانية في بُعدَيها المجتمعي والجمعي، وإلى البحث في علاقة الذاكرة بالظواهر البشرية محلِّ اهتمامِ العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية. ويعتبر الباحث أن لا ثيمة بحثية استطاعت إعادة الترابط القديم بين العلوم الإنسانية – الاجتماعية والعلوم الطبيعية كما فعلت “الذاكرة”. وينحو الباحث إلى أنّ الاهتمام الأكاديمي البحثي الجديد بالذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية يقابله تعامل عربي دون المأمول، مع بعض الاستثناءات في حقل “دراسات الذاكرة” في مؤتمرات ومشاريع بحثية رعاها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال العقد الأخير. ويعدّ الباحث هذا القصور العربي أمرًا لافتًا للانتباه، ويرجعه إلى غياب الوعي الإبستيمولوجي العربي بأهمية هذا الحقل واعتباره اختصاصًا بحثيًّا وأكاديميًّا مستقلًّا بذاته. وفي ختام الفصل، يقدّم عدة مقترحات تروم تعزيزَ الاهتمام العربي بدراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
في الفصل الثاني عشر والأخير، يستعرض طارق مداني حقل “الديموغرافيا التاريخية” ومناهجها، ويعرض على نحوٍ وافٍ للعديد من المؤشرات العمرانية ودلالاتها الديموغرافية في بعض المدن الإسلامية (دمشق، بغداد، حلب، القاهرة، تونس، القيروان، فاس، مدن الأندلس). ويستقصي مراحل تطور “التاريخ الكمي” عبر أعلامه ومدارسه، وطرائق إحصاء ساكنة بعض المدن الإسلامية عبر التاريخ، من خلال استثمار بعض النظريات الديموغرافية، أو تفعيل النصوص القديمة واستنباط الإشارات الإحصائية المتفرقة فيها، أو توظيف الاستنتاج الرياضي المرتبط بمساحة هذه الحواضر وعدد منشآتها العمومية، باعتبارها مؤشرات دالة على ديناميكية عدد السكان. ويخلص الباحث إلى إحدى الوسائل المطلوبة لتجاوز النقص الكبير الموجود في المصادر والحوليات العربية، وهي المقاربات المنهجية التي تضع الباحث بين التقديرات الرقمية الأكثر مغامرة المحدِّدة للسقف الأقصى أو الحد الأدنى للساكنة الحضرية، والنظريات الأكثر كيفية المتلائمة مع المصادر والمؤسِّسة لرؤى تاريخية متعلقة بالمجتمعات الإسلامية في ارتباطها بالمعطيات السياسية والاقتصادية وبالنسيج الحضري وبنية السكان وحركاتهم. بيد أنه ينبغي، وفقًا للباحث، أن يوازيَ الحرصَ على المتابعة النقدية والحذرة لهذه المحاولات لتجنب التبسيط التعسفي تأسيسٌ معرفي يربط بين النماذج المستوحاة من التقديرات الرقمية والدراسات السكانية بالتاريخ السياسي، وتاريخ الذهنيات المرتبطة بوتيرة تجدد الأجيال، وبالأسر والسلوكات الاجتماعية.