منطق الطّير لفرقة أنيكايا في “رام الله للرقص المعاصر”

من عرض فرقة أنيكايا في رام الله

نور حطيط

كاتبة من لبنان

مع "مؤتمر الطيور"، تتخلّق مشاهد فيزيقية ذات بعدٍ تأويليّ، تصحبنا في رحلات ذاكرة عبر مراكب البحار واليابسة على السواء، لتضعنا في مواجهة حتمية مع الشتات أو الموت، ولما كانت الطيور الآدمية ترقص رقصتها على المسرح، كانت الأجساد تمتلك تحت الأضواء وعاءها الخاص والفريد، لنسج حكايات العبور والتيه الذي يُذِيب ويُشتِّت، لكنه يعجز –في الوقت عينه - عن اختزال المعاناة والألم.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

27/06/2023

تصوير: اسماء الغول

نور حطيط

كاتبة من لبنان

نور حطيط

مقيمة في استنبول. درست العلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية. شغلت في عدد من المجلات الورقية والإلكترونية. مهتمة في الشأن التكنولوجي، الثقافي والاجتماعي.

“مؤتمر الطيور”

“مؤتمر الطيور مستوحى من قصيدة القرن الثاني عشر للشاعر الفارسي فريد الدين العطار. في قصيدة عطار، انطلقت طيور العالم بحثاً عن الطائر الأسطوري. تتخلى العديد من الطيور عن أعشاشها، وعندما تصل إلى أرض التنين الأخضر، تجد فقط مرآة تنعكس فيها، وتصبح هي نفسها التّنين الأخضر. تصبح القصيدة إطاراً للروايات التي تم جمعها من المهاجرين المعاصرين، وترمز إلى الرحلة التي نخوضها معًا.”
 

يمكن القول إن تكون هذه الملحمة التي ألّفها الشّاعر الفارسيّ فريد الدّين العطّار النيسابوري، محلّ تجسيدٍ للراقصين  في قصر رام الله الثقافيّ. ويمكن كذلك القول إنَّ هذه الملحمة قد تخطّت حدود الجغرافيا لتصل إلى “فرقة أنيكايا” متعددة الجنسيات، وقبل ذلك إلى المسرحيّ الفرنسيّ “جون كلود كاريار”، وبيتر بروك المخرج البريطانيّ الشهير، ونوفل عزارة المخرج التونسيّ في عرضه “منطق الطير”.

يقول أحد المستشرقين الألمان إنَّ العطّار استخدم تأويلًا شعرياً خيالياً، لتتوافق خصائصه مع لغة الكائنات التي لا تمتلك لغة الإنسان، كذلك الأمر لدى فرقة أنيكايا، التي استخدمت الرقص المُعاصر لتنقل ما أسمته بـ “مؤتمر الطيور”. ذلك أنّه –أي الرقص- يلامس الجانب الغريزيّ من الكائن الحيّ، ويخلق فنًّا بعيدا كلّ البُعد عن مدينة الكلمات إذا ما استعرنا العبارة من الكاتب الأرجنتينيّ ألبرتو مانغويل. نحنُ في هذا العرض لفرقة “أنيكايا” إزاء نسج “لمؤتمر” بالجسد والذاكرة معًا، وهذا هو  جوهر عنوان مهرجان رام الله لهذا العام للرقص المعاصر.. “فللجسد ألف قصة وقصّة.”

قافلة الدموع

عُرفت الهجرة القسرية لقبائل “الشيروكي” CHEROKEE التي كانت قد انطلقت من جورجيا إلى أوكلاهوما في عام 1838، باسم “قافلة الدموع”. وأشيرَ إلى الهجرات القسرية التي لاحقها الجوع والوحشية إبّان الهولوكوست باسم “مسيرات الموت”، ويطلق الألمان في الوقت الحاضر على محطة قطار فريديرك شتراسه في برلين اسم “قصر الدموع”، حيثُ يلتقي الشرق بالغرب. ورافقت هذه الرحلات القسرية حكايات عاطفية وجدانية لا يمكن الانفلات من رمزيتها.
وإذا ما استعنا بالإنثروبولوجيا التأويلية، يمكننا فهم الأجزاء الصغيرة من حياة “الهجرة” التي قامت فرقة أنيكايا بتجسيدها على المسرح، خاصّة وأنَّ “أنيكايا” استعانت بقصة الشاعر الصوفيّ فريد الدين العطّار للكشف عن تعقيدات تجارب الهجرات القسرية  التي يعتبرها البعض بأنها مشكلة العصر.

تدور قصة الشاعر الفارسيّ حول موضوع “الانتقال والحركة”، فرحلة “منطق الطير” هي رحلة جماعية، تنتقل فيها الطيور للوصول إلى آلهتها المنشودة “السيمرغ”. وتواجه الطيور صعوبات شتّى وعقبات أثناء رحلتها. كذلك  الأمر، في ملحمة “طيور فرقة أنيكايا” التي تنتقل من مكانها إلى اللامكان، من البيت إلى اللابيت. هذا المشهد، يعود بنا، إلى باشلار الذي أطلق على بودلير صفة “الحالم بالستائر” لاعتقاده أنَّ خلف الستائر الداكنة يبدو الثلج أكثر بياضًا، أكثر صقيعًا، ورعبا. إذ وظيفة الانتقال والحركة لدى طيور فرقة أنيكايا، تؤسس لسردية تقوم على المخيال السياسي، كونها تجسدّ هجر الجغرافيا القديمة الدافئة والآمنة بحثًا عن العودة أو الذات؛ ليصبح الآخر- أي الطيور- ضدّاً، كما هو الحال مع السكان الأصليين الفلسطينيين، فإذا بلسان العالم يقول:”أنا أعرف، غير أنني لا أريد أن أعرف بأنني أعرف، فلا أعرف إذًا.”وهذه العبارة أوردها الفيلسوف سلافوي جيجك في كتابه المعروف “العنف: تأملات في وجوهه الستة”، ليصف التزييف وإخفاء الواقع.
 

من عرض فرقة أنيكايا في رام الله

التيه مجسداً برقصة

مع “مؤتمر الطيور”، تتخلّق مشاهد فيزيقية ذات بعدٍ تأويليّ، تصحبنا في رحلات ذاكرة عبر مراكب البحار واليابسة على السواء، لتضعنا في مواجهة حتمية مع الشتات أو الموت، ولما كانت الطيور الآدمية ترقص رقصتها على المسرح، كانت الأجساد تمتلك تحت الأضواء وعاءها الخاص والفريد، لنسج حكايات العبور والتيه الذي يُذِيب ويُشتِّت، لكنه يعجز –في الوقت عينه – عن اختزال المعاناة والألم. وإذا ما عدنا إلى “الترانسفير”الفلسطينيّ، فالجسد عايش فجيعته الخاصة، ودمّاه العنف الكولونياليّ الموجه نحوه، بعدما نقش الإسرائيليّ على جسد الفلسطينيّ نقشته الاستعمارية؛ بغرض محوه وسلب هويته، لنكون إزاء تجربة جديدة مع الألم. وبالعودة –أيضا- إلى الهجرات القسرية التي نتجت عن حروب منطقتنا العربية، وسلسلة النزاعات التي لا تنتهي، فالذات متشظية والجسدّ مدمّى بفعل نشاطٍ استعماريّ دائم، والتيه يتخلّق من تداخل هذين الفعلين معا.

يقول الباحث الإنثروبولجي “دايفد لو بروتون”: إنَّ الاختبار التي  تمر به القبائل الهندوأمريكية يعبّر عن رابطة اجتماعية قوية، إذ يسعى إلى خلق عشيرة قدرية من خلال التذكير، عبر زمن الحكايات بالآلام والعواطف المشتركة”. ويشير لو بروتون هنا إلى قيام بعض أفراد القبائل الهندوأمريكية، بطقس يظهر وكأنه فعل غريب، وهو النظر صوب الشمس في أثناء تعلّق أفراد القبيلة بأغصان الأشجار، عبر حبالٍ يربطوها بإتقان حول صدورهم، فلا تُفك الحبال سوى مع هبوط الليل إمّا بمساعدة الأصدقاء، أو بالوسائل الذاتية. وإذا بحثنا في معنى الألم هنا، نراه يخلق لأفراد العشيرة بُعدًا حادًّا للذاكرة. كذلك في العرض الراقص على خشبات رام الله، استطاعت الطيور الآدمية صياغة هذه الروابط مسحوبة بآلامها وعذاباتها، عبر إيماءاتها الخاصّة وحركة أجسادها الهائمة في رحلة التيه والعبور إلى أرض الخوف من الآخر “المضاد لها”.

ويعود الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا ليذكّرنا، في محاضرته “عن الضيافة” التي عُقدت في عام 1996، إلى حوار أفلاطون في “السفسطائيّ”، الذي يسرد فيه لقاءً جمعَ سقراط بزائرٍ من مدينة إليا الواقعة في جنوب إيطاليا. إذ عبّر سقراط -وقتها- عن غبطةٍ أصابته، فرحًا باستقبال هذا الغريب ورغبة في سماعه والإنصات لثقافته. ويقول لنا دريدا إنَّ معنى الغريب في اليونانية كانت “زينو”، ومنها أٌشتقت كلمة “زينوفوبيا” وصارت تستعمل في الوقت الحاضر للدلالة على الخوف من الآخر، المهاجر، اللاجئ والعابر. 

موسم العودة إلى الذات

في حكاية “منطق الطير” للصوفيّ الفارسيّ فريد الدين العطار، تطرق الطيور الباب فور وصولها إلى “قاف”، الجبل الأسطوريّ لملاقاة آلهتها، وحينَ يُفتح أمامها الباب الموصود بعد إصرارٍ منها، تنهار من هول المشهد، فلا تعثر على “السيمورغ” بل على نفسها، في المرآة. وكذلك الأمر في المشهد الأخير من “مؤتمر الطيور”،  فالطيور التي واصلت سيرها، لم تجد تنينها الأخضر، بل ذاتها أصبحت هي نفسها التنين الأخضر. لماذا “التنين” في رقصة مؤتمر الطيور؟ ربما لأنَّ التنين في الأساطير الشرقية القديمة كان رمزًا للقوة التي لا حدود لها. 

ونظمت سرية رام الله الأولى، في الفترة الواقعة ما بين 15 و22 حزيران، الدورة السابعة عشرة لمهرجان رام الله للرقص المعاصر، ويأتي هذا التنظيم بالتزامن مع إحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية، حيثُ شاركَت حوالي 15 فرقة وفنانا  من بينهم خمس فرق أجنبية  تبنت إحداها رقصة مؤتمر الطيور. وافتتح المهرجان مع “حلم لوسيد” لفرقة “مازيل فريتن” الفرنسية، واختتم بنجاح مع فرقة E الأمريكية وفرقة سرية رام الله الأولى الفلسطينية بعمل مشترك تحت عنوان: أرى/لا أرى. ويأتي هذا المهرجان الذي استضاف نخبة من مصممي الرقص المعاصر، والفرق الدولية والعربية والفلسطينية، ليؤكد أهمية الفنّ الذي يخلق “فضاءً تشاركيا عموميًا”، وكما يقول أنطونيو نيغري، الفيلسوف المعروف: الفنّ لا يبلغ مقام الجمال، إلّا إذا كانَ قادرًا على اختراع المشترك.
 

من عرض فرقة أنيكايا في رام الله
الكاتب: نور حطيط

هوامش

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع