“في اليابان يسمّون الأجنّة المجهَضين: ميزوكو، أي أطفال الماء..”
من مذكرات آني إرنو
في مقابلة لها مع إحدى الصحف الفرنسية تقول آني إرنو: “أنا لا أقوم ببناء شخصية خيالية، إنما أفكّك الفتاة التي كنتُ عليها”. وآني أرنو هذه، كاتبة فرنسية حازت على جائزة نوبل للآداب لعام 2022. ويأتي حدث التتويج بنوبل عادةً؛ ليولّد أو يُعيد إحياء موضوعات خاضعة دائمًا في الزمن للتقلّبات ولآراء العامّة المهتمين بفضاء الأدب عمومًا وبما يقدمه خصوصًا.
ومجاراةً لسؤال الترند الدائم “من الفائز بعوالم الأدب وجوائزه؟” دأبتُ على قراءة أعمال آني إرنو، وما افتعلته كتاباتها من إشكالية حول تصنيف الأعمال التي تقوم عليها. وعليه، فإنَّ إرنو في العديد من مقابلاتها وأحاديثها رفضت أن تتموضع رواياتها حول الــ Autofiction، معلنةً أنها ليست أسيرة للكتابة الروائية التخيلية كما وصفها النقّاد والمهتمين بقضاياها التي طرحتها في رواياتها. إنمّا باعتقادي كقارئة لا تحبذّ الخوض في التصنيفات التي تقتل النصّ المفتوح. أرادت إرنو في كلّ عمل لها أن تحيي ذاكرة التذكر، تلك المجبولة بالنسيان أيضًا، والتي تعود بالنفع على الذاكرة الحاضرة في التوسع، لتكون لصيقة الظواهر العامّة والقضايا المجتمعية: الــ نحنُ، الذات، الهوية. ذلكَ أنَّ إرنو ترفض أن تكون ذاكرة تذكُّر ذاتها، ووفقا لأيديولوجيتها يستوجب القول أنَّ تلك الأنا- أنا آني إرنو، تخصّ كلّ أنا المرأة، المهاجرة، اللاجئة، الفقيرة، الملونة والعابرة..
وفي الغالب، عنونت الكاتبة الفرنسية إرنو سيرتها الذاتية بـ “الحدث”، L’Événement باللغة الفرنسية، لأنَّ الأحداث تندرج عادةً في سجل المآسي والآلام، تُتوجها الذاكرة القوية وكأنها ضرب من إناء الدموع التي لا يمكن تخطّيها، على حدّ تعبير أحد الكتّاب.
الجسد المُهان والبرجوازية الكاثوليكية الفرنسية
كتبتُ في المفكّرة: “هذا”، “هذا الشيء” ثمَّ كتبتُ مرّة واحدة فقط كلمة “حامل”، تستعمل إرنو في مذكراتها الشخصية عبارات من هذا القبيل. إذ إنها تستعيد لحظة خضوعها لعملية إجهاض غير شرعية في فرنسا عام 1964، حينَ كان النصّ القانونيّ “يعاقب بالسجن وبغرامة مالية – الفاعل في عمليات الإجهاض، الأطباء والقابلات والصيادلة المتواطئين، المحرضين على عملية الإجهاض، وكلّ من يبيع موانع الحمل.”
تسردُ إرنو هذا “الحدث”، دون الخوض في زيف الديمقراطيات التي بدت كأنها تتصادم مع المقدّس، لتكتشف، الطالبة الجامعية المنهمكة في إنجاز رسالتها، أنَّ هذه القوانين، هذه الدولة قد أُعيد بنائها بالسيطرة على الأجساد، في اللحظة التي خضعت الذوات الفرنسية للكهنوت، وانحسر الإنتاج الإنجابي من خلال الوظيفة الأهم وهي التناسل.
ومن المعروف أنَّ إرنو تنحدر من أصول ريفية لعائلة فقيرة، كاثوليكية محافظة، لم تسعفها مكانتها الاجتماعية على حدّ قولها من الخوض بهذه التجربة دون أن تشعر بأنَّ هذه الذكرى “هي ذكرى العار العظيمة” التي آلمتها طوال السنين الجارية. ومن اللافت أنَّ إرنو وعلى غرار العديدين، أثارت في روايتها الحدث تساؤلات مؤشكلة حول “الإجهاض” فهل هو ممنوعا لأنه شرًا أو إذا كان شرًا لأنه ممنوع؟
في تشييء “الحمل”
في كتابها “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها”، تطرح الكاتبة النسوية المصرية إيمان مرسال، وجهة نظرها حول مفهوم الأمومة، التي تحملّهُ الإتيقا المتماهية مع الخطابات الدينية، والقيم الاجتماعية المرتكزة على جوهر الذكورية والبطريركية أبعادا موسومة بالإيثار والتضحية، كون الأمومة فطرة إنسانية بالنسبة للثقافة المجتمعية لا يمكن الخوض في دهاليزها.
هذه المثالية بالنظر إلى الأمومة، جعلت آني إرنو تخوض شعور الرعب والخوف بنفسها، والعار أمامَ أصدقائها الذين خذلوها، و أمام الأطبّاء البرجوازيين المتماهين مع المنظومة الحاكمة، فإرنو لم تنسَ شكل عياداتهم الشبيهة بالصالونات البرجوازية، ومكاتبهم الراقية، بالإضافة إلى المكتبات ذات الواجهة البلورية والتي أصابتها بالدهشة، رغم كونها متعبة ومنهمكة في معرفة ما إذا كان سبب انقطاع دورتها الشهرية هو الحمل أم لا.
تقول إرنو أن الحمل في اللاتينية يعني الثقل، الثقل الذي تريد أن تتخلص منه بكل الطرق المتاحة، كأنَّ “هذا الشيء” مفصول عن جسدها، وعلى غرار ما أوردته إيمان مرسال في كتابها فإنّ إرنو رفضت أن تكون “بيضة يشرخها المولود في طريقه إلى حياته”. وفي ظلّ تنامي البرجوازيات الفرنسية والتحامها مع الكاثوليكية التي تحرّم الإجهاض بمختلف أنواعه، واجهت إرنو مصير إجهاضها بنفسها حين عثرت على “قابلة”، أطلقت عليها تسمية السيدة “ب.ر” في باريس، وطلبت منها المجيء يوم الأربعاء، اليوم الوحيد الذي كان بوسعها جلب المنظار من المستشفى التي تعمل فيها. تقول إرنو ” كانت تتحكم في كلّ شيء بحزم- كانت متحفظة، لا ترفع الكلفة وصامتة، لا تطرح أي سؤال- بل تذهب مباشرة نحو الهدف الأساسي. كانت السيدة ب.ر تعرف بفضل خبرتها وتجاربها، معرفة أكيدة أنَّ الحديث يقتصر على التفاصيل العملية يمنع الدموع والبوح الذي يضيّع الوقت أو يدفع إلى تغيير الرأي.”
وفي مجاز شديد الدلالة تصف إرنو السيدة ب.ر التي أدخلت المسبار في باطنها، أنها كانت تلِدها:”لقد قتلتُ والدتي في داخلي في تلك اللحظة.”
“الأختية”: مصطلح لم يكن
تُشير إرنو في مذكراتها إلى مواقف نسائية لا يمكن وضعها إلّا في قالب “الأختية”، المصطلح الذي ظهر في قواميس القرن السادس عشر والذي كان يشير إلى “جماعة نسائية دينية، تجمع أعضائها روابط قوية، لا رئيسة فيها ولا مرؤوسة، فقط أختية صافية”. وعلى الرغم من هجره في العصور التالية، إلّا أنَّ إرنو أخذتنا في مذكرتها، إلى أبعد من المصطلح، ذهبت بنا إلى اللاوعي النسوي الذي يستحضر الفعل قبل أن يقولبه، يتم فهمه، أو يتم وضعه في تعريف.
إنها الأختية التي ظهرت حين تعرضت إرنو إلى نزيف دموي بفعل إجهاض “الشيء” في حيّها الجامعي، ونُقلت على إثره إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية مستعجلة. تعتقد إرنو أنَّ الكلمات الوحيدة التي عزتها في محنتها هذه، كانت من الممرضة ذات الشعر الرمادي، وهي تلمّح إلى عمليتها قالت لها: أنتِ أفضل حالًا الآن. اعتبرت الكاتبة أنَّ هذه الكلمات نالتها بفعل” تواطؤ نسائيّ، لا بسبب منح الناس البسطاء الحق للناس السامين في أن يضعوا أنفسهم فوق القانون.”
تقول Chloé Delaume ، النسوية الفرنسية: إنّها (الأختيّة) خارج الدين المسيحي، وخارج الهيكل الأسري، وكل هيمنة ذكورية. هي علاقة أفقية، بلا تراتبية ولا قانون أقدمية. إنها حالة من الأختيّة الحقيقية. علاقة امرأةٍ بامرأة، تتسم بالاستمرار والتعاضد. علاقة امرأة بامرأة، لا ابنة وأم. إنها علاقة مساواة.
هل أنا عاهرة؟
“كانت الفتيات مثلي يفسدنَ يوم الأطباء.” تلمّح إرنو في مذكراتها إلى الأبوية الطبيّة التي كانت سائدة آنذاك، المرتبطة بمصالح الكاثوليكية المسيطرة. إذ إنَّ التحكم في أجساد النساء، كان عنوانا لإضفاء الطابع الديني الكاثوليكي واللصيق بالطبقة الأكثر تماهيا وسيطرة: الطبقة البرجوازية. تشعر إرنو في كل مرة تدخل فيها إلى عيادة طبية، بنظرات الطبيب وتلبّكه وانزعاجه، فلم يكتفِ الأطباء الذين لجأت إليهم، بإمدادها في هذه المشاعر، بل كانوا يمدّونها بالحبوب التي تثبّت الحمل وتحافظ على الجنين، كاشفة أنَّ الموضوعية التي قد تكون موجودة في الطبّ، ليست سوى انحياز للأبوية المسيطرة.
تذكر كلّ من الكاتبتين ريف الأمين وسارة أبو زكي في مقالة “العيادة: أربع قصص مستوحاة من أحداث حقيقية”، في القصة الثالثة: أنّه حين قررَ زوج امرأة (لم تذكر اسمها)، إنجاب طفل ثالث منها، قال لأولادها دون سابق إنذار: أخبرا أمكما بأنكما تريدان أختاً أو أخاً. بينت كلا الكاتبتين في القصة، مدى الصعوبة والضيق الذي رافق المرأة- حين جهدت في إخفاء اكتئابها عن أطفالها، زوجها وعائلتها. فهي لم ترد الطفل، ولم تكن شريرة في ذات الوقت!
إنَّ العنف والإحباط والغضب التي شعرت به هذه المرأة، لازمَ إرنو طوال فترة حملها، تلك الفترة التي أيقنت فيها آني أنَّ إنجاب طفل الآن هو بمثابة إطفاء آخر شعلة لمستقبلها، الدراسيّ، الجامعيّ، ولأحلامها. وبينت إرنو أنَّ النساء إضافة إلى أنهّنَّ خاضعات للقيم المجتمعية التي حددتها السلطات في ستينيات القرن المنصرم، أيضًا تم التعامل معهنَّ بحسب مكانتهنَّ الاجتماعية والثقافية. تُعاتبها الممرضة في المستشفى وتقول: لماذا لم تقولي للطبيب، في الليلة الماضية (أي الليلة التي أجرت فيها إرنو العملية على إثر النزيف) أنّك مثله؟ حينها علمت إرنو لِمَ عاملها الطبيب بهذا العنف أثناء دخولها إلى المستشفى، ولِمَ أحاطَ به الخجل عندما علم أنها طالبة من كلية الآداب بعد انتهائه من عمله.
إتيقا الإجهاض: في السؤال عن العدالة الإنجابية
يورد إخصائي الجراحة النّسائية فيصل القاق في إحدى مقالاته، أنَّ في قرية الأوبانغ الواقعة في جنوب نيجيريا والتي تنتمي إلى المجتمعات الزراعية، يقسّم شعبها، جسد المرأة عند زواجها إلى قسمين: القسم الأول وهو القسم السفلي تعود ملكيته إلى أهل زوجها، أمّا القسم العلوي الذي يشكلّ حياتها الأخرى تعود ملكيته إلى أهلها. ليحدد المجتمع، توقيت حمل المرأة وجنس المولود وتواتره دون الإكتراث إلى ما تريده وما تنوي إليه.
إنَّ إسقاط هذه الخرافة التي يعتقد بها شعب الأوبانغ على ما مرّت بهِ آني إرنو، ونساء آخريات من المعاناة في خوضهنَّ للإجهاض غير القانوني، أو إبقاء الحمل بسبب الضغط المجتمعي يعود بنا للتساؤل عن: العدالة الإنجابية وعن الإتيقا التي تدور حول فكرة الإبقاء على الطفل، أو اللجوء إلى الإجهاض.
وعلى الرغم، من قيام فرنسا بتشريع قانون الإجهاض في عام 1975، إلّا أنَّ نساء كثيرات من عوالم مختلفة لا يزلن يعانين من بطش القوانين التي تبيح التحكم في أجسادهنَّ، وقدراتهنَّ، ذلك أنَّه على مرّ التاريخ لم يكن هذا الجسد-أي جسد المرأة- سوى فضاء سياسي، تُمارس عليه سجالات لا تنتهي.
وتأتي مذكرات آني إرنو “الحدث” في ظلّ التداعيات السلبية لإلغاء قوانين الحقّ في الإجهاض بالتواطؤ مع الكنيسة الكاثوليكية واليمين المتطرف في العالم، كإحياء لآلام الفتيات اللواتي لا يرغبنَ سوى بالعدالة.