وفقًا للباحثة النسوية الفرنسية فرانسواز فيرجيس، تتمتع النسويات البيض، بامتياز من قبل النظام الرأسمالي والعنصري، ورغم إدراكهنَّ للسياسات التي مورست في الجنوب في الماضي والحاضر، فإنَّ النسوية البرجوازية البيضاء أو كما تسميها فرانسواز فيرجيس بـ “الحضارية” féminisme civilisationnel تربط تضامنها مع النساء القابعات تحت الاستعمار الذي تميزه فيرجيس (محدد بالزمان والمكان)، عن الحركة الاستعمارية (المرتبطة أكثر بالاحتلال الثقافيّ والاجتماعي)، بالعمل ضد التمييز على أساس الجنس، والسماح بحصول النساء على نفس امتيازات الرجل مع تجنب التشكيك بالهياكل التي سمحت بهذه السياسات، كما أنّها لا تتطرق إلى الاضطهاد الطبقي والعنصري الذي يرافق هذا النظام السائد.
تختار النسوية الحضارية البيضاء، تجاهل تراثها الاستعماريّ، إذ تعلّق فرانسواز فيرجيس بالقول: “النسوية الحضارية حركة تتجاهل، بل وتنكر بياضها، لأنها بُنينت في قارة أوروبا حيثُ يُنظر إلى البياض ويُفرض على أنّه قاعدة محايدة وعالمية، لذلك لا يمكن أن تكون هناك نسوية بيضاء (حيثُ لا توجد نساء بيض) ولكن هناك نسوية عالمية.”
لذلك تسعى النسوية الحضارية لاستقطاب نساء العالم الثالث إلى طبقتها المهيمنة، وأيديولوجيتها الرأسمالية والنيوليبرالية، خاصّة وأنَّ النسوية البيضاء، تخاف العودة إلى تاريخها وحاضرها الاستعماريّ.
النسوية الاستعمارية البيضاء داخل “إسرائيل”
شاركت “النسويات الإسرائيليات” في حركة MeToo#، #أنا-أيضًا، #أنا-كمان، باللغة العربية، في عام 2017، لإدانة الاعتداءات الجنسية، وذلك على خلفية فضيحة منتج الأفلام هارفي واينستين. وواجهت هذه الحركة انتقادات جمّة، من بينها ما أدلى به الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك الذي اعتقد أنَّ هذه الحركة كانت حريصة على عدم “تعكير صفو الاستغلال الأعمق” التي تسببه الرأسمالية الحديثة. ربما لأنّ هذا ما تفضله الطبقى الوسطى الليبرالية الغربية، وأيضًا البرجوازية منها.
وانطلاقًا من وجهة نظر جيجك، يُسهل علينا فهم مدى الارتباط بين “النسويات الإسرائيليات” و”الحضاريات” منهنَّ، خاصّة مع بروز ما يُعرف بنسويات الأشكناز اللاتي سعين إلى تفريغ مضمون النسوية من نضالاتها ضد الاستعمار. ذلك لأنَّ الأخيرة تشكلت مع السلطة الاستعمارية القائمة، ومثلّت هذه الفئة، النسوية البيضاء التي لا تزال تستخدم مفاهيم كـ “التمكين”، و”السلام” التي تقوض جميع أشكال الاضطهاد والنضالات.
ومنذُ السبعينيات، سعت “النسويات الأشكنازيات” و”النسويات المزراحيات” داخل إسرائيل، إلى تبني الأختية، (وكما هو معروف فإنَّ “إخاء النساء” ظهرَ في منتصف القرن الثالث عشر،) وسعت إلى توحيد الشعارات بما يتناسب والراديكالية الليبرالية. لكن ذلك لم يدم طويلًا، فالعنصرية والطبقية طفت فوق السطح، إذ إنَّ “المزراحيات” يُعرفن بأنهنَّ “شرقيات”، أيّ عند قيام الاحتلال الإسرائيليّ، أتت هذه الفئة من الشرق الأوسط والدول العربية واستقرت داخل إسرائيل، أمّا الأشكنازيات فأتينَ من الدول الغربية. وبالتالي تعرّت الانقسامات الطبقية والتمييز العرقي، والقضايا الخاصّة بالعنصرية وحالت دون توحيد “النسويات الإسرائيليات”.
وناضلت النسوية الشرقية الإسرائيلية من أجل التعبير عن العلاقات غير المتكافئة بينها وبين النسوية الأشكنازية التي انتمت إلى الطبقة الوسطى العليا، عدا عن انتماءها إلى عائلات ذات نفوذ سياسيّ، وثقافيّ وعسكري أيضًا. ونقلت الأشكنازيات أعباء الرعاية الأسرية، إلى النساء المهاجرات كالأثيوبيات أو المزراحيات، والفلسطينيات اللواتي لا يستطعنَ الاعتراض نظرًا لسياج سوق العمل، خاصّة وأنهنَّ تنتمينَ إلى الطبقة الدنيا. واتسمت هذه الأعمال بالأجر المنخفض والتجريد من كافّة أنواع الحماية القانونية. ولا تزال الأشكنازيات تؤمنّ بالتقسيم الكلاسيكي للعمل بين الجنسين، حيثُ لا يتقاسم الشريكين الأعمال المنزلية وهذا ما أدى إلى وضع المهمشات في الحيز الخاصّ -أي المنزل، ذاك المصنع الصغير- تحت رحمة الأشكنازيات.
ورغم مطالبة النسويات “المزراحيات” بسياسات جديدة لمعالجة العنصرية والطبقية والتمييز العرقي، وقيامها لأول مؤتمر نسوي مزراحي في “Natanya”، المدينة الإسرائيلية التي بنيت على أراضي قرية أم خالد الفلسطينية وقيامها بمشروع “عام النساء العاملات”، حيثُ ركزن على وضع النساء الإسرائيليات والفلسطينيات العاملات داخل المصانع الإسرائيلية، إلّا أنَّ الأخيرة لم تتطرق إلى تاريخ الاستعمار الذي نشأت عليه، ولا إلى الصراع. وكأنها تعيد كتابة التاريخ عن طريق “التهدئة”، إذا ما استعرنا المصطلح من فرنسواز فيرجيس، للتعبير عن عزل القضايا السياسية العميقة، والطبيعة الهيكلية الاستعمارية لإسرائيل. وهذا ما يظهر جلياً في خلافاتها الرئيسية مع النسويات الأشكناز حول الشّق العسكري، إذ إنَّ المرزاحيات تعترضنَ على سياسات الأشكنازيات في الانخراط بالأعمال العسكرية بدل الترويج للسلام، وفي الوقت عينه تنتقد نسويات مزراحي، الأشكنازيات بسبب سيطرتهنَّ الأكبر داخل القوات العسكرية وداخل السلطة القانونية المتعلقة بالسلك العسكري، عكس المهمشات من الطبقة الدنيا.
فهل المزراحية أيضًا نسوية بيضاء؟ وكيف تعاملت مع القضية الفلسطينية والنساء الفلسطينيات؟
لا ترى النسويات الشرقيات ضرورة الخوض في مسألة “مصادرة الأراضي الفلسطينية”، وكثيرات منهنَّ لا ينتقدنَ هذه السياسات بل يدافعن عنها، بحجة أنَّ المزراحيين ليسوا المسؤولين الوحيدين عن الاستيطان. فعودة إلى الوراء، تحديدًا إلى تاريخ نشأة إسرائيل الاستعمارية، شجعت حكومات الحزب العمالي اليساري الإسرائيليّ استيطان المزراحيين، وانتهزت وضعهم الاقتصادي، ومشكلة الإسكان داخل الخط الأخضر؛ بهدف توسيع كيان الاستيطان.
وانحدرت الكثير من النسويات الشرقيات من هذه العائلات، ما يوضح تجنبّهنَّ الخوض في مسألة “بناء المستوطنات”، خاصّة أنَّ “النسوية المزراحية” وعلى الرغم من اضطهاد الأشكناز لها، إلّا أنَّ نضالاتها في الحقول المختلفة كنضال النسوية البيضاء، التي تعيد تمثيل الرسالة الحضارية للاستعمار إذا ما استعرنا العبارة من الباحثة النسوية فرانسواز فيرجيس.
ولا يختلف الاستعمار الاستغلالي عن الاستعمار الاستيطانيّ، فكلاهما يركزَّ على مصادرة الأراضي وتكييف المُستعمرين بعدَ تجريدهم من حقوقهم كافّة بطرق عديدة كإعادة إدماجهم وضبطهم بما يتماهى مع خطاب المُستعمر وخطابه “الأبيض”. وقد أعادت إسرائيل بناء هيكلية القوى العاملة الفلسطينية، فخفّضت وقوضت عمل النساء اللواتي كنَّ يعملنَ بالزراعة (قبل الاستعمار الإسرائيليّ) فيما دمجت العمال الفلسطينيين “الرجال” المعيلين للأسر الفلسطينية بحسب ما هو شائع في سوق العمل.
ولا تتطرق النسويات الشرقيات للسياسات الإسرائيلية التي تتماهى مع سياسات الرجل الأبيض في أفريقيا وفي مستعمراته، التي تقوم على تدمير الأراضي واعتقال المزارعات والفلاحات الفلسطينيات أو قصف أراضيهنَّ أو سلبهنَّ تحت حجج عادة ما تستخدمها إسرائيل لتبرير أفعالها. نذكر مثال ما حصل في 15 يونيو من العام 2022، حينَ قامت بلدية إسرائيل بمهاجمة الفلاحات الفلسطينيات اللواتي كنَّ يبعنَ محصولاتهنَّ عند بوابة باب العامود في القدس، وإتلاف بضاعتهن ومصادرتهنَّ. وما يحصل في قطاع غزة، حيثُ عمليات إطلاق النار، والتوغل الإسرائيلي الذي يعيق وصول الفلاحات لأراضيهن ناهيك عن الحصار الدائم، وقتل النساء، في الأراضي الزراعية والتنكيل بهنَّ أو التحرّش فيهنَّ. هذه الأيديولوجية المعادية للنساء التي تتبعها إسرائيل خاصّة مع النساء الفلسطينيات لها عواقب وخيمة على المجتمع المُستعمَر، لا سيما وأنَّ إسرائيل دولة تتنبى النظام الرأسماليّ، ما يعني زيادة في مطاردة النساء، وتصعيد عنف الذكور ضدهنَّ، وهذا ما يظهر جليًا في قطاع غزة. إذ إنَّ نظام التصاريح مثلًا التي تعمل به إسرائيل، لم يقتصر على تقييد حصول الفلسطينيات/يين على الرعاية الطبية، بل قيّد حركة النساء، خاصّة ضحايا العنف الأسري الهاربات من بيوتهنَّ، وهنا لا بدّ من ذكر ما حصل مع وسام الطويل وأختها فاطمة الطويل، اللواتي أُعيدتا إلى منزل ذويهم المُعنّف ولم نسمع عنهنَّ أي خبرٍ قطّ، بعدَ محاولتهما الهرب خارج قطاع غزة المحاصر.
كذلك النساء اللواتي تعشنَ في القدس، فقد تفقدنَ “تصاريح الإقامة” المؤقتة إذا قرّر الزوج الزواج مرة ثانية، أو الطلاق وبالتالي يُنزع منهنَّ أطفالهنَّ حاملي الإقامة. إضافة إلى تخوّف النساء، ضحايا العنف الأسري، من التوجه إلى مراكز الشرطة الإسرائيلية للتشكيّ، ذلك بسبب خشيتهنَّ من فقدان حضانة أولادهنَّ، إذ ما نُقلنَ قسرًا خارج مدينة القدس.
لا يمكن للأختية أن تسود في ظلّ كيان مُستعمر
ابتكرت المزراحيات في أوائل القرن الحادي والعشرين مسارًا جديدًا، ربطت فيه الفئات الأكثر تهميشًا داخل المجتمع الإسرائيلي ببعضهم البعض. وقد عُرف هذا المسار باسم :”النسوية المُلونة”، وناضلت هذه الفئات جنبًا إلى جنب من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإسكانية في جنوب مدينة تل أبيب، خاصّة مع ازدياد سياسة الإخلاء القسري التي تقوم به إسرائيل، بحقّ السكان المزراحيين واللاجئين والمهاجرين الأفارقة، كذلك الفلسطينيين. إذ إنَّ المزراحيات تعاونت مع الأمهات العازبات الفلسطينيات في حيفا اللاواتي تضررنَ من السياسات الإسرائيلية التي تسعى لبناء مبانٍ سكنية حديثة. والتقت هذه الفئات فيما بينها، بعد أن عانت من المشاكل عينها المُتعلقة بسياسة الإفقار والتمييز والاضطهاد المكاني.
لكن في المقابل، لم تعترضْ النسويات المزراحيات على السياسات الإسرائيلية فيما يخصّ طرد السكان الفلسطينيين/ات من أراضيهم/نّ، وبناء المستوطنات عليها. كذلك لم تتطرّق إطلاقًا، إلى تاريخ إسرائيل القائم على سرقة وتسميم الأراضي الزراعية الفلسطينية بمواد كيميائية سامّة قاتلة للحيوانات وللمزارعين/ات، بهدف طرد السكان الأصليين منها، أو إلى تاريخها الاستعماري.
وعلى الرغم من تبني النسويات الأشكنازيات، “سياسة السلام” مع الشرق الأوسط، أي على الطريقة “الأنجي أوزية” إن صحّ القول، إلّا أنَّه لا يمكن التغاضي عن عملهنَ داخل مؤسسات “الدولة” الإسرائيلية، ونضالهنَّ مع الرجل المُستعمِر من أجل بناء مجتمع استعماري قائم على أسس العنصرية والإلغاء ضد السكان الفلسطينيين/ات الأصليين، واحتلالهن للمساكن المهجورة في القدس كمثال خدمة للهيمنة الأشكنازية، إذ تحت حجة “حق الإسكان” تتواطأ لقمع النساء والرجال الفلسطينيين.
تتشابه “نسويات إسرائيل”، مع النسويات الأوروبيات البيض أو الحضاريات، فكلاهنّ يرفض التعامل مع قضايا مناهضة للاستعمار، أو معاداة النظام الرأسمالي، إن كنّ مزراحيات مُفقرّات أو أشكنازيات تنتمينَ إلى الطبقة الوسطى العليا والطبقة البرجوازية.
فهل الأختية بينهنَّ (أي الإسرائيليات)، وبين النّسويات الفلسطينيات ممكنة؟ محال.