في عام 2002، زارَ الأديب البرتغالي العالمي وحاصد نوبل في الآداب عام 1998 جوزيه ساراماغو، رام الله، مع وفد من البرلمان الدولي للكتاب ضمن زيارة نظمها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى قطاع غزة دامت يوماً واحداً، وقد أعرب عن صدمته إزاء أوضاع حقوق الإنسان والأوضاع الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. بلا تردد، صرّح ساراماغو أن ما يحدث في فلسطين جريمة يمكن أن نضعها في نفس مستوى ما حدث في أوشفيتس، وبأنّ هناك إحساساً بالإفلات من العقاب يميّز الشعب الإسرائيلي وجيشه حيث تحولوا إلى مالكين للمحرقة”.
في أعقاب هذا التصريح الذي قارن فيه الكاتب العالمي بين ما يحصل مع الفلسطينيين وروح أوشفيتس ومعسكرات الإبادة، الكاتب الذي حظي بترجمة أعماله وبتقدير عاليين في الوسط الأدبي الإسرائيلي، قامت الصحفية أريانا ملاميد بمحاورته هاتفياً فور هذه التصريحات ومنحه فرصة “تبرير” ما قاله”، وذلك في محاولة تهدئة العاصفة التي أثارها ربط كلمة أوشفيتس بما يفعله الاحتلال.
لقد تجاوز ساراماغو كلّ “الخطوط الحمراء”- فاليهود يرون أن أيّ محاولة للمقارنة بين مأساة اليهود التاريخية ومأساة الفلسطينيين الراهنة هي انتهاك لأحداث تأسيسيّة ساهمت في نشوء الدولة، وأي نقاش مشترك بينها وبين أي حدث آخر سيشكّل خطراً سياسياً وأخلاقياً على وجودها، وتطاولاً على الرواية الفوقيّة لتاريخ اليهود والتي تؤكّد القتل الجماعيّ لليهود لأقسى تجليات معاداة الساميّة والشرّ في التاريخ الحديث، وهو ما لا يمكن، في نظر اليهود، أن نجد له نظيراً يعادله في هذا التاريخ. فكيف تكون أحداث تبرير قيام اسرائيل الذي هو بمثابة إضفاء شرعية على مظالم النكبة، الأداة التي تقلب سجلّ التاريخ والذاكرة اليهودية؟
أحدثت تصريحات ساراماغو ضجّة كبيرة في الأوساط الفكرية والثقافيّة الاسرائيليّة، وكان هناك أشبه بإجماع حول صوت واحد توحّد فيه الموقف المناهض والرافض لموقف الكاتب العالمي الذي احتفت به المؤسسة الأدبية الاسرائيلية بتقديم 8 ترجمات قدّمتها المترجمة مريام طفعون حتى ذلك الوقت.
في أعقاب ما قاله ساراماغو، قام مركز “ياد فاشيم”، المركز عالمي توثيقي وبحثي وتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست، بإدانة التصريحات معرباً عن حزنه العميق وقلقه من تصريحات كاتب عالمي مرموق اختار أن يستخدم المحرقة من أجل تعزيز ادعاءاته في صراع طويل ومعقد بين دولتين. لقد تجاهل ساراماغو الحقيقة التاريخية تماماً، وقوض نفس تلك القيم الأساسية التي يبدو أنه يروج لها، جاء في تصريحات المركز.
عاد شبح معاداة السامية ليطفو على سطح النقاش، ليعلن الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز الذي رُشّح مرّات لنيل نوبل والذي عرّف نفسه يسارياً صهيونياً، امتعاضه الفوقيّ من تصريحات ساراماغو، مدعياً أنّ هذه هي المعادلة الأثيرة هذه الأيام لدى جميع المعادين للسامية في العالم. لقد أظهر مؤلف كتاب “العمى” عمى أخلاقياً مروعاً، فالاحتلال الإسرائيلي سيء، يقول عوز، لكن المسافة بينه وبين جرائم النازيين هي تقريباً المسافة بين ساراماغو وستالين.
يعود شبح الانفصاميّة ويتردد، ليس فقط في كلام عوز، الذي نادى بحلّ الدولتين، وتظاهر ضد اجتياح بيروت عام 1982، وأعطى الضوء الأخضر عبر مقالاته لشرعية الحرب على غزّة، وإنما في فكرة أنّ الفلسطينيين يخوضون معركة عادلة من أجل حريّتهم على أرضهم من جهة، ووجود حرب قومية إسلامية تسعى إلى سلب اليهود حقّهم في تعريفهم لوجودهم من جهة أخرى، علماً بأنّ هذا الفصل القاطع في مكان مثل غزّة أشبه بالضّحك النظريّ على لحى دعاة السلام في إسرائيل.
واصلَ ساراماغو بجرأة تصريحاته وتحليله العميق للقضية اليهودية في المستوى النفسيّ، وكتب في صحيفة “إل بايس” الإسبانية بتاريخ 21 نيسان 2002:
” بَعدوى “اليقين” الوحشي والمتجذر بأنه، في هذا العالم الكارثي والعبثي، ثمة شعب اختاره الله… ينكأ اليهود جرحهم بلا نهاية كي يظل ينزف، ويجعلونه غير قابل للشفاء، ويظهرونه للعالم على أنّه شعار. تتمسك إسرائيل بكلمات الله الفظيعة في سفر التثنية: “لي النقمة والجزاء”.
لم يكتف كاتبنا بهذه الكلمات، بل واصل في خطاب ألقاه في البرازيل في 13 تشرين الثاني عام 2003، قائلا: “إن العيش في ظلال المحرقة وتوقع أن يُغفر لهم أي شيء يفعلونه عما باسم ما عانوا منه يبدو مبتذلاً بالنسبة إليّ، ولم يتعلموا شيئاً من معاناة آبائهم وأجدادهم”.
عندما تفاجأ الإسرائيليون من تصريحات ساراماغو، وطفت على السطح تهم أوتوماتيكيّة مثل كراهية اليهود واللاسامية الجديدة، مخذولين من “تقويضه” للقيم الأساسية الإنسانيّة التي بدا أنه روّج لها، تناسَوا ما كتبوه على أغلفة رواياته في تقديمه للقارئ العبري. ففي محاولة لتعظيم الكتابة وتقزيم صاحبها، وبعد وفاة ساراماغو، أعطى مناحيم بيري، المحرر الرئيسي لمنشورات “هسفرياه هحداشاه” التي أصدرت ترجمات ساراماغو بالعبرية مقابلة قال فيها إنّ كتابة الرجل كانت أذكى منه، ويواصل بيري، سارداً ما حصل وقتها:
“لقد وصل (ساراماغو الى رام الله) دون أن يفهم الموقف وبفتيله القصير ثارت ثائرته. وعندما وصل إلى تل أبيب، منعه مرافقوه حرفياً من مقابلتي، وقالوا له إن ناشره ينبذه ويعارضه، لكنني التقيته بالقوة… تعانقنا وهدأ. وأعطاني رسالة مكتوبة بخط اليد باللغة الإسبانية بالطبع، يقول فيها إن استعارة معسكرات الإبادة غير صحيحة وأنه نادم عليها. ورغم أن آراءه هي آرائه، إلا أن الاستعارة كانت مضللة. بالطبع، لم توافق أي صحيفة على نشر هذا الكلام، لأنه أثبت في نظر وسائل الإعلام بالفعل أنه معاد للسامية”.
وعندما سأل الصحفيّ مناحيم بيري إن كان ساراماغو قد أدرك أن مكانته في إسرائيل قد تغيّرت في أعقاب تصريحاته، ردّ بيري:
“قلت له طوال الوقت: “كيف تتحدث بهذه الطريقة عندما يقتبسك “رافول”، الذي كان علي أن أشرح له (لساراماغو) من يكون، يقتبس في الكنيست؟” وشرحت له أن الـ100 ألف نسخة التي باعها في إسرائيل تعادل 5 ملايين نسخة في الولايات المتحدة. أدرك، لكن شعبيته لم تعد كما ما كانت عليه. وأذكر أن السفارة البرتغالية أطلعتني على مستودع كامل من كتبه التي تم تدميرها وإرسالها إليهم احتجاجاً”
هذه الانفصاميّة المتكرّرة في تعامل الإسرائيليّ اليهوديّ، إن دلّت فإنّها تدلّ على الخوف الوجوديّ الذي يهدّد كياناً يقومُ على سياسة المنح والمنع، والأمر يتجاوز المؤسسة الأدبية ويتعدّاها إلى المؤسسة السياسية والصحفية والثقافيّة عموماً. وهذه الانفصاميّة تتجلّى أيضاً في الطريقة التي يُصاغُ فيها الموقف. فالرجل كان محبوباً في أوساط الإسرائيليين وتمّ الاحتفاء به مع صدور كلّ ترجمة له بكلمات جعلت من صاحب “قايين” أديباً إنسانياً عالمياً، وجعلت من ترجماته العبرية والطريقة التي تمّ تسويقها وسيطاً هاماً في ترسيخ مكانته ككاتب مترجَم إلى العبرية، فكتبوا ببلاغة عن روايته العمى:
“إذا كانت هناك كتب يخرج منها القارئ شخصاً مختلفاً عما كان عليه في بداية القراءة، فإن كتاب “العمى” هو واحد منها. الكتاب ليس مثلاً أو أليغوريا، لكنه قد ينير على الكثير من مواقف الحياة. فقد نكون عمياناً نرى، عمياناً حتى وإن رأوا فإنهم لا يبصرون، لأنهم نسوا أن يروا، وأن يتأملوا.”
وكتبوا ببلاغة عن صدور ترجمة رواية “قايين”:
“بعد ما يقرب من عقدين من الزمن على رواية “الإنجيل يرويه المسيح”: يعود ساراماغو -الحائز على جائزة نوبل في الأدب وأحد أعظم الكتاب الأوروبيين في النصف الثاني من القرن العشرين- ليكرس رواية كاملة لخصمه القديم، الإله، وهذه المرة إنه إله “العهد القديم”.”
وهي نفس البلاغة المضادة التي حاربوا فيها نفس الكاتب وهم يرونه في الضفة الأخرى يكشف عماءً يرفضون الاعتراف به. بلاغة مضادة تصف كتابات الكاتب بأنها أكثر ذكاء من صاحبها، وبلاغة تُجهّل معرفته بالحقيقة التاريخيّة، وبلاغة أعود معها الآن إلى الصحفية المذكورة أعلاه أريانا ملاميد وهي تعد معه حواراً هاتفياً وتمنحه فرصة تبرير ما قاله، وترسم رجلاً “يكادُ يتوسّل” لتبرير موقفه، بكلماتها.
توجّه ملاميد سؤالاً الى الكاتب إن كان قد تطرّق في المؤتمر الصحفي في رام الله إلى “المنتحرين” باسم الله، من يقتلون المدنيين هنا أيضاً، فيجيبها إنها لم يكن هناك أي تطرق خاصّ للموضوع. لكنها تواصل بنبرة فوقية إن لم يكن يندم على ذلك. يردّ ساراماغو مواصلاً تركيزه وثباته على موقفه بلا توسّلٍ أو تبرير:
“يؤسفني فقط عدم قدرة الإسرائيليين على فهم أن الحل بين أيديكم. فعندما أتجول في رام الله وأكتشف أن النساء يلدن عند نقاط التفتيش، وأن المواطنين الفلسطينيين تُسلب حياتهم في طريقهم إلى العلاج الطبي، فإن المشكلة الرئيسية هي: إن طرق الوصول إلى المناطق مغلقة أمام الفلسطينيين، وأنهم يتعرضون لانتهاكات وإذلال مستمر ومنهجي على أيدي قواتكم العسكرية. وتتم مصادرة أراضيهم منهم بالقوة، ويرون بالعين المجردة نمو مستوطناتكم إلى جانب كانت منازلهم يوماً – ماذا نسمّي ذلك الضبط؟[…] في كل حرب هناك قتلى، وغواية التحدث باسم الموتى كبيرة، لكني أود أن أتحدث إلى الأحياء، هنا والآن، وأقول إنني لا أفهم كيف لشعب كان هو نفسه ضحية يمكن أن يرتكب الانتهاكات المنهجية والإجرامية أن يظن بأنه، بحكم كون ضحية، يُسمح له بتحويل الآخرين إلى ضحايا للاحتلال والذل والتجرد من الإنسانية”.
لم يحِد الرجل سنتمتراً واحداً عن موقفه على الرغم من المناورات البلاغية والصياغات التي تضع الآخر في نقطة قوّة بصفته ضحية التاريخ البشري. إنها نفس البلاغة التي يملأها الرعب والتشكيك في محاولة الالتفاف حول رواية وجودية منغلقة على ذاتها، يستخدمها كاتبٌ مجهول الاسم في مقالة حجاجية محبوكة يقول فيها:
“تشبيه ساراماغو لم يتم اختياره بالصدفة. لقد صيغَ بعناية وصُمم بدقة. لو كان ساراماغو مهتماً بوصف معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، لكان بإمكانه أن يختار تشبيهاً من عدد كبير من الأمثلة التاريخية لشعوب عاشت تحت الاحتلال. لكن اختيار ساراماغو لهذا التشبيه يشير إلى نية أكثر خبثاً: التقليل من الفظائع التي ارتكبت ضد اليهود في المحرقة، فضلاً عن تقديم الفلسطينيين باعتبارهم ضحايا لمؤامرة إبادة جماعية إسرائيلية يهودية. ومن المؤكد أننا مقتنعون بأن شخصاً في مكانة ساراماغو قادر على ملاحظة التشويه في تشبيهه. من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون عديم الحساسية إلى حد الإضرار بالذاكرة الجماعية لليهود من خلال مقارنة الظروف في رام الله بتلك الموجودة في أوشفيتس. بالطبع لا يمكنه أن يكون معادياً للسامية”.
الفوقية، والبلاغة، والبلاغة المضادة، والصياغات المحمّلة بتاريخ ثابت لا يتحرّك، وبقراءة نفسيّة ثابتة لا تتحرّك، تثقلُ كاهل الموقف وتحمّله أكثر بكثير من طاقته تضلّل العين عن حقيقة حضور كاتب ملتزم لقضايا إنسانية كتب عنها ومن أجلها، بلا التزام لحب شعب دون آخر ولتعاطف مع محرقة شعب دون نكبة شعب آخر.
ساراماغو أديب عالميّ تناول في أدبه وبأسلوبه التجريبي الساخر والعبثي والمشحون بالرموز والرمزية والتاريخ أفكاراً عظمى حول الإنسان والتاريخ والرب وجسّد أمامنا المستحيل بجرأة. المشكلة ليست في ساراماغو وكيف يرى اليهود أو غيرهم. فقد واصل ساراماغو الذي أعلن قائلاً : “هدفي عدم التخلي عن الناس الذين جاءوا إلى هذا العالم في الظلام”، رسالته الانسانيّة في رام الله أيضاً. بيت القصيد يكمن في الطريقة التي يرى فيها اليهوديّ نفسه حتى هذه اللحظة: رفضه تطبيع المحرقة ورفضه تحرير ذاته الجمعيّة من برهنة راهنية المحرقة، وكأن الخوف المتواصل هو شرط وجوديّ لاستمرار الوجود.
عززت المحرقة كرواية فوقيّة تبرير الخطاب الضحويّ اليهودي وأكّدت بذلك حاجة اليهود إلى دولة يهوديّة، وهذه صارت بديهة تدركها جميعاً، لكن السؤال الجوهري الذي لا إجابة لنا عليه حتى هذه اللحظة، كيف يمكن منح معان أخرى للمحرقة تحرّر اليهوديّ الإسرائيلي من هويّته اليهوديّة وتثوير بلاغة جديدة قادرة على فرض حوار إسرائيلي-إسرائيلي بعيد عن فكرة إقامة حوار بينه وبين الفلسطينيّ والبرتغاليّ المدان.