حاوره ريمو فيردكت وإيميل روتوفت ونشرت في LARB في 31 ديسمبر 2022.
وُلد يون فوسه في النرويج عام 1959، وقد نُشرت الترجمة الإنجليزية لـ”السباعية” العظيمة –التي تضمُّ رواياته “الاسم الآخر (2019)” و”أنا الآخر (2020)” و”اسم جديد (2021)”- مؤخرًا في مجلد واحد على يد داري نشر فيتزجرالدو وترازيت بوكس. تحكي الكتب الثلاثة قصة أسلا، رسّام في ترحال أبدي بين ومضات من حياته. بأسلوبه الأدبي المعروف تكوّن الكتب الثلاثة جملة واحدة تستمر على مدى 700 صفحة تقريبًا.
أجاب فوسه على أسئلتنا بنبرة متوترة لا تخلو من استمتاع، مائلًا إلى الأمام خارجًا من ظلام مسكنه في أوسلو. أتاحت له وزارة الثقافة بيت “جروتن” الملكي المخصص للفنانين تقديرًا لإسهاماته في الأدب النرويجي، وهو التكريم الذي تفاءل به الكاتب حقًا: “تحصل عليه وأنت في الخمسين، لكن بعدها يتوقعون منك أن تعيش حتى الثمانين”.
الكتب الثلاثة التي تكوّن “السباعية” قد جُمِعت للتو في مجلد واحد. هل تعتقدُ أن هذا سيؤدي إلى تجربة قراءة مختلفة؟
عندما كتبتُ “السباعية”، اعتبرتها نصًا واحدًا، كاملًا. وافقتُ ناشريِّ في تقسيمه إلى كتب منفصلة، لكنها تظل وِحدة كاملة. ما يحدث في الجزء الأول نجد تفسيرًا له في الجزء السابع [الكتب الثلاثة مقسّمة إلى سبعة أقسام]. هناك أجزاء وقِطَع متصلة ببعضها بين الكتب المختلفة. على سبيل المثال، من الممكن أن تكتفي بالكتاب الأول والثاني، أو حتى السادس والسابع، وفي النهاية ستحصل على ما تريد أيضًا. لكن بالنسبة لي، هي وحدة متكاملة، وتحتاج إلى أن تكون متاحة في مجلد واحد شامل.
كما نجد مع معظم أبطالك، نجد راوي “السباعية”، أسلا، في ترحال معظم الوقت. أحيانًا يكون ترحالًا مجازيًا يشير إلى اكتشاف الذات، لكن في أحيان أخرى يكون العكس، بلا وِجهة محددة. ما دلالة ذلك بالنسبة لك؟
عندما أشرع في الكتابة، لا أنتوي حدوث شيء معيّن. أستمعُ إلى ما أكتُب، وما يحدث يحدث في النهاية. بالطبع يمكن أن يُفسَّر النص بطرق مختلفة. ليست مهمتي تفسيره-أنا مجرد كاتب. تفسيري سيكون أقل قيمة من تفسيركما. [يضحك] لكن أشعر أنني حين أُحسِن الكتابة، هناك كثير مما يمكن أن أسميه “معنى” أو حتى نوع من الرسالة. لكن لا يمكنني أن أعبر عن ذلك في كلمات قليلة. فقط يمكنني التخمين بقدر ما يمكنكما.
كتبتَ ذات مرة في مقالة أن عليكَ المحاولة في التغلّب على اللغة، أن تصل إلى ما هو أبعد منها، حتى ينتفي الفارِق ويمكن للمرء أن يصل إلى الرب. هل صحيح فعلًا أن بدون اللغة فقط يمكن أن نقترب أكثر من الإلهي؟
يصيبني الخوف الشديد من استخدام لفظة “الرب”. نادرًا ما أستخدمها ولكن أبدًا حين أتحدث عن كتاباتي. الرب أكبر بكثير من أن أتحدث عنه. [يضحك] عندما أكتبُ جيدًا، أجد لغة ثانية صامتة. هذه اللغة الصامتة تقول الخلاصة. ليست مسألة قصة، لكن يمكنكَ أن تسمع شيء ما ورائها-صوت خافت يتحدّث. هذا بالتحديد ما يجعل الأدب مناسب لي.
الأجزاء السبعة للسباعية تكوّن جملة واحدة. كيف كانت عملية كتابة كهذه؟
كل ما أكتبُ عليه أن يكون كونًا في حد ذاته، تحكمه قوانينه الخاصة. عندما أكتبُ كونًا كهذا، عليَّ أن أكون داخله بالكامل. بالطبع يمكنني أن آخذ فترات استراحة، لكن عليَّ أن أبقى ملازمًا لكون ما أكتب. ربما الأكثر أهمية هو الإيقاع. لا يمكنني حقًا أن أشرح مقصدي بهذا، لكنه كتيّار عليَّ أن أتبعه. أشهر مسرحياتي تُسمّى “أحدهم سيأتي”. أعتقد أنني كتبتها في أربعة أو خمسة أيام، ولم أغيّر أي تفصيلة بعدها. عادة يحدث الأمر نفسه في النثر.
مع السباعية، اختلف الأمر قليلًا. كتبتُ معظم الكتاب وأنا أسكن بالقُرب من فيينا، حيث أملك أنا وزوجتي شقة في مدينة صغيرة تسمّى هاينبورج على نهر الدانوب. كنت أكتبُ في وقت متأخر من الليل وحتى الصباح، من الخامسة إلى التاسعة صباحًا. بعدها، أنام مدة ساعة. عادة لا أكتب بعد الظهيرة.
وُصِفت أعمالك بـ”النثر البطيء” لكن بالنسبة لنا، كثير من أعمالك لا تبدو بطيئة على الإطلاق. كيف يمكن أن تصف الأمر؟
رغم أني بدأتُ كشاعر وروائي، بدأ نجاحي مع كتابتي للمسرح. لخمسة عشر عامًا، كنت فقط أكتب للمسرح. كان الأمر مفاجئًا بالنسبة لي، وفي البداية كانت نوع من المغامرة. كتبتُ للمسرح في الصيف فقط. أما بقية العام، كنت أقضي معظم الوقت في سفر إلى المسارح حول العالم، من أجل المقابلات إلخ.. ثم، فجأة، شعرتُ بالكفاية. توقفت عن السفر، والشُرب، وأمور كثيرة. قررتُ أن أعود إلى موطني، أعود لكتابة النثر والشعر “على طريقتي”. بعد أن أنهيت أول نص نثري، اليقظة Wakefulness (2007) لم أكتب المزيد بضعة سنوات. شعرتُ بالهشاشة نوعًا ما، ولم أجرؤ على السفر لأن الكتابة هي نوع من السفر إلى المجهول. عليَّ أن أكون على الحدود، وهو ما يناسبني تمامًا عندما أكون في حالة صحية جيدة، لكن إذا شعرت بالهشاشة الشديدة، أصاب بالفزع.
أنا المُلام بالمناسبة على استخدام مصطلح “النثر البطيء”. [يضحك] أردتُ أن أقدّم مقابِل للمسرح. مسرحياتي بالأحرى قصيرة، واحتجتُ دائمًا أن تكون حادة جدًا لتكتمل. لا يمكنكَ أن تتلكأ عند كل ناصية فترة طويلة-المسرح ليس كذلك. لكن مع النثر، أردتُ أن أُعطي لكل لحظة الوقت الذي شعرتُ أنها تحتاجه. أردت من اللغة أن تنساب في تيار هادئ. أعتقد أنني حققتُ ذلك في السباعية.
هناك مشهد جنسي في السباعية يشهده الراوي-أو، بالأحرى، يتخيّله. هل شعرتَ يومًا أنك تتلصص على عقلك؟ هل كشفت يومًا ستار أشياء في عقلك شعرت بخطأ كشفها؟
أوه، نعم. ليس دائمًا، لكن لديَّ هذه القدرة. كان من الممتع كتابة هذا المشهد عند الملعب. أسعدني كثيرًا ومايزال. أسلا يراقب نفسه الأصغر سنًا وزوجته في حالة حميمية من عام سابق، لكنه في حقيقة الأمر في نفس وجودهما الجسدي. حتى أنه سيقابلهما لاحقًا ويتحدث معهما. تخلطُ السباعية هذه الخطوط الزمنية في خط واحد-هذه هي الوحدة الشاملة المهمة. في الجزء الخامس أو السادس، أسلا الأصغر ينظر من النافذة، ويرى سيارة عابرة. هي نفس السيارة التي يقودها أسلا الكبير، بينما هو ذاهب إلى بيورجفين مع لوحاته. بالنسبة لي هذه هي “اللحظة”-الرواية كلها بمثابة لحظة.
دائمًا تكتب بالنينوشكية Nynorsk، ولم تكتب بالبوكمولية Bokmål(١) أبدًا، وهي اللغة النرويجية الأخرى. هل الكتابة بالنينوشكية نوع من الفِعل السياسي بالنسبة لك؟
لا، إنها لغتي بكل بساطة. اللغة التي تعلمتها من أول يوم في المدرسة وحتى التخرج، مدة 12 أو 13 عامًا إذن. إنها لغة أقليات، وهي ميزة بالنسبة لي ككاتب. لا تستخدم تقريبًا في الإعلانات أو التجارة مثلما تستخدم في الأوساط الأكاديمية والأدب والكنيسة. ولأنها غير مستخدمة بكثرة، لديها نوع من النضارة التي تفتقدها البوكمولية. جيل دولوز وفليكس غتاري كتبا هذا الكتاب المسمى “كافكا: نحو أدب أقلّي (1975)” عندما قرأته، شعرت أن الكتابة بالنينوشكية تشبه حالة كافكا.
في السباعية، يتحدث الراوي عن ميستر إكهرت Meister Eckhart(٢). يُعتَبر إيكهارت عادة ذا تأثير على الكتّاب المعاصرين مثل فلور ييجي Fleur Jaeggy وأنت. لماذا يستهويك؟
بدأت قراءة ميستر إكهرت في منتصف الثمانينيات. كانت تجربة عظيمة. بعد أن تخرجت من الجامعة، انكببت على أعماله، بجانب أعمال مارتن هايدجر. شعرت أنه مثل هايدجر، لكن أكثر عمقًا بكثير. إكهرت هو أكثر من أثّر عليَّ. لديه رؤيته الخاصة تمامًا. في فترة المراهقة، كنتُ ماركسي ملحد ساذج-وهي الحالة الطبيعية للمراهقين أصحاب الطموح الثقافي في تلك الفترة. لكن عندما كنت أكتب، كان هناك شيء لم أقدر على أن أفهمه جيدًا، شيء غامض: من أين يأتي؟ ليس من هنا [يشير إلى قلبه]. لا، إنه من الخارج.
بدأتُ في الاعتقاد في الرب كأنه إنسان، نوعًا ما. أعتبر نفسي مؤمن بالرب، باعتباره كينونة موجودة هناك وهنا. لكن مثل إيكهرت، لم أؤمن بالعقائد. شعرت برغبة في مشاركة هذه الطريقة في الإيمان مع شخص آخر، لذا توجهت إلى الصاحبيون Quakers(٣). تجد نفسك في دائرة صامتة، إذا شعرت بأن عندك شيء مهم تريد البوح به، فإنك تبوح به. إذا لم يكن عندك شيء، فإنك تظل صامتًا. في مرحلة معينة، شعرت بأنني لا أريد ذلك بعد الآن. شعرت أن كتاباتي كانت “لقاءاتي الصامتة” أو طريقتي في أن أكون صاحِب-طريقتي في الصلاة.
ثم أصبحتُ مجرد كاتب لعدة أعوام، ولم يكن عندي من أشارك معه هذا النوع من الإيمان. في منتصف التسعينيات، توجهت إلى قداس في كنيسة كاثوليكية في بيورجفين، وأعجبني الأمر، لدرجة أنني التحقت بدورة لأكون كاثوليكيًا-نعم، مثل أسلا، نوعًا ما. فقط بعد عدة أعوام، قررت أن أتحول إلى الكاثوليكية. لم أكن لأقدر على فعل ذلك لولا ميستر إيكهرت وطريقته في أن يكون كاثوليكيًا وصوفيًا.
هل تعتبر نفسك كاتبًا كاثوليكيًا وصوفيًا أيضًا؟
لهذا الجانب الصوفي علاقة بعمر السابعة عندما كنت على مشارف الموت. كانت حادثة. رأيت نفسي من الخارج، فيما يشبه النور اللامع، المسالم، وأصابتني بحالة من السعادة الشديدة، وأعتقد أن هذه الحادثة، هذه اللحظة بالتحديد، هذا الاقتراب من الموت قد شكّلني ككاتب. بدونها، أشك في أنني كنت سأكتب. إنه حدث جوهري بالنسبة لي. فتحتْ هذه التجربة عينيَّ على البُعد الروحي للحياة، ولكن مع الماركسية، حاولتُ أن أنكر هذا بأقصى ما عندي.
ما غيّرَ تفكيري هو الكتابة. كلما كبرتُ، كلما شعرتُ بالحاجة إلى مشاركة معتقداتي مع الآخرين. شعرت بذلك بطريقة مناسبة ومسالمة في القداس الكاثوليكي. أفضّلُ القداس الأرثوذكسي، لكن باعتباري غربي، من الصعب أن أتفهّم العقلية الأرثوذكسية-الأصول مختلفة حقًا. عرفتُ الكثير عن الكنيسة الكاثوليكية لدرجة أنني لم أسعى إلى أن أقفز إلى الكنيسة الأرثوذكسية.
بعض الكتّاب الذي تجري مقارنتك بهم قيل أنهم يكتبون “أدب ميتافيزيقي”. هل تعتبر نفسك ضمنهم؟
لقد أطلقوا عليَّ أكثر من مسمّى-ما بعد حداثي، مينيمالي- وأنا سمّيت نفسي كاتب “النثر البطيء”. لا أريد أن أطلق أي مسميات على نفسي. أُسمّي نفسي المسيحي، لكنها تسمية صعبة جدًا بالنسبة لي. تسمية اختزالية جدًا. أنا بشكل ما مينيمالي، طبعًا، وبشكل آخر، ما بعد حداثي-تأثرتُ بجاك ديريدا. لذا ليست تسميات خاطئة بالضرورة، لكن لا يمكنني أبدًا أن أوظفها في كتاباتي، كأنما سأقول، “إنها هكذا”.
هل كان تحوّلك إلى المسيحية شبيه بتحوّل أسلا؟
هذه الأيام يشيع للغاية أن توظّف ما اختبرتَ في كتاباتك وأن تكتب وأنت ملاصق للحياة قدر الإمكان، مثلما تفعل آني إرنو. مؤخرًا، قرأت هذه الرواية القصيرة [لإرنو] اسمها “مجرد شغف (1991)” وأعجبتني-إنها جيدة حقًا. لكن بالنسبة لي، من المستحيل أن أوظف أي من تجاربي بالطريقة نفسها، لأن الكتابة هي في الأساس تحوّل. أستمعُ إلى عالم يختلف عن عالمي، والكتابة نوع من الهروب إلى هذا العالم. هذا أعظم ما فيها. أريد الهروب من نفسي، لا أن أعبر عنها.
أوظّف حياتي بالطبع. أفهم الموضوع جيدًا. لكن، السباعية هي مجرد عمل إبداعي-لم أكن يومًا رسامًا. أوظّف حياتي وما قرأته كمادة أساسية، ليس كشيء أريد كتابته بطريقة واقعية. كل شيء يتحوّل. عندما أكتب، تتحول خبراتي إلى رماد، لا شيء. ليس لخبراتي أجنحة، ومع الكتابة الجيدة، أجعلها تطير. أنا على الجانب الآخر من الأدب الذاتي Autofiction-إنني أكتب الخيال بكل بساطة.
ماذا تشعر حين يعتبر الناس كتاباتك ذاتية؟
بعض الناس يقرأونها هكذا، لكن حين تعرف أقل القليل عن حياتي، ستعرف أنها ليست ذاتية. لو كتبتُ عن أم، سيظن كثيرون أنني أكتبُ عن أمي، لكنّي لم أفعل ذلك ولن أفعل أبدًا. ليس مسموحًا لي أن أفعل ذلك. لا يمكنني أن أستخدم حياة شخص آخر في أدبي. قد أستخدم بعض السمات، لكن عليَّ أن أحولها أيضًا. هناك جانب غير أخلاقي في الكتابة الذاتية.
لماذا عدتَ إلى الكتابة المسرحية؟
بعد أن أنهيت السباعية، شعرتُ بحاجة قوية لأكتب للمسرح من جديد. تشعر بهذا الخواء عندما تنتهي من كتاب ضخم، وقلت لنفسي، لماذا لا تكتب مسرحية؟ غير طموحة بالضرورة، فقط مجرد قطعة صغيرة، لذا كتبت واحدة تسمّى “رياح عاتية Strong Wind”. وبعد أن أنهيتها وجدت نفسي أبدأ في أخرى. حتى أنني كتبتُ مسرحية رابعة لم تُنشَر بعد. إنها قابعة على طاولتي هناك. في المستقبل، لن أعود إلى كتابة المسرح بالالتزام السابق نفسه- فقط من حين إلى آخر.
كتبتَ في السباعية، “الجميل في الحياة ينقلب قبيحًا في لوحة إذ يبدو وكأن فيه جمالًا مفرطًا”. هل يمكن أن يحدث الأمر نفسه في الأدب؟
نعم أعتقد ذلك. يمكنك أن تكتب قصيدة ممتازة بكل الطرق الممكنة، وعندما تقرأها، تجدها جميلة، لكن يصيبك شعور أن الكتابة متذاكية، بدون روح. وجه جميل فيه خطب ما. هذه الوجوه المتناسقة في الإعلانات أجدها قبيحة. الجمال يكمن في الخطأ، حتى في الأدب والفن.
نشكرك على هذه المقابلة.
من دواعي سروري. وكمسيحي طيب، أتمنى لكما السلامة والخير.
هوامش