تحليل موضوع السينما التي أُنتجت خلال فترات الحروب وما بعدها، يتطلب دراسة عميقة. المؤرخ الفرنسي مارك فيرو، الذي أصبح أيقونة في استخدام الفن السينمائي كمصدر للتاريخ وكوسيلة تعليمية، يعكس في عمله «التاريخ والسينما» (1995)، دور السينما بصفتها رسالة ومصدراً لا ينضب للمعرفة، ومرآة للأحداث الاجتماعية والدقة النقدية في التحليل التاريخي. ويضيء كتاب «الماضي في الصور: تحدّي السينما لفكرتنا عن التاريخ» (1997) للخبير في دراسة العلاقة بين التاريخ والسينما روبرت أ. روزنستون، على الارتباط القائم بين مجال البحث التاريخي والسينما، من خلال الصور والواقع الذي يحيط بها. ويبين المؤلف الأميركي أنّ تحليل السينما ينطوي على سلسلة من القيود التي يجب افتراضها من أجل تحقيق أقصى قدر من التبصر في معنى الأفلام. ويمكن اختصار كل ما سبق بكلام أب السينما الحديثة ديفيد غريفيث: «سيأتي الوقت الذي يتعلم فيه الأطفال في المدارس كل شيء من خلال الأفلام».
طوال القرن العشرين، اندلعت حربان كبيرتان تسبّبتا في موت أكثر من 50 مليون شخص حول العالم، فضلاً عن دمار اجتماعي واقتصادي كبير. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت السينما في مرحلة تجريبية مع سلسلة من التغييرات والابتكارات في القطاع الصناعي. مع ذلك، فقد ولّد تفشيها إقبالاً كبيراً على الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية، مما جعل السينما وسيلة للترفيه، وترك المجال الدعائي جانباً لفترة صغيرة. وكان السبب الرئيس هو الانتشار الكبير الذي حققته بين أغنى طبقات المجتمع. وبعد خمسة وعشرين عاماً، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وبحلول ذلك الوقت، كانت السينما تتمتع بمكانة دولية معينة. وبسبب نجاحها الكبير، استخدمت القوى الكبرى هذه الوسيلة لإثارة الكراهية وتعظيم دولها. بهذه الطريقة، ستشارك السينما بطرق عدة، كوسيلة للدعاية، وكوسيلة تجنيد وأداة تحفيزية.
الحرب العالمية الأولى
لوس أنجلوس، 1914: بدأ تصوير فيلم ديفيد غريفيث «ولادة أمة» (1915)، الذي حقق نجاحاً مالياً كبيراً، وأثار عاصفة عالمية بسبب محتواه. مع بدء الحرب في أوروبا، تولت الولايات المتحدة الأميركية زمام المبادرة في صناعة السينما العالمية. لقد بدأ عصر جديد من السينما، وسمح فيلم «ولادة أمة» بولادة هوليوود التالية. في فيلم «الحضارة» (1916) لريغنالد باركر، الذي أنتجه وشارك في إخراجه توماس إينس، يولد المسيح من جديد بطريقة رمزية، بهيئة قائد غواصة يرفض إطلاق النار على سفينة مدنية تحمل ذخيرة لأعداء بلاده. وفي فيلم «قلوب العالم» (1918) لغريفيث، ذي اللكنة القومية الساذجة، ينتهي الأمر بجندي أسود وآخر أبيض إلى احتضان بعضهما لأنّهما متحدان بالسلام والمصالحة في وطنهما. إذاً، في أعقاب مُثل الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون، كانت السينما الأميركية – خصوصاً خلال أول عامين من الحرب – مسالمة وتدافع عن الحياد، مستوحاة من الصراع الأوروبي الدموي، فيها رسائل عن وضع رهيب لا يترك سوى المآسي واليتم والانفصال والدمار، حتى دخولها الحرب عام 1917.
سيطرت هوليوود على السوق العالمية وانتزعت الهيمنة السينمائية التي كانت الجمهورية الفرنسية قد احتفظت بها منذ الأخوين لوميير. بين عامي 1914 و1919، تراجع الإنتاج الدرامي، وتوقفت باريس عن كونها عاصمة السينما العالمية، مما فتح الأبواب أمام الشوفينية والقومية المناهضة لألمانيا. واجهت «باثي»، أكبر شركات الإنتاج والتوزيع في أوروبا، مصاعب كبيرة، في دولة تعيش حالة حرب، حُكم على السينما باعتبارها إلهاءً تافهاً. لقد اضطر معظم الفنيين والمخرجين والممثلين إلى الانضمام إلى الجيش، وتحوّلت الاستوديوهات إلى ثكنات ومختبرات أو مصانع لأفلام السيلولويد المخصصة حصرياً للمواد الحربية. كما تم تنفيذ خدمة التصوير السينمائي للجيش، مع تقارير إخبارية عن إنزال القوات والأوسمة والعديد من مسيرات السجناء. قال الناقد والمخرج الفرنسي لويس ديلوك خلال الحرب: «لقد وقع الإنتاج الفرنسي في غيبوبة وترك منافسيه الأجانب ليقيموا متاجرهم في شققه». تحولت الأفلام ولوحات الإعلانات السينمائية لتأخذ طابعاً وطنياً صريحاً، مثل أفلام «انتبهوا أيها الفرنسيون!»، و«الموت في ميدان الشرف». وكانت هناك أفلام ميلودرامية ذات الخطابات المباشرة («الأمهات الفرنسيات» أو «النضال من أجل الحياة»). كما استمر فيلم «كونت دي مونتي كريستو» (1913) في أسر الحشود، كما فعلت سلسلة المباحث «مصاصو الدماء» للمخرج لويس فوياد.
من جهتها، شهدت روسيا (بين 1914 و1917) نهاية السينما القيصرية، وعُرضت أفلام دراما حربية وطنية، إلى جانب إنتاجات الجريمة والأدب والشرطة. ومن ناحية أخرى، اندلع التبشير البلشفي والخطابات ضد التدخل في حريق أوراسيا. كانت هذه الصورة القاتمة تجمع بين الموت والعاطفة والجريمة والجنون والتصوف. وفي حين تنبأ راسبوتين بالرعب، كانت الشاشات الروسية تعرض قطّاع الطرق الملثّمين والنساء الفاتنات والحياة البوهيمية. وعندما تكيف ممثلون لامعون أمثال شاليابين في فيلم «القيصر إيفان الرهيب» (1915) للمخرج أليكساندر أيفانوف غاي، أو موسيوكين مع الذوق النخبوي، منع ستانيسلافسكي العظيم ممثليه من العمل في السينما. في خضم العمليات الحربية، انخفض الإنتاج الروسي بشكل حاد بسبب المصاعب الاقتصادية. عندما كانت الدراما العاطفية تتعايش في تناغم مع إعلانات الحرب، كان هناك انتشار للتجارب الجمالية والدراما البوليسية. ومع انهيار النظام القيصري، زاد استخدام الرسائل التعليمية على الشاشة، مماثلة لتلك في فرنسا، مع أفلام الاخبار المعروفة باسم «مرآة الحرب».
في الرابع من آب (أغسطس)، مع إعلان الحرب العالمية الأولى، أغلقت المصارف في لندن لمدة ثلاثة أيام، وجمّدت ودائعها لمدة شهر تقريباً. كان هذا مصدر قلق للتجار والمصرفيين ورجال الأعمال. وسط كل هذا، لجأ الجمهور الإنكليزي إلى مشهده المفضل، الأفلام الاميركية، التي كانت تشكل %92 من الانتاجات السينمائية في البلاد عام 1915. وكانت هناك نسبة قليلة من الإنتاجات البريطانية التاريخية المقتبسة من الأدب الوطني والاحداث التاريخية. وكانت هناك العديد من إنتاجات الدعاية الحربية كوسيلة استراتيجية لتجنيد المتطوعين والجمهور الملتزم عن الدفاع عن الإمبراطورية البريطانية. أما بالنسبة للمدرسة الناشئة للأفلام الوثائقية الاجتماعية، فقد تحولت منشوراتها المرئية غالباً نحو الدعاية الحربية والدراما الوطنية. إن عناوين الأفلام الدعائية والتحذيرية للحرب كانت تقول كل شيء: «خطر التجسس الألماني»، «إدانة قبل معركة المرن الأولى »، «الحرب حقيقة غير سارة» و«تدعم بريطانيا العظمى أصدقائها».
يُذكر في مصادر مختلفة لتاريخ السينما، أنّ الفيلم الدنماركي كان يتمتع بالرخاء عندما انتشر الحريق الدولي خارج الحدود الأوروبية. انتشر سوق جذّاب عبر دول الشمال الأوروبي وأوروبا الوسطى وشملت شهرته الدراما، والمغامرات البوليسية الغريبة أو المصطنعة وأفلام الحرب ذات التوجه المؤيد لألمانيا: الزنا والزواج الفاشل، إدمان المخدرات والمس الشيطاني، مصاصو الدماء تحت تتمة أستا نيلسن. مع المدافع الأولى، فقدت كوبنهاغن اثنين من أهم عملائها، روسيا والولايات المتحدة. من المنظور الفرنسي، أُدرجت هذه الأفلام المتطورة ضمن القائمة السوداء لأنها تتمتع برأس مال ألماني كبير. تم تجريد الافلام من التلميحات الوطنية، أي أن الاسكندنافي قد ضاع لصالح الكوسموبوليتانية والعولمة التمهيدية. بالإضافة إلى ذلك، فقد حان الوقت لتقدير الإبداعات الأولى في الخارج لعظماء السينما الدنماركية، أمثال كارل دراير وبنجامين كريستنسن. وكانت تأثيرات غريفيث على الأول واضحة، حتى مع قواعد نحوية أكثر تطوراً.
أما بالنسبة للسويد، فقد كان رائدة في مجال الصور الرومانسية والخيالية والإيروتيكية. أعلنت المملكة الاسكندنافية حيادها في عام 1914، وعندما اندلعت الحرب تمكنت من وضع نفسها في السوق الدولية من دون خوف من منافستها الدنماركية. بالإضافة إلى الإنتاج المتقن، استفاد التصوير السينمائي السويدي من الظروف الخاصة للبلاد أثناء الصراع. ازدهرت شركة «سفينسكا فيلمز» بسبب مبيعاتها الكبيرة للألمان والحلفاء. وأصبح ممثلان مسرحيان في عام 1912، موريتز ستيلر وفيكتور سيوستروم، أستاذين عظيمين وصاغا الدخول الواسع النطاق للواقعية السويدية الرائعة.
أدى إعلان الحرب إلى تعطيل صناعة السينما في برلين. كانت هناك عمليات إغلاق فورية للاستوديوهات، مع إجبار الممثلين والمخرجين على المغادرة أو الفرار. في عام 1915، حُظرت الأفلام الفرنسية واستُبدلت بأفلام دنماركية، وحُظِّرت الأفلام الإيطالية، وخضع العديد من الأفلام الأميركية للقيود. باختصار، أصبحت سوق أوروبا الوسطى كلها احتكاراً ألمانياً. وكثرت الأفلام الوطنية أو الحماسية مثل «المرأة الألمانية»، و «الولاء الألماني»، و «من أجل الوطن». أولت السلطات أهمية كبيرة للسينما كوسيلة لرفع الروح المعنوية للقوات، وولدت أحدث الاستوديوهات في القارة الأوروبية في برلين، مع تأسيس شركة الإنتاج الحكومية القوية UFA 8. في ذلك الوقت، اتخذ النوع السياسي، وخصوصاً الألماني، شكل المسلسلات البوليسية، بين جرائم القتل الغامضة والمحققين العاديين. وهكذا نشأت حقبة تعبيرية رائعة كان أول ممثل لها بول ليني.
إذاً، من الكابوس الكوميدي لجندي في حقل مفتوح في فيلم «كتف الأسلحة» لتشارلي شابلن، إلى وثائقي «معركة السوم»، الذي يصف المصاعب التي تحمّلها مقاتلان بريطانيان في الخنادق الفرنسية، استخدمت الحكومات الأفلام لتعزيز المشاعر القومية وتشجيع التجنيد ودعم المجهود الحربي. وكانت الأفلام القصيرة والأفلام الإخبارية شائعة، وغالباً ما كانت تُعرض قبل الأفلام الروائية وتسلط الضوء على الانتصارات العسكرية أو الأحداث المهمة من الخطوط الأمامية، مما يساعد في إبقاء السكان المدنيين على اطلاع ومشاركين.
الحرب العالمية الثانية
ترتبط الحرب العالمية الثانية والسينما ارتباطاً وثيقاً. كانت هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها صناعة السينما صراعاً وفي الوقت نفسه تدور هي في رحاه. أُنتجت الأفلام لرفع معنويات السكان وكانت شكلاً فعالاً للغاية من أشكال الدعاية. وعلى الرغم من خطر القصف، زاد الحضور إلى دور السينما خلال سنوات الحرب، إذ كان الجمهور يبحث عن أي فرصة للهروب من واقعه القاسي. خلال الحرب العالمية الثانية، استخدمت كل دولة، إلى جانب الحلفاء (فرنسا، والاتحاد السوفييتي، والصين، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وغيرها) ودول المحور (اليابان، وإيطاليا، وألمانيا، وغيرها من شركاء هذه القوى) السينما كأداة دعائية لكل نظام، وكانت إدارات الرقابة في كل دولة تراقب باستمرار الأفلام الروائية من الدول المعادية.
اتبعت الرسائل الدعائية في الحرب نمطاً مشتركاً للجميع:
1- خلق عدو مشترك
2- زرع الخوف في السكان
3- الدعوة للتجنيد
4- تطوير الأسباب التي تبرّر التدخّل في الصراع
5- تشجيع المدنيين على أن مشاركتهم مهمة في تطور الصراع
في هذه الفترة، كان السكان يتوجهون إلى السينما للترفيه والهروب من المشاكل التي يعانيها المجتمع. ومع ذلك، لم يكونوا على علم بأنهم سيكونون ضحايا «قصف» دعائي. لم يكن الهدف من الأفلام إيقاظ المشاعر أو المشاعر فحسب، بل أيضاً إحداث تغيير في سلوك كل شخص من خلال صور ذات قوة عاطفية كبيرة.
في أميركا، خرج فيلم «اعرف عدوك: اليابان» للمخرج فرانك كابرا، مع يوريس إيفانز وبتكليف من وزارة الحرب الاميركية. كما حقق فيلم «جزيرة ويك» أرباحاً كبيرة. حتى أن الفرنسي جان رينوار صنع فيلم «هذه الأرض لي» في أميركا عام 1943، عدا عن سلسلة أفلام «لماذا نقاتل» التي كانت دائماً تحتلّ مسارح العرض. أما في الاتحاد السوفييتي، الذي كان رائداً في الأفلام الوثائقية، فقد انتشرت عروض الأفلام الدعائية الحربية في كل مكان، مع السينما المتنقلة، وحتى في المترو، للوصول إلى السكان الفقراء الذين لا يستطيعون دفع ثمن تذكرة سينما. في اليابان، كان الوضع مماثلاً، تضمنت «أفلام السياسة الوطنية» أفلاماً قتالية مثل «الطين والجنود» و«إنهم يتعقبونك». أما في المانيا النازية، فقد اشتهر فيلم «هايميكير» (1941)، الذي حاز جائزة «فيلم الأمة».
تأثير الحرب العالمية الثانية الكبير على السينما، جاء بعد انتهائها. بدأت تيارات سينمائية مختلفة في الظهور في البلدان المشاركة في الحرب، أُطلقت عليها تسمية «سينما ما بعد الحرب» مثل الواقعية الجديدة الإيطالية، وهوليوود الجديدة، والموجة الفرنسية. وهذا مجال حديث آخر.