لست أدري إذا ما كانت تلك الجثث التي تمدنا بها شاشات التلفزة هي رهن نظراتنا المتيبسة أو أننا نحن الأحياء رهن نظرات تلك الجثث المفعمة بالحياة.
غالباً ما تستحث الجثة نمطاً آخر من القول، من الكلام. ترى الجثة تستحث القصيدة وتستحث المجاز بالإجمال… ربما الجثة هي الأصل وعالمنا نسخته المشوهة؟
مَن منا يستطيع أن يولي الجثة أذناً صمّاء أو نظرة لا مبالية؟!!
يا للمفارقة، إن الجثة تستدعي الحواس أكثر من الغابة ومن ضجيج المارة وأكثر من صوت المدفع.
إن ما تنبئنا به شاشات التلفزة هذه الأيام يرقى بالجثة عن أن تكون محض مادة رخوة سرعان ما تمتصها الأرض، سرعان ما تذوب في الباطن العميق. كلا، إن الجثة هذه الأيام تتموضع في أفق آخر من المعنى وتتموضع في رحلة أخرى. تحقق عندي منذ البدايات الأولى لشهر أكتوبر من هذا العام أن الجثة ليست وجبة يقتات عليها تراب الأرض، صار من المؤكد عندي أن الجثة هي ملح سفرة الربّ، هي توابل وجبته المقدسة. فالجثة في هذه البلاد كفّت عن أن تنتظر ساعة دفنها، فهي هنا سفر تكويننا، نشيد أنشادنا ومزاميرنا لكنها أيضاً فاتحتنا، سورة كهفنا الذي نلجأ إليه وهي أيضاً معراجنا.
تتناهب الجثة نور يومنا وعتمته فتلزمنا الصمت تارة والعويل المدوي تارة أخرى. يا لهذا المانيفستو الضخم، يا لهذا المتحف الهائل من الأجساد الممزقة.
إن هذا التراكم اليومي للجث يُلزم المرء بأن يسلم نفسه إلى حقيقة أخرى حيال علاقة الأحياء مع الجثث… فجثث غزة قلبت المعادلة:
ليس الأحياء هم من يقومون بتشريح الجثث بل ترى أن الجثث هي من تقوم بتشريح الأحياء، تشريح العالم، تشريح الدساتير ومنظومات الحقيقة وسرديات البحث عن الإنسان في هذا العالم. نعم، إن عالم حقوق الإنسان لا يتعدى أن يكون تورية غير موفقة لمبحث الجثث. فهذا العالم الذي يندفع بسيقانه جهاراً صوب تعزيز الحياة – كما يدّعي – هو، كما بيّنت الجثث الأخيرة، علامة تعجّب لنص كُتب على عجل، نص يهرول بخرقه وهلاهيله أمام رفعة ووجاهة الجثة.
جاء في كتاب “الحياة المريبة للجثث البشرية” للكاتبة الأميركية ماري روتش: “ثمة طرقاً أخرى لقضاء وقتك كجثة… الموت ليس مملاً بالضرورة”.
لا شك أن شيوع الجثث يزيّن للعالم لكل العالم أن الموت ليس مملاً إنما الحياة هي المملة.
وبالعودة إلى “الحياة المريبة للجثث…” أن للجثث تلك الطريقة اللائقة في صنع مساربها الهادئة والمميزة.
إن الأحياء يرتلون أما الجثة فهي الترتيلة، الأحياء يدبجون القصائد أما الجثة فهي القصيدة، الأحياء يتناولون الطعام كي يظلوا على قيد الحياة أما الجثة فهي الوليمة.
يبدو أن هذا العالم لا يأنف عن أن يتأمل جوفه عبر الاسترسال في بثنا الجثث، في الإيماء لنا بأن شهيقنا وزفيرنا وهم… فنحن على الدوم محض جثث وليست نبضاتنا إلا تكّات ساعة معطلة. ما العمل؟ لا شيْ.
إن أيامنا لا تني تؤكد لنا أن الجثة هي تاريخنا المرئي بحق وكل تاريخ آخر ليس أكثر من فتات هذه الحقيقة. يا لانحطاطنا أمام سمو مقام الجثة ويا لضحالتنا أمام رفعة هامتها، فحتى ربّ هذه البلاد لا يتوغل في دنيانا إلا عبر ذلك الدرب الذي تخطّه الجثث. جاء في “عالِم التشريح” لفيديريكو أندهازي أن الجثث على تماس شبه يومي مع خارطة السماء.
إن هذا التراكم اليومي للجثث يشي بأن أمنا الأرض ضاقت ذرعاً بالأحياء وأن السماء ترقص طرباً.
فالسماء لا يكتنفها الغموض إزاء حضور الجثث أما الأرض فتزدهر ب “البطولة” والعقائد والأيديولوجيات وكل تلك العناوين الكبرى عندما تمور بالجثث. فالجثة هي عنوان الحياة وما ورائها وهي أيضاً سبيل الوصل بين العالمين… إنها – أكرر – التاريخ المرئي لأحشاء العالم. هي احتشادنا، شتاتنا، أرضنا المنبسطة تحت الشمس وهي اليوم بشكل خاص، أنفاقنا.
ثمة ما يختزل المشهد اليوم تحت العنوان التالي: إن العالم عصيّ على النظر من غير الجثث.
قد يستغرق المرء في حال من النسيان فينعم بالتالي بجلده وبنظرات عينيه وسائر حواسه بيد أن كل الحواس سرعان ما تتبدد إزاء العالم باستثناء الجثة كحاسة ضخمة على الدوم.
إن الجثة كما يطالعنا التاريخ هي سيدة الحواس الأخرى بل ترى تلك الحواس عبارة عن تمهيد أولي للحاسة الأولى، للجثة.
فالجثة هي تلك الحاسة التي يفض عبرها العالم مكنون رسائله ويستنشق رائحة وجوده ويتملى ملامحه بروية وبلا أي عقدة ذنب. إنها هي، الجثة، من تثبت كل يوم أنها الإسراف الذي لا بد منه.
قد يقع بنا الظن أن باطن الأرض هو بمثابة الحقل الفسيح للجثث لكن الجثة لا تفتأ تكرر على مسامع العالم أن السطح هو ملعبي وليس الباطن إلا كتمان مؤقت.
كل قول في العالم هو لعثمة إلا قول الجثة، فالجثة هي الأكثر فصاحة… إنها اللسان الذي لا ينطق عن باطل أبداً. لا تأوّل الجثة العالم ولا تستنطقه بل تراها تبتدر العالم ليس بطيش الفلسفة والعلم إنما بحكمة اللامبالي. لا شهوة لدى الجثة من أجل التحقق ذلك أن مسار العالم يعلن بوضوح أن كل منتوجاته تبغي بالنهاية استظهار الجثة.
تمدنا السذاجة بحقيقة تقول أن الموت هو نهاية الحياة لكن الحياة لا تني تبرر وجودها عبر الجثة، عبر الجثث، عبر الكثير من الجثث. فالأرض لا تبتلع الجثة إلا بغية استيلاد المزيد من الجثث… هذا هو درس غزة اليوم.
إن الجثة هي لسان العالم، كلماته المتحركة ووحدة لغاته ولهجاته الكثيرة. لا يتوارى القول هنا خلف حقيقة أخرى ولا يجلس القرفصاء متحنياً فرصة الانقضاض، فالجثة في هذا المقام هي اتزان العبارة، عبارة العالم إزاء نفسه وهي أيضاً لحن القول واتساقه. لا تخطىء الجثة القول لأنها هي القول بعامة، إنها البيان الذي يسترسل منذ الفجر الأول للخليقة وليست تلك الجثث الكثيرة التي تجتاح نظراتنا عبر شاشات أكتوبر إلا تأكيد ذلك الفجر الأحمر، تلك الحقيقة القديمة.
إن العالم، كل العالم، هو اليوم إزاء نصه الأولي، نص مهيب من الجثث التي تتقن بكل خفة تشريح معنى وجودنا.