بعد أن أُلغيت عروض الدّورة العاشرة من مهرجان أيّام فلسطين السّينمائيّة التي كان من المقرّر إقامتها في خمس مدن فلسطينيّة في غزّة والضّفة الغربيّة، وذلك بسبب العنف الأعمى الذي يمارسه الاحتلال الاسرائيليّ بحقّ المدنيّين الفلسطينيّين في غزّة تحديدًا، كما في كامل أنحاء فلسطين المحتلّة. وتحت راية “أيّام فلسطين السّينمائيّة”، ولكي تكون السينما وسيلة لروي حكايات الفلسطينيّين المعيوشة، لرواياتهم وتاريخهم، لحياتهم وأحلامهم المهشّمة، نظَّم أكثر من 90 عرضًا مجّانيًّا لأفلام فلسطينيّة في مدن ومساحات تنتشر على امتداد العالم، وكان ذلك في اليوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2023. جاء في البيان الصحفي للمهرجان: “بينما نتعرض للإبادة الجماعية في غزة، وتنخرط وسائل الإعلام الدولية وقادة العالم ومنصات التواصل الاجتماعي الكبرى في الرقابة وتحريف وتشويه السردية الفلسطينية، وبينما يواصلون تجريدنا من إنسانيتنا ومعاناتنا المستمرة. في ظل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في حق شعبنا في غزة، لن تُعقد أيام فلسطين السينمائية في فلسطين هذا العام، بل سنحمل قصتنا وصوتنا إلى ما وراء الحدود. في ذكرى وعد بلفور، التي تصادف الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، وحرصاً منا على إيصال الأصوات الفلسطينية، وبالدعم الصادق من أصدقائنا وشركائنا أفلامنا وأفلام سين نظّمنا أكثر من 90 عرض لفيلم فلسطيني حول العالم”.
قُدم في لبنان، ضمن هذا الإطار، عشر عروض سينمائية توزعت على مناطق: بيروت، صيدا، البترون، البقاع، بتلون، برجا. وقد تم اختيار سبعة أفلام للعروض: (حتى إشعار آخر، رشيد مشهراوي، 1993)، (حكاية الجواهر الثلاث، ميشيل خليفي، 1995)، (نادي غزة لركوب الأمواج، إخراج فيليب جنات، وميكي يمين، 2016)، (خيوط السرد، كارول منصور، 2017)، (صائد الأشباح، رائد أنضوني، 2017)، (قفزة أخرى، إيمانويل جيروسا، 2019)، (فرحة، دارين سلام، 2021).
المكان الأسطوري جوهرة الروح
يذكر بعض النقاد أن فيلم (حكاية الجواهر الثلاثة، ميشيل خليفي) أول فيلم روائي فلسطيني يصور في غزة، وهو يروي حكاية الفتى (يوسف) الذي يعيش في مخيم للاجئين في غزة، وبعد أن توفي والده وفر أخيه هارباً من الاعتقال، يعيش يوسف علاقة خاصة ومميزة مع المكان تتناوب بين ظروف الحصار الخانقة، وبين رغبات الحلم الطفولي بالحب، بالسفر، بمطاردة الفراشات والطيور بما لها من رمزية الحرية. يبدأ الفيلم بحلم الفتى يوسف يقابل فيه فارساً ممتطياً حصاناً أبيضاً، مرتدياً زياً مماثلاً لملابس الشخصية التاريخية صلاح الدين الأيوبي، يظهر الفارس في الحلم في أرض وفرة خضراء، ويلحق به يوسف، وحين يقترب منه يداعب شعر الحصان، ويأخذ يوسف من بين يدي الفارس بندقية.
تحضر غزة في الفيلم كمكان محاصر، لذلك يصور الفيلم حضور العسكر والأمن الإسرائيلي في الفضاء المكاني، وتروى الحكايات في الفيلم عن المنع الذي يعيشه العرب الفلسطينيون، الذين منعوا مثلاً منذ العام 1967 من النزول إلى البحر، لتصبح زيارة البحر حكاية يرويها الجيل السابق للجيل الحالي بعد فقدان هذا الحق. كذلك يقوم يوسف بإيصال زوادة الطعام إلى المقاتلين في الجبال، ويركز الفيلم على الوجود الجغرافي والاجتماعي لغزة، فيتكرر في مشهدين في الفيلم القراءة والحوار عن موقع فلسطين في الإقليم الجغرافي وفي الحدود الدولية. وكما يشهد المكان في الفيلم قصة حب طفولية-مراهقة، فإن الطفولة أيضاً في المكان تشهد تجارب من العنف، كما في المشهد الذي يراقب فيه الصديقان لحظة انقضاض القوات الخاصة الإسرائيلية على مجموعة من الشبان الفلسطينيين. ولا يمكن التغاضي عند قراءة مفهوم المكان في الفيلم عدم التوقف على ما تناوله السيناريو في المكان الطبقي أو الاجتماعي: غزة مخيم اللاجئين، غزة الطبقة الغنية المتمثلة بمنزل تاجر البرتقال في الفيلم، غزة التجمعات الغجرية التي تنتمي إليها حبيبة البطل عايدة.
ويدخل في يوسف في أحد أحلامه إلى مجموعة من النساء يطرزن نقوش العصافير على المناديل والملابس، تقول الجدة: “يوسف أنت ذكر الحمام، أنت حبيبي” حيث الفتى يوسف، وكذلك الطيور والعصافير ترمز إلى حلم الحرية والتحرر من قيود المكان وظروفه المعيشية القاسية، ولكن في الآن عينه يحمل مضمون الفيلم مقولة تنفي قدرة الإنسان والحكاية عن التخلص من أثر المكان. ويظهر ذلك في الرؤية التي يراها يوسف مع نهاية الفيلم، حيث صوت النصيحة الأبوية القادمة من الحلم تؤكد على أن الروح تتشكل من جواهر ثلاث وهي الزمان، المكان، والجسد، ويؤكد صوت الأب ألا إمكانية للتحرر أو التخلص من أياً منها. يقدم الأب للابن في الحلم مخطوطة ليقرأها:
“سوف أعطيك ثلاث نقاط دم، عن الحدود الثلاثة التي كتبتها، لأن الله عندنا خلق الروح، ففوجئ بجمالها وحريتها، فقد كانت بكماله، لأنه هو الباري. وبنى لها ثلاثة حدود، وحبسها في ثلاثة سجون: الزمان، المكان، والجسد، هكذا فرضت اللعنة، وهلك كل من حاول أن يهرب من هذه الحدود، لأن الخالق قدسها وجعلها قدراً للبشر، فمن أراد أن يخرج من المكان، كأنما أراد أن يخرج من بدنه، ومن أراد أن يخرج من الزمان، ادعى الخلود، ومن ادعى الخلود، كفر بقدره وتطاول على الله، لأنه ينافسه في الألوهية، هذه هي جواهرك يا يوسف”.
المكان الرمزي في الحلم المحبوس
يحضر أيضاً المكان الرمزي الأقرب إلى بنية الحكاية الشعبية، حيث يرمز المكان الفني إلى الوطن أو المجتمع بأكمله، وذلك مع فيلم “فرحة، دارين سلام” الذي يروي حكاية الفتاة ذات الأربعة عشرة عاماً والتي تعيش لحظة تشكل الوعي، ورغبة في التعليم التي تجبر لأجله على الانتقال إلى القدس، فرحة هنا تمثل فلسطين بحلمها في الاستقلال عن الانتداب البريطاني وتشكل الوطن الفلسطيني. لكن المكان الرمز لا يحضر إلا بعد تطور أحداث السرد في الفيلم، حيث تجري أحداث النكبة 1948، وتهجم القوات الإسرائيلية على قرية فرحة، مما يمنع انتقالها إلى القدس ليحبسها والدها في غرفة المؤونة لحين عودته من المعارك، لتجري كامل أحداث الفيلم بعد ذلك في مكان مغلق، بيت المؤونة أو القبو الذي تراقب من بين تشققات أبوابه أو فراغات أحجاره ما يجري في القرية، ما يجري في فلسطين كاملةً، دخول القوات الإسرائيلية، وتشهد الطفلة على مجزرة ترتكبها القوت الإسرائيلية بعائلة فلسطينية، لتصبح فرحة ، كما أجمع النقاد، رمزاً لفلسطين التي حلمت بالحرية والتطور والتعلم، وآلت إلى قبو وسجن تراقب منه مجازر واحتلالات متتالية.
المكان الثقافي في تطريز الحكايات
ينقلنا الفيلم الوثائقي “خيوط السرد، كارول منصور” إلى مستوى آخر من حضور المكان في الفيلم الفلسطيني، إنه المكان المرتبط بالتراث الثقافي، المادي واللامادي، التراث النسوي والاجتماعي، والمتمثل هنا بعلاقة الشخصية الفلسطينية بالزي الفلسطيني، بالمهنة التطريز، بالذائقة كالألوان وأنواع الأنسجة والتصاميم. يعرض الفيلم شهادات 12 امرأة فلسطينية يروين حكاياتهن الحميمية، علاقتهن مع المكان ومع التطريز ومع الثوب الفلسطيني، لتتداخل عملية حياكة الأقمشة بالسرد الحكائي في الفيلم، ومن هنا يجمع العنوان “خيوط السرد” مفاهيم: الخيط الحرف، الحياكة السرد، الكلمة والثوب. ليصبح التطريز لعبة السرد الفيلمي، فتنسج خيوط الحكاية وخيوط السرد التي تربط بين المنتج الثقافي – الثوب، المهنة – التطريز، المكان – فلسطين. تقول منتجة الفيلم مي الخالدي: “إن علاقة الفلسطينيين/ات مع الثوب الفلسطيني لا تختلف بين من هم في الداخل وفي الخارج، فهو تعبير عن هوية وانتماء ثقافي”. ولذلك، يتعدد حضور الأمكنة في الفيلم، أمكنة الحنين، أمكنة التطريز والتصميم، أمكنة الحصار، أمكنة المنافي. فالحكايات تحمل حكاية التعلق بالمكان، القمع الممارس فيه، النزوح والهجرة، البيت الأول، الأرض. يرد في الشريط الصوتي المرافق للفيلم، نصاً للكاتبة سحر مندور:
“داخل خريطة فلسطين كانت القصص كالخيوط تنفصل وتلتقي، تحكي وتخفي، تلتقي عند عقدة الاحتلال التي أعادت توزيع السياقات ورمت الخيوط في كل اتجاه. وجعلت للحياة الواحدة خيطين اثنين: واحد يجري واقعاً، وآخر كان ليجري”.
المكان العائلي في الحكايات الفردية والجمعية
إن التطريز النسوي كفعل ثقافي في المكان الفلسطيني، ينقلنا إلى تلك العلاقات الفردية التي تشكل نواة الأسرة، وإلى تلك العلاقات العائلية التي تشكل نواة المجتمع، وذلك في فيلم “حتى إشعار آخر، ميشيل خليفي”، فتدور أحداث الفيلم في غزة في العام 1933 في المرحلة الأخيرة من الانتفاضة الأولى، ومع بداية الحصار الإسرائيلي لغزة، عندما تتحول البيوت إلى معتقلات صغيرة ينسجم بين جدرانها نسيج من العلاقات داخل الأسرة. وتتمركز الحكاية حول أسرة الحلاق المقعد “أبو راجي” وزوجته وخمسة. أم راجي نموذج للمرأة والأم الفلسطينية التي تحمل شؤون المنزل على كاهلها، وكذلك الابنة الصبية سلمى التي تدمج حكايتها بين دورها الأسري وأحلامها الخاصة. الشقيق الأكبر راجي متزوج ويعيش في ظل البطالة والعزلة، بينما الأخ أكرم نموذج الشقيق الانفعالي، الحاد الطباع، والمنخرط في أعمال المقاومة، ويبقى الأخ الأصغر “رادار” الذي يأخذ اسمه من الدور الذي يقوم به كمذياع للعائلة، حيث يراقب الجنود، وينقل الأخبار، وينقل الرسائل. أما على مستوى المكان، فتقيم الأسرة في مخيم الشاطئ، أحد أكبر المخيمات في قطاع غزة، ومن هنا فإن الفيلم، بالإضافة إلى تجسيده مفهوم المكان المحاصر، فإنه يعالج المكان باعتباره شبكة العلاقات الأسرية، أو العلاقات الاجتماعية مع الجيران، مع المحيط الاجتماعي، ومع المجتمع الفلسطيني بأكمله. تجري أحداث الفيلم بين المنازل، على أسطح المساكن، في ظروف سكن صعبة، يعبر الابن الأصغر “رادار” بين أحياء المنازل، متنقلاً بين نافذة وأخرى مترصداً أخبار الجنود. مفهوم المكان هو تلك العلاقات التي تتناوب بين التعاضد والصراع في ظل مجتمع يعيش حصاراً واحتلالاً، وضيقاً اقتصادياً. وفي هذا المكان السياسي والاجتماعي، يرصد الفيلم تفاصيل الحياة اليومية، فنراقب العائلة وهي تمارس أفعالها اليومية، عند الأكل الغسيل الجلي، لكن الأبرز هو الترابط بين المصائر المتماثلة للمدن والبلدات على طول المساحة الفلسطينية التي يرسمها الفيلم انطلاقاً من حكاية هذه العائلة في ارتباطها بالمصير الفلسطيني رمةً.
الطموح الرياضي في المكان المحاصر
يتشارك كل من فيلم “نادي غزة لركوب الأمواج، فيليب جنات وميكي يمين”، و”قفزة أخرى، إيمانويل جيروسا” في تناولها لقضايا الشباب والطموح الرياضي في ظروف العيش في المكان المحاصر، ففي حين يروي لنا الفيلم الأول مقدار الحصار المفروض على غزة بحيث يمنع عنها إدخال ألواح التزلج، فإن الفيلم الثاني يقدم لنا المكان المغلق، العاجز عن تغيير واقعه، لتتحرك الكاميرا في أحياء ضيقة بينما ترصد طموح الرياضي اللامحدود بالمكان والزمان. فيلم “قفزة أخرى” يتناول رياضة Parkour، يجري الفيلم في خان يونس في محافظة غزة، يبدأ الفيلم والكاميرا تركض مع مجموعة من الشبان المتدربين على رياضة Parkour، لنتعرف على الرياضي والمدرب “عبد الله” الذي يعيش مع والده المريض، وهو يحلم بنقل خبرة وتدريب أجيال جديدة على رياضة الباركور في غزة، كما يحاول البحث عن عمل على طيلة أحداث الفيلم، ويسعى إلى السفر لاكتساب الخبرات والمشاركة في المسابقات الدولية المتعلقة بهذه الرياضة. ويروي لنا الفيلم مقتطفات من حضور هذه الرياضة بين الشباب في غزة التي أسسها في غزة “عبد الله إنجاصي”، لكن الفيلم يبدأ بعد مغادرته المكان، مما يجعل الشخصية الرئيسية في الفيلم “عبد الله” يدرك ضرورة نقل هذه الخبرة إلى جيل جديد ضماناً لاستمرارية هذه الرياضة ضمن الظروف الصعبة التي يفرضها المكان، نسمع في الفيلم وصية المدرب إلى الرياضيين الشباب: “هذه الرياضة يجب أن تستمر في غزة، لذلك فكرنا أن ندرب جيل جديد، وأنتم بدوركم تدربون الجيل التالي، هذه الرياضة هي علم، يجب أن ينتقل من بعدنا، لازم طريق رياضة الباركور ما يوقف، ويضل مستمر”.