صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “صنع الموسيقى في العالم العربي: ثقافة وفن الطرب”، وذلك في سياق رسالته الفكرية ونشاطه العلمي والبحثي الذي تُعنى به “سلسلة ترجمان”. الكتاب من تأليف علي جهاد الراسي، ابن الأديب المعروف سلام الراسي، والعالم والمؤلف والمؤرخ الموسيقي صاحب المؤلفات العلمية القيّمة في هذا المجال. المؤلف ملحن وعازف على مستوى أكاديمي راقٍ وعاشق للموسيقى العربية، هاجر منذ نحو خمسة عقود من لبنان، الذي تشرّب فيه الموسيقى الشرقية، إلى الولايات المتحدة التي درس فيها الموسيقى الغربية، مازجًا حضارتَي الشرق والغرب الموسيقيتين، وعلم موسيقى الشعوب Ethnomusicology على يد أستاذ معروف جدًّا اسمه برونو ناتيل، الذي تضلّع منه في الموسيقى الإندونيسية واليابانية والصينية والكورية والأفريقية، وكان يعتبر الموسيقى لغةً تتحدى الحدود وتحاكي الضمير الإنساني وتهيّئه للتعايش مع الحضارات المختلفة، وتلتقي عندها الشعوب لتتحاور بلغة واحدة رغم اختلاف الألسن والألوان والأجناس، متخطيةً السياسة لتشكّل جسرًا لعبور البشر إلى نظرائهم في الإنسانية. كان للموسيقى العربية دور كبير عبر تاريخها الذي أثّرت تأثيرًا عميقًا في تراث شعوب أوروبا الموسيقي. كان هاجس الراسي المبكر تقديم موسيقى للشعوب كافة. درس في جامعة كاليفورنيا الموسيقى الشرقية 25 عامًا، ونشر له أكثر من مئة بحث وكتاب، تناول فيها سيكولوجيا التأثير والتأثر بالموسيقى العربية بين العازف والمتلقي. يقع الكتاب في 320 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
تأثير الموسيقى في الشعوب
يُعتقد أن الموسيقى تُبهج أو تغيّر الحالة الذهنية والعاطفية للإنسان، وهي مسألة شغلت الفلاسفة والزعماء الدينيين والسياسيين والنقّاد عبر التاريخ، وقد جاء كتابنا صنع الموسيقى في العالم العربي لينقل إلى القارئ العربي صورة عن السعي العالمي الدؤوب لمحاولة فهم العلاقة بين الموسيقى والتغيرات العاطفية من وجهة نظر مؤرخ مختص في علم موسيقى الشعوب، وليقدّم دراسة عميقة للموسيقى العربية وأبعادها الوجدانية العاطفية، ورؤية وأفكارًا لتجارب مماثلة في سياقات عالمية أخرى.
وقد ساهم كثير من الأكاديميين والموسيقيين الكبار (ومنهم عمالقة أمثال: صباح فخري، ووديع الصافي، وسيد مكاوي، ومنير بشير، ومأمون الشناوي) في عمل الراسي هذا، إن تشجيعًا أو دعمًا، أو تصحيحًا للنص الأصلي، معلوماتٍ ولغةً وإضافات تاريخيةً وتسهيلَ نشر.
بداية الاحتكاك الموسيقى بين الشرق والغرب
أبدى غيوم أندريه فيوتو Guillaume André Villoteau، الذي كان ضمن بعثة علمية رافقت نابليون بونابرت إلى مصر، إثر حضوره وفريقه حفلةً لمنشدين دينيين، عدم تقديره ما رآه وسمعه من طلب المستمعين الإعادة من المنشدين، الذين كانوا يستجيبون مرات عديدة بمدِّ مقاطع معيّنة، وتنويع إبداعاتها اللحنية، وسط نشوة المستمعين وانفعالهم الشديد، كما اعترف بصدمته وانزعاجه من استعراض العاطفة الغريب هذا، إلا أنه سلّم بأنه “لا جدوى من الحكم ضد تذوُّق أمة بأكملها”.
وأتيحت لشخص شرقي هو أحمد فارس الشدياق معايشة الموسيقى الأوروبية خلال زيارة مالطا ولندن وفرنسا، فحاول مقارنة النوعين، كاستخدام النوتة والهارموني في التأليف الموسيقي الغربي، والمرونة الإيقاعية الشرقية، فخرج بنتيجة لبحثه مفادها أن الموسيقى الأوروبية “متحفّظة عاطفيًّا” و”عقلانية” وتخدم هدف تمثيل الصور والمفاهيم، بينما موسيقى الشرق مختصَّة بإثارة مشاعر قوية.
استفاد فيوتو والشدياق من توصيف كل منهما ثقافةَ الآخر الموسيقية، فصدمة فيوتو دلت الشدياق على نشأته الموسيقية الأوروبية، وخلفيته العقلانية المتجذرة، ولفتت الأوروبيين إلى التأثير العاطفي الطاغي في الموسيقى الشرقية، ما جعلها تفتنهم وتأسر قلوبهم، كما أن التقاء الشدياق بالموسيقى الأوروبية أثَّر في وعيه، فدفعته النقاط الجمالية فيها إلى تقييم نظرته إليها.
أما الباحث الموسيقي الفرنسي فرنسيسكو سلفادور دانييل Francisco Salvador-Daniel، فقال في مؤلَّف له إنه لكي يتمكن المرء من تعلُّم الموسيقى العربية عليه أن يتعلم إحساسها العاطفي المميز أولًا، كما أكد عالم موسيقى الشعوب الفرنسي غيلبير روجيه Gilbert Rogers في عمل له أن أقوى العلاقات بين الموسيقى والنشوة في العالم هي لدى العرب.
بداية التغيير في الشرق
ترافق توصيف “الشرق مقابل الغرب” باختلاف الشرقيين خلال محاولاتهم نسج محاكاة بين موسيقاهم والموسيقى الأوروبية، ففي مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932، الذي جمع مؤلفين موسيقيين ومنظّرين وباحثين موسيقيين من أوروبا والشرق الأدنى، دعا المشارك محمد فتحي أعضاء لجنة المؤتمر، ومعظمهم أوروبيون، إلى القبول بإدخال الآلات الغربية إلى الموسيقى العربية، لأن الآلات “الشرقية” – وفق قوله – لا تناسب سوى التعبير عن الحب والوله، في حين انتقد عازف الكمان والمنظِّر الموسيقي توفيق الصباغ من تخلّوا عن موسيقاهم الشرقية وتحيزوا إلى الموسيقى الغربية، معتبرًا إياهم جاهلين الجوهرَ العاطفي لتراثهم الموسيقي، مع اعترافه بتركيز الموسيقى الأوروبية على الكمال في تقنيات الأداء.
أكدت التصريحات السابقة العنصر العاطفي في الموسيقى العربية، وإن كان يشوبها بعض السياسة من جانب الغرب، كما كتب إدوارد سعيد، الذي ينحو إلى أن الغربيين يعتبرون الشرق “غريبًا” أو مختلفًا إلى حد بعيد عن ثقافتهم، لكن ما حدث مع فيوتو والشدياق اللذين “سمعا بأذُنٍ عربية وعين مبهورة بالإنجازات الأوروبية” يمكن أن يؤكد أن الموسيقى عمومًا هي عاطفية وتأثيرية في آن.
الصوفية والحداثة والنظرة إلى الموسيقى
مثّلت الموسيقى في الصوفية الإسلامية طريقة للسمو الروحاني، كما مثّل الرقص طريقًا للوصول إلى الوَجد، وفي هذه الأيام يؤكد الموسيقيون الجدد أن “الفن إحساس”، و”الموسيقى مشاعر”، كما يتحدث الموسيقيون عن حالة إلهام يعيشونها أحيانًا قبل العزف وفي أثنائه، والحفلات العربية تتسم في الغالب بالتفاعلية مع ردات فعل المستمعين الواضحة جدًّا واللاإرادية.
أبى التقدم الأوروبي على جميع الصُعد إلا أن يترك أثرًا في الحياة الموسيقية العربية، فدُرِّست لدى العرب النظريات الموسيقية الأوروبية، واستُخدمت النوتة، وأُدخلت الآلات الغربية إلى “التخت” الشرقي … إلخ. ومع الوقت اختفت أنواع كثيرة من الموسيقى المحلية، أو تحولت جذريًّا، وبات بعضهم يناقش أن التركيز العاطفي في الموسيقى العربية أمر ينتمي إلى الماضي. ورغم كل هذا، فإن البعد العاطفي لا يزال مسيطرًا وله تأثير قوي، وهو ما يلخّصه المفهوم العربي لـ “الطرب”، الذي يدل على مخزون موسيقي يرتبط مباشرة بالاستحضار العاطفي والحالة النفسية غير العادية التي تثيرها الموسيقى الطربية و”آلات الطرب” الخاصة بها، وبمعنى أدق “النشوة”، التي استخدمها كتابنا هذا لمرونتها وإمكان تعريفها، إذ أُدخِلت في بعض القواميس الإنكليزية – العربية باعتبارها أحد مرادفات “الطرب”.
يدرس الكتاب الفترة من أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم. وبالنظر إلى تركيزه على موضوع “الطرب”، فإنه يهدف إلى تطوير فهم نوعي للموسيقى العربية التقليدية، في استكمال لأعمال أخرى أكثر عمومية حول موسيقى العالم العربي أو الشرق الأدنى. وبحكم كون المؤلف الراسي مؤديًا للموسيقى العربية على آلات “طربية”، مثل البُزُق والعود والناي، وانغمس في الإحساس العاطفي الموسيقي، فإنه يتحدث عن الآراء والتجارب الفردية لكثير من صُناع الطرب ومستمعيه على نحو متوازن، ما جعله يلاقي بعض التعقيدات، كما واجهت أبحاثه تحديات تقريب ظاهرة “النشوة” الموسيقية إلى الأذهان، لأنها في الأساس ممارسةٌ وتجربةٌ حية، ونادرًا ما تُناقش بمصطلحات لغوية، وهي تشبه الحالة الصوفية التي هي فوق الوصف، ولذلك يعبَّر عنها عادة باستخدام الاستعارات.
أما حالات اقتران “النشوة” بمظاهر جسدية مفرطة تثير الاستهجان مثل استخدام المخدرات وغيرها، فقد جمع المؤلف بياناتها على نحو غير رسمي، من خلال تحقيقات طويلة ومركَّزة، باحثًا عن أسباب تصرفات جدلية لأناس “أحسوا” بالموسيقى.
بعبارة أشمل، رسم الكتاب صورة استيعابية للطرب بوصفه بيئة، أو ثقافة فرعية مختصة بالموسيقى، ودرس العلاقة بين هذا المجال الثقافي والثقافة العربية عمومًا. ويطرح أسئلة نظريّة حول إذا ما كانت حالات التمايز العاطفيّ، مثل النشوة، تمنح شعورًا بالفردية والقوة، وإذا ما قدَّمت ثقافة الطرب بديلًا عاطفيًّا من جوانب أخرى أكثر انضباطًا شكليًّا أو لفظيًّا أو فكريًّا في الحياة العربية، وما الذي يصف المناسبة الموسيقية الطربية النموذجية، وكلها أسئلة أنموذجية في علم الموسيقى العربية ستبقى تنتظر جوابًا.