في المجموعة الشِعريّة الأحدث “تمارين على المعرفة”، الصادرة مؤخراً- باللغتين العربيّة والفرنسيّة- عن دار نشر لانسكين في باريس 2023، للشاعر الفلسطيني طارق حمدان؛ ثمة صور خارقة من الفجائع، لا تحدثُ أوْ قد تحدُث– عجائبية، صور من بُنية سردية لا سحر فيها ولا جن، ولكنها عجائبية مثل أن يقوم: نيزكٌ ضخمٌ فيضرب كرة الله كما في الأفلام، لكن هذه المرَّة بدون جيشٍ أمريكي يحول دون ذلك.
الشاعر طارق حمدان وإن جاء بمثل هذه الصور؛ إنما ليسخر ويتهكم من القوَّة الخارقة والعجائبية للقوَّة العظمى؛ قوَّة أمريكا في هذه الحالة؛ وهل ستتحكَّم أمريكا بجيوشها وجيوش حلفائها (قطيع الأغنام) بصفتها الذئب، أن تمنعَ النيزكَ من أن يضربَ الأرض، ويخطر لي أن أسأل بصفتي قارئاً: هل عندها القدرة على معاقبة النيزك إن ضرب أرض الله التي تحكمها أمريكا؟. طارق حمدان في ديوانه هذا تراه يدخل في أزمانٍ ويخرج إلى أزمانٍ من السياسي إلى الاقتصادي، ومن الاقتصادي إلى الأخلاقي، ومن الأخلاقي إلى الزمن الاستنكاري. نَعَمْ زمنٌ استنكاري – هذا أقل ما يفعله الشاعر، من كل الجرائم التي يقوم بها الإنسان ضد الإنسان: برمجية خبيثة، تُفضي في النهاية إلى إطلاق الرؤوس النووية، تتناثر المدن وتُمحى، ويقتلُ الغبارُ ما تبقى من حياة.
مرحبا أيها السبعة
صورةٌ مرعبة لحقائق وإن كانت غرائبية وعجائبية وافتراضية، صورٌ قد تحدث، أو تحدث. فالعلم لما يكون علماً من أجل المعرفة الإنسانية فيكون أخلاقياً، إلاَّ إذا استُخدم ضد؛ بل وللقضاء على الإنسانية، مع أن العلم هو من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل العلم، فيتحول العلم من حارس للعقل إلى ذئب: فيروسٌ سريعٌ فتَّاك، تقف أمامه الحكومات التي تقتل، وشركات الأدوية التي تخترع أمراضنا لتبيع بلا حول ولا قوة. الشاعر طارق حمدان يكتب صوره الشعرية كما لو إن تماساً؛ هو تماسٌ أصاب عقله الذي لم يحتمل، ولم يصدق، أو سيصدق: تتوقف الأرض عن الدوران، نصفٌ يموت من الحرارة، والآخر من التجمد. طبعاً هذا السيناريو كما سمَّاه طارق حمدان يحصل عندما لا يصير العلم أو يكون من أجل ارتقاء السلوك المعرفي والعمراني للإنسان. صورٌ مخيفةٌ هي الصور التي يرسمها الشاعر طارق حمدان، قدْ لا تصدق، ولكنه، ولعمق المأساة الإنسانية التي يصورها لما يحدث للإنسان الذي صار ضحية العلم والاستبداد السياسي صارت تُصدَّق، ذلك لقدرته على الإيحاء والإقناع، كونه يصنع صوره الشعرية من مادةٍ فكرية: مرحبا أيها السبعة، ها أنا أرى وجوهكم الجافة عبر الشاشة بابتساماتكم الباردة، وحركات أجسامكم المدرَّبة ككلب مطيع ببزاتكم النظيفة المكوية، وخطاباتكم المجهزة كوجبة قطط. في القاعة المغلقة تحدَّثتم كثيراً عن السوق، وفي حفلة تهريجٍ مبالغ فيها أحصيتم مشاكل العالم: الحروب والنزاعات، التهديد النووي، الاحتباس الحراري، الإرهاب، أزمة الطعام والمياه، اللاجئين والمهاجرين. وبعد أن نسيتم إحصاء أنفسكم تحدَّثتم كثيراً عن القيم.. وماذا لو كانت لحياتكم قيمة فقط؛ بوجودها في حياة الآخرين؟
شرخ لا يمكن ترميمه
الشاعر طارق حمدان يسخر من هذه القوى السبعة (مجموعة الدول الصناعية السبع، وهي ملتقى سياسي حكومي دولي يضمُّ: كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة. ويُعتبر أعضاء المجموعة أكبرَ الاقتصادات المتقدمة في العالم وفقًا لصندوق النقد الدولي وأغنى الأنظمة الديمقراطية الليبرالية) والتي تتحكم في اقتصاد العالم، على إننا كائنات مذنبة بحق هذه الدول، وأننا أغبياء.
سبعة، ثمانية، مئة. ليست الحياةُ حياة حين تغترب عن وطنك، وكل الأوطان لا تنوب عنه وأنهُ أُغتُصب في لحظة ضعفك، وهذا ما يدفع الشاعر طارق حمدان لأن يبين لنا أنه وإن كان يقيم، يستوطن فرنسا، لكنها لا يمكن أن تكون بديلاً عن فلسطين، ولا يمكن أن يقطع صلته بالوثاق الذي يشده إليها. لا يمكن استبدال أو إزاحة ما هو حقيقي وواقعي عن عرشه، عن فلسطين: مرحبا فرنسا، ها أنا أخرجُ من قاعة البلدية مثقل الكتفين، أحملك كطفلٍ في أوَّل مشيته يحمل جبلاً من الأسئلة، قد أرمي بعضها عندما أتعب، قد أحتفظ بالباقي، أو أتخلى عنها كلها إلاَّ سؤالاً واحداً سيظل يقرع كمطرقة حدَّادٍ في رأسي الصلب: ماذا يعني أن تحصل على بيتٍ جديدٍ بعد أن تُحرَمَ من بيتك؟ الشاعر حمدان يرسم صورته هذه وهو يكزُّ على أسنانه متألماً، فالتسلسل والالتحام بوطن المعيش، هو التحام مزيف. هناك شقٌّ، شرخ، تشقق لا يمكن ترميمه بين ما هو حسي وما حركي.
تحطيم صور الاستبداد
خراب ودمار وموت وحياة، يقابله الشاعر طارق حمدان بالسخرية والتهكم، ما من صورة عنده تخلو من لا معقولية أفعال السادة المتحكمين بدفة الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وآلات الحرب البدائية إلى النووية وما بعد النووية، وأظنها وسيلة ليثير إحساس القارئ حتى لا يخاف ولا يذعن ولا يقبل ولا تصطك أسنانه وفرائصه من سوداوية الحياة، وهذا الجحيم الذي يرمي أولاد السبعة فيه أبناء الثمانية والثمانين ما بعد مليارات مليارات البشر الذين تمَّ حرقهم ليضيئوا لياليهم المعتمة. الشاعر طارق حمدان في قصائده هذه يحطم ويقوِّض صور الاستبداد، ويعيد خلق صور جديدة للحياة بعد تفريغها وتجويفها من محتواها اللاَّ إنساني.