المقالة لريبيكا رُوث غولد، نشرها موقع منشورات فرسو في 15 نوفمبر 2023. وهي جزءٌ من سلسلة مستمرَّة تحت عنوان “من النهر إلى البحر”.
قبل زمنٍ ليس ببعيد، كانَت عبارة “من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين” ببساطةٍ هي الهُتاف الأكثر شيوعاً وتميُّزاً ضمن مرجعيَّات المتظاهرين المؤيِّدين لفلسطين. وفي عام 2022، وصفَت رابطة مكافحة التشهير الهتاف على نحوٍ محايدٍ بأنَّه “شعارٌ شائع الاستخدام في الحملات المؤيِّدة لفلسطين، ويُهتَف في المظاهرات”. سننتقل سريعاً إلى العام التالي، حيثُ تغيَّر الوضع جذريَّاً اعتباراً من شهر أكتوبر لسنة 2023 إذ يصف الموقع الإلكترونيّ نفسه الشعار الآن بأنَّه “شعارٌ معادٍ للساميَّة”.
ما الذي حدث كي نشهد هذا التحوُّل؟ لقد انتشَر كالنار في الهشيم خطابُ إبادةٍ جماعيَّة، وحملةٌ ممنهجةٌ تشنُّها المؤسَّسة الإسرائيليَّة لجعل غزَّة “مكاناً غير صالحٍ للحياة البشريَّة”؛ من خلال قصف كلٍّ من المستشفيات والمدارس، وتدمير البنية التحتيَّة، والسكَّان المدنيِّين في غزَّة.
عن هذا يقول عبد أيّوب من اللجنة الأميركيَّة العربيَّة لمكافحة التشهير: “بدلاً من الحديث عن الإبادة الجماعيَّة التي ترتكبها إسرائيل، فإنَّ الناس يتجادلون بصدد هتاف… هذا الإلهاء جزءٌ من الغاية”. وقد فهِمت توني موريسون هذه الإستراتيجيَّة بصورةٍ جيِّدة عندما كتبَت أنَّ “إحدى أخطر وظائف العنصريَّة هي الإلهاء”.
إنَّ الجدل الدائر حول هتاف “من النهر إلى البحر” هو وسيلة إلهاءٍ تشبهُ إلى حدٍّ كبير وسيلةً أخرى من ضمن التكتيكات الكلاسيكيَّة الداعمة لإسرائيل بهدف إسكات الانتقادات الموجَّهة لها؛ أشير هُنا إلى التعريف الذي يعتمُده التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست. في أعقاب حملةٍ دعائيَّةٍ شديدة الفعاليَّة، تمكَّن التحالف من إقناع العديد من الدول، والمؤسَّسات العامَّة والخاصَّة، بالخلط ما بين انتقاد إسرائيل ومعاداة الساميَّة، وقد وثَّقتُ هذه المسألة في كتابي. سبعةٌ من الأمثلة الأحد عشر التي يُحدِّدها تعريف معاداة الساميَّة تتعلَّق بانتقاد إسرائيل، بما في ذلك نصُّه المتعلِّق بأنَّ “الزعم بأنَّ وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصريّ” هو مثالٌ على معاداة الساميَّة.
عندما أجرى آندي ماكدونالد، النائب عن حزب العمَّال البريطانيّ، تعديلاً طفيفاً على العبارة لتشمل الإسرائيليِّين تحديداً، أثناء خطابٍ في تجمُّعٍ حاشد مؤيِّد لفلسطين في اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر 2023، تعرَّض إلى تعليق عُضويَّته في حزبه بصورةٍ مباشرة. كانت كلماتُه، التي أدانتها الحكومة باعتبارها “مُهينةً للغاية”، على النحو الآتي: “لن نرتاح قبل تحقيق العدالة، قبل أن يستطيع كلٌّ من الإسرائيليِّين والفلسطينيِّين، بين النهر والبحر، العيش بحرِّيَّةٍ سلميَّة”. إنَّه من الصعب تخيُّل رؤيةٍّ أكثر شمولاً ومساواةً لمستقبل فلسطين وإسرائيل من تلك التي عبَّر عنها ماكدونالد، ومع ذلك، فإنَّ جهود المجموعات المؤيِّدة لإسرائيل إلى إعادة اختراع معنى هذا الهتاف في المخيِّلة الجمعيَّة قد وفَّرت الأرضيَّة اللازمة لتفسير كلماته بسوءٍ نيَّةٍ أفضى في نهاية المطاف إلى تعليق عضويَّته.
على نحوٍ مماثل، تعرَّضَت النائبة الديموقراطيَّة رشيدة طليب للتوبيخ من قِبل الكونغرس جرَّاء استحضارِها الرؤية المشتركة للتحرُّر الجماعيِّ الذي تنطوي عليها تلك الكلمات. لقد وصف قرار توجيه اللوم الصادر عن الكونغرس العبارة بأنَّها “دعوة إباديَّة تحثُّ على استخدام العنف من أجل تدمير دولة إسرائيل وشعبها”. في غضون فترةٍ لا تتجاوز عاماً واحداً، تحوَّل الخطاب بصدد العبارة من اعتبارها “شعاراً شائع الاستخدام في الحملات المؤيِّدة لفلسطين” إلى وصمها كـ “دعوة إباديَّة تحثُّ على استخدام العنف”.
يقول إليوت كوَّلا: “هناك تأويل خبيثٌ في الإصرار على أنَّ عبارةً قد تغيَّر معناها مرَّاتٍ عديدةً على مدى أكثر من 75 عاماً لا يمكن إلَّا أن تحملَ معنى واحداً لا ليس فيه”. لطالما كانت الهجمات وحملات التشهير التي يتعرَّض إليها أولئك الذين يصدحون بهتاف “من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين” جزءاً من إستراتيجيَّةٍ تهدف إلى كلٍّ من تقويض، وإنهاء، حقِّ الفلسطينيِين بتقرير مصيرهم. تعمل هذه الإستراتيجيَّة من خلال الإلهاء، وتسعى إلى جعلنا ننسى ما يحدث في غزَّة ونتورَّط في معركةٍ من أجل كرامتنا وحقِّنا في التعبير بحرِّيَّةٍ ووضوح، وإلى إغراق غضبنا من إبادة غزَّة في موجةٍ من صخب الخلافات الدلاليَّة، مثلما فعلوا تماماً بصدد تعريف معاداة الساميَّة كما حدَّده التحالف الدوليّ لإحياء ذكرى الهولوكوست.
إنَّ إستراتيجيَّة التشتيت وحرف المسار جسيمة وخطيرة، لكنَّها لن تُحقِّق نجاحاً على المدى الطويل؛ إذ لن يكون بمقدور أيِّ جهدٍ لإعادة تحديد ما يمكن، أو لا يمكن، قوله عن إسرائيل وفلسطين أن يقضي تماماً على منطقنا السليم أو يوهِن إحساسنا بالعدالة. سنواصل المسيرة. سنستمرُّ بترديد هذه الكلمات التي لطالما ردَّدتها بقوَّةٍ أجيالٌ من الفلسطينيِّين منذ خطَّة الأمم المتَّحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947، حتَّى تحرير فلسطين.