صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة “ترجمان”، كتاب “ما الغرب؟” وهو من تأليف فيليب نيمو وترجمة مراد دياني. يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، ويتناول بالبحث الأصول التاريخية والدينية للفكر الغربي ومدارسه التاريخية القديمة والحديثة، وأهم مذاهبه الفكرية، ويتطرق إلى الثقافة الغربية وأصولها وتأثيراتها في وحدة الغرب وتشتته. يقع الكتاب في 184 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
استهلال يكشف التوجّه
كان استهلال فيليب نيمو كتابه ما الغرب؟ بمقارنة بين رسالتين منفصلتين في المكان والزمان مشتركتين في ظروف تدبيجهما، لكل من يوهان فيخته الألماني في عام 1808، وجوليان بندا الفرنسي بعد قرن وربع من الزمان (عام 1933)، لظروف الخوف على مصير جماعتيهما المهددتين في وجودهما، حينما كانت الغزوات النابليونية تهدد ألمانيا فيخته، والحرب الأهلية الأوروبية تهدد أوروبا بندا، دليلًا واضحًا على وجهة نظر الفيلسوف الليبرالي نيمو، المتمثلة في أن الغرب مهدَّد، وأن التعريف به هو من أجل التحضير للدفاع عنه. عرّف نيمو الغرب بقواسم حالية مشتركة، مثل: سيادة القانون، والديمقراطية، والحرية الفكرية، والعقلانية النقدية، والعلم، والاقتصاد الحر. وقد رأى نيمو الغربَ ثقافةً أكثر مما هو ائتلاف شعوب، ثقافةً بُنيت عبر خمس مراحل رئيسة: الابتداع الإغريقي للمدينة، والحرية في ظل القانون والعلم والمدرسة، والابتداع الروماني للقانون والملكية الخاصة والمذهب الإنساني، وثورة الكتاب المقدس الأخلاقية والأخروية (“الإصلاح الغريغوري” بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر)، وأخيرًا تعزيز الثورات الكبرى للديمقراطية الليبرالية. ويذهب إلى أن قفزة الغرب التطورية على المستويين العلمي والمجتمعي لا رجعة فيها، وأن أي بلاد لا يمكنها ادعاء الانتماء إلى الغرب من دون تحقيق الشروط الخمسة السالفة الذكر.
وبقراءة نقدية لأولى المراحل الخمس – انبثاق المدينة الإغريقية عقب انهيار قدسية الأنظمة الملكية، وبروز نظام بديل ما قبل ديمقراطي للحكم، وإخضاع السلطة للنقاش والعقل، وقيام مبدأ مساواة المواطنين (دون النساء والعبيد والمتحدرين) أمام القانون، وتحوُّل الدين إلى علاقة “عمودية” بين الإنسان والله – يلاحَظ افتقاد نيمو لنقاش سؤال المعلم الأول أرسطو: كيف تكون مدينةٌ فاضلةً، إذا لم يكن مواطنوها كذلك؟ وسكوته عن كون المدينة اليونانية القديمة تدين في إبداعاتها للشرق، وهو ما كان يعترف به الإغريق أنفسهم، ولا سيما حضارات الشرق المصرية والبابلية.
أما القانون الروماني، فيَعدّه نيمو محرِّرًا للإنسان الفرد من التقليد (الفردانية) ومؤسِّسًا لرؤية “إنسانية” الفردُ فيها إنسانٌ قبل انتماءاته القبَلية والأسرية والدينية، ومستقلٌّ إزاء الجماعة، ويعتبر أيضًا القانونَ مولِّدًا لمفهوم الملكية الخاصة. إلّا أن ما فاته، بافتراضه ابتداع روما للفردانية، هو أن المجتمع الروماني كان قائمًا على نظام العُصبات، فلا بد والحالة هذه من الإقرار بأن قانون روما كان ينطبق على الإنسان الاجتماعي وليس الفرد، وفاتته كذلك الإشارة إلى أن مذهب الفردانية تبلورَ في أزيد من ألف عام، وليس في زمان الدولة الرومانية وحده.
أما نظر نيمو إلى الكتاب المقدس، بوصفه ينتزع الإنسان من تفاهة الوجود، فقد دفعه إلى الشعور بالقلق على البشرية بأسرها التي “تعاني”، والدعوة إلى تغيير نظام الأشياء لإحداث تقدُّم، متناسيًا مقاربة الكتاب المقدس القائلة بأن حصيلة التاريخ هي عهد المسيح الدجّال، وبعده تتحقق “عودة المسيح” المنتظَرة ليقيم مملكته التي قال عنها: “مملكتي ليست من هذا العالم”؛ أي إنها ليست من العالم الذي يسعى نيمو لتغييره، مميِّزًا بين مسارَي السلم الإيجابي والعنف الثوري: السلم الإيجابي الذي حققه – في رأيه – “الإصلاح الغريغوري” في القرون الوسطى، حين اعتبر البابا غريغوري السابع وخلفاؤه أن الانتظار السلبي لعودة المسيح أدى إلى فوضى، وأنّه يجب تغيير الذهنيات إلى الاقتناع بأن المسيح لن يعود إلا ببذل البشر جهدًا ليستحقوا “نعمة الله”. ويرى نيمو أيضًا أن هذا الإصلاح بنى فكرة “المدينة الأرضية”، التي تنحو نحو “مدينة الله”، في اختلاف جليّ عن المسيحية الأرثوذكسية وتناسق مع البروتستانتية، معتبرًا أن الإصلاح الغريغوري يجد تتويجه في اللوثرية!
أما العنف الثوري، فيرى نيمو أنه تطور تاريخي، جاءت الثورات “الليبرالية” في القرن الثامن عشر لتتويجه وتكريس القواسم الحضارية المشتركة لشعوب الغرب، شارحًا كيفية تبلوُر النظام الليبرالي في تلك الفترة على المستوى الاقتصادي المرتبط عضويًّا بتأسيس “الغرب” المعاصر.
الأفكار المؤثِّرة في اتجاه المؤلف الفكري
كان نيمو متأثرًا بـ “النظرية الليبرالية التطورية” التي وضعها فريدريك هايك، أكثرُ مَن شرح نيمو أعمالَه، وهي مستندة إلى حتمية ديناميات النشوء والتطور نحو “المجتمع المفتوح”؛ ولذلك نظر نيمو إلى الديمقراطية الليبرالية، بوصفها ظاهرة غربية، من الصعب ترسيخها في مناطق غير غربية، لا يوهلها تطورها التاريخي لذلك. وبناء عليه، ينظر نيمو إلى التطور التاريخي بوصفه تسلسلًا خطيًّا غير قابل للعكس أو تغيير المسار، وإلى الليبرالية الاقتصادية بوصفها ترجمة لمبدأ “السوق” عند آدم سميث وفريدريك هايك، الذي يعتبره شكلَ التنسيق الاقتصادي الأرقى في التاريخ، على رغم أن واقع عالم اليوم يدحض كلامه هذا عن “الديمقراطية الليبرالية”، مع تواتر الأزمات المالية والاقتصادية عالميًّا، وتركيز المؤسسات المالية السلطتين الاقتصادية والسياسية في يد عصابة صغيرة من الأغنياء في الغرب الحديث، الذي تولدت داخل حدوده اختلافات اجتماعية عميقة أثارت نقاشات حامية. أما الغرب القديم، فكان صمته تجاه آثامه المتعددة مدوّيًا، من الحروب الصليبية إلى محاكم التفتيش، إلى مذابح سان بارتيليمي، إلى الإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين، إلى التجارة الثلاثية ونظام الرق، إلى الاستعمار وويلاته، إلى مجازر الحروب، إلى آفات النازية والفاشية … وغير ذلك، إلى درجة أنه بات صعبًا للغاية تصور غرب “أحادي” و”ملائكي” كما يصفه فيليب نيمو، وأصعب منه نفي سيطرة الإثنية المركزية على “أسطورة” التقدم التي ذخّر بها كتابه.
إن الناظر بدقة إلى حواشي كتاب ما الغرب؟ ومتنه لا بد أن يستشف نظرة نيمو الأحادية الإقصائية إلى الآخر، والنافية لأي رافد غير غربي في تبلور الحضارة الغربية، وخصوصًا العربي – الإسلامي، الذي تشدد في إنكاره بقوله (بتصرف): “إذا كان الإسلام قد امتلك كل عناصر التطور الذاتي، فإنه تطوّرَ بحيث لن يتم استعماره، فإن لم يعرف سوى تأخُّر فإن من شأن الاستعمار درء تأخره هذا، وفقًا لسيناريو اليابان. ويجب علينا الإقرار بالمشكلة العميقة في تطور الإسلام علميًّا واقتصاديًّا، وعلاقته بالعالم، ونمط المجتمع الذي يُولّده”؛ وهو ما ينمّ عن جهل نيمو العميق بالسنة الكونية لصعود الحضارات وهبوطها وتداوُل الأيام بينها، وفق الرؤية الخلدونية الحصيفة.
من ناحية أخرى، يرى نيمو في كتابه أن البناء الأوروبي بدأ رحلة قلقٍ على المصير، بعد سعي أنصاره لتوسيع أوروبا في الشرق والجنوب، وإثارة مسائل “الإرهاب” و”انتشار أسلحة الدمار الشامل” و”العولمة الاقتصادية” … إلخ، انفعالاتٍ يمكن أن تبلغ حد الطلاق بين أوروبا وأميركا. ويشير كذلك إلى “مشكلة” بالنسبة إلى أوروبا تتمثل في تكريس مجتمعات أوروبية متعددة إثنيًّا وثقافيًّا بسبب مدّ الهجرة.
أسئلة مصيرية في نظر المؤلف
ما الغرب؟ هل لحضارته وثقافته وحدة أعمق من انقساماته الجيوسياسية؟ هل لديه قيم ومؤسسات مشتركة تجعل منه عالمًا موحَّدًا وتميِّزه من العوالم الصينية واليابانية والهندية والعربية – الإسلامية والأفريقية، أو حتى من العوامل التي تُعَدّ قريبة منها، مثل الأرثوذكسية الشرق – أوروبية والروسية، أو الأميركية – اللاتينية، أو إسرائيل؟ هل يوجد تضامن عميق بين بلدانه يبرِّر توحيدًا سياسيًّا؟ وإذا كان اختفاء أو ضعف صور “الكونية” عن حضارة الغرب يؤثِّر – كما يدّعي نيمو – في البشرية جمعاء، فهل ينبغي أن ندافع عن هذه الحضارة ضد التهديد العسكري ومخاطر التفكك عبر تصاعد الطائفيات أو التهجين الثقافي؟ أسئلة طرحها الكتاب لا للإجابة النهائية عنها، بل لتقديم بعض المفاتيح التاريخية والفلسفية للإجابات الممكنة، وما على القارئ سوى سبر أغوارها ومحاولة التعرف إلى مجاهلها.
كتاب فيليب نيمو “ما الغرب؟” خَلَف مجلدين ضخمين له في المضمار نفسه وكانا عصارة جهد بذله لعقد ويزيد من الزمان، هما: “تاريخالأفكار السياسية في العصور القديمة والوسطى”، و”تاريخ الأفكار في العصور الحديثة والمعاصرة”؛ فجاء هذا الكتاب الصغير – بصرف النظر عن نقاط النقد السالفة – لتعريف القارئ العربي بجوانب أساسية في “الغرب”، نادرًا ما تحظى بمقاربة موضوعية بأقلام عربية، ولتكريس تعددية يمينية ليبرالية محافظة في تاريخ الأفكار الغربية التي اتسمت غالبًا بالأدلجة والتحيزات اليسارية.