عزيزي تسلمت رسالتك الآن، وفيها تخبرني أنك أتممت لي كل ما أحتاجه ليدعم إقامتي معك في ساكرمنتو، وكذلك وصلني ما يشعر بأنني قبلت في فرع الهندسة المدنية في جامعة كاليفورنيا، لابد لي يا صديقي من شكرك على كل شيء، ولكن سيبدو لك غريباً بعض الشيء أن أزف إليك هذا النبأ، وثق تماماً يا مصطفى أنني لا أشعر بالتردد قط، لقد غيرت رأيي، فأنا لن أتبعك إلى حيث الخضرة والماء والوجه الحسن، كما كتبت، بل سأبقى هنا، ولن أبرح أبداً. (ثلاث ورقات من فلسطين، ورقة من غزة)
يختار العرض المسرحي “غزال عكا” أن يتعامل مع شخصية أدبية ونضالية مثل “غسان كنفاني 1936-1972” من باب تقديم الحكايات الشخصية، الذكريات العائلية، والأمثولات النضالية التي ترويها كاتبة وممثلة العرض رائدة طه. إنه اختيار السيرة الذاتية للكاتب من جهة حياته الخاصة، العائلية، الصداقات، العادات اليومية، ولكنه بالوقت عينه ذكريات الحدث السياسي والاجتماعي الفلسطيني. لكن هذه الحكايات المختارة من السيرة الذاتية، سرعان ما تكشف عن تقاطعات مع نصوص غسان كنفاني الأدبية والفكرية. ومن هنا تأتي أهمية العرض المسرحي، من الكشف عن التداخل بين الذاتي والجمعي، بين الفردي والوطني، بين الواقعي والأدبي في حياة غسان كنفاني.
يبين الدراماتورج والمخرج جنيد سري الدين في تقديم المسرحية عن أهمية استعادة الحكاية الفلسطينية في هذه اللحظة التاريخية، عن أهمية استمرارية المسرح الحامل للحكاية. وتفاعلاً مع العنف الحاصل في فلسطين اليوم، فقد طلب المخرج الوقوف دقيقة صمت إجلالاً لأرواح الضحايا والشهداء، كما طلب أحد الحضور من الجمهور أن يقف المسرح دقيقة صمت أخرى وإكباراً لأرواح الضحايا والشهداء. تبدو، دقيقة الصمت هذه التي تجمع بين المنصة والجمهور، كأنها أيضاً جزء من العرض المسرحي، إنها دقيقة صمت من جمهور التاريخ المعاصر إلى إبداع غسان كنفاني.
تمتلك الكاتبة والممثلة رائدة طه عديد الذكريات عن حياة كنفاني الشخصية، لكن الحكايات تبدأ مع اكتشافها الأول لغسان كنفاني. في لبنان، كانت الطفلة رائدة تطلب من والدها أن تغنجها كما تفعل والدة صديقتها، فأجابت الأم: “نحنا ما عنا عنج، وصار لازم تقري غسان كنفاني”. وكأن كنفاني مقابل الغنج في الثقافة الفلسطينية. يكتب كنفاني في “أبعد من الحدود”: “اسمح لي يا سيدي أن أرتجف أمامك ريثما يبرد الحساء، أنت لن تمنعني من الارتجاف، أليس كذلك؟ أنه حق ما زال متوفرا لي حتى الآن، شيء مؤسف لكن حقيقة واقعة، أن رجالك لا يستطيعون أن يمنعوني من ذلك، أعتقد أنهم يرغبون في ذلك، أليس الارتجاف حركة؟ ولكن كيف يتعين عليهم أن يفعلوا؟ أيعطونني معطفا؟ كيف؟ يعطون الخنزير معطفا؟”. لقد قرأت طه أدب ونصوص كنفاني في الطفولة، وفي المراهقة، وفي النضوج، وحتى اليوم تكتشف عند كل قراءة أبعاداً جديدة: “كل قراءة ما تزال قراءة جديدة. حينما أردت أن أكتب هذه المسرحية، لقيت أنو غسان كاتبها قبلي”.
تتشكل سينوغرافيا العرض من كرسي، لمبدير، ومكتب، وبشكل أساسي الأوراق التي تشكل فصول المسرحية، أي النص المسرحي، الذي توزعه الممثلة على طاولة خشبية، تفرده أمام الجمهور. يكتب كنفاني: “لا يا سيدي، لا تحاول أن تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف الذي يحتوي على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي، تريد أن تعرف شيئا عني؟ هل يهمك ذلك؟ أحسب على أصابعك إذن”. فصول من حياة كاتب أديب، ولكنها التاريخ. النكبة، النزوح، المخيمات، دفاتر الطفولة، الاغتيال، الحياة، فصول الحياة على طاولة مسرحية. يكتب كنفاني في “ثلاث أوراق من فلسطين، ورقة من الرملة”: “وكأنما ذكريات أبي عثمان تنخر في عظام الناس بإصرار، هذه الذكريات الصغيرة التي حكاها أبو عثمان لكل رجال الرملة وهم مستسلمون له على كرسي الحلاقة. هذه الذكريات التي بنت لنفسها عالماً خاصاً في صدور كل الناس هنا، هذه الذكريات بدت كأنها تنخر في عظام الناس بإصرار”.
يحضر الموت اليوم في الراهن الفلسطيني، كما يحضر في حكايات العرض المسرحي، حكاية من الذاكرة ترويها الممثلة، وهو عن حوار بين والدها المناضل علي طه وغسان كنفاني في مكاتب جريدة الهدف، وتتمحور حول توقع من يموت منهما أولاً. مما يذكر بنص كنفاني: “وأية حياة هذه، والموت أفضل منها والصراخ يا سيدي عدوى فإذا الجميع يصرخ دفعة واحدة، أية حياة هذه، الموت أفضل منها، ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرا فلا بد أن يفكروا بأمر آخر سيدي , أخشى أن يكون حساؤك قد برد فاسمح لي أن أنصرف”. ويأتي في قصة بعنوان “الأخضر والأحمر”: “لم يكن يظن لحظة واحدة، أنه قريب من الموت قرب أنفه من الهواء. قالوا له مرة إن هذا خطأ مهلك، وإن الحياة لا قيمة لها قط إن لم تكن دائماً واقفة قبالة الموت”. مع هذا المضمون الوجودي حول الحياة والموت، تتقاطع نصوص كنفاني مع مقولات العرض المسرحي، تقول الممثلة: “هذا التاريخ حافل بالوقاحات”، ويكتب كنفاني في قصة “الخراف المصلوبة”: “كل الأبعاد التي امتدت أمام بصري بلا نهاية كانت تحترق في شمس الصيف الملتهبة، والغبار كان يصفح نافذة السيارة بإتصال، حينما كنت أنقل نظري في وجوه رفاق السفر كنت أحس بوضوح كم هي قاسية رحلتنا، وعادت تطن في رأسي تلك الجمل الحقيرة التي ما برحت تسليني منذ بدأنا الرحلة: هذه رحلة عجيبة، اليوم ليست سوى مأساة، وغداً سوف نقول نقول عنها إنها مغامرة”.
أوضح ما يحضر الموت في امتداده بين اغتيال كنفاني، والموت الفلسطيني اليوم، في تلك المرثية التي كتبها محمود درويش “في محاولة رثاء بركان” وقرأتها الممثلة على المسرح: “اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك، تبقى شظايا منه ضائعة في الرّيح، وعلى سطوح منازل الجيران، كم يشبهك الوطن!، وكم تشبه الوطن! جميلٌ أنت في الموت يا غسّان، بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك، وانتحر، لقد انتحر الموت فيك، انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة، اكتمل الآن بك، واكتملت به، أيها الفلسطينيون، احذروا الموت الطبيعي!، هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني، لا يكون الفلسطيني فلسطينيا إلا في حضرة الموت”.
وتنتقل بنا المسرحية تالياً لتجسيد مشهد اغتيال كنفاني: “دخل جوه عند الأولاد، بطُلهم ترين الكهربا، نزل عالدرج، وراه لميس، شاف ليلي تحت، قالتلو خدني عالدكان اللي براس الشارع اشتريلي شوكلاطة، سحب من جيبته شوكلاطه وأعطاها إياها ومشي على سيارته، فتح باب السيارة، قعد فيها، لميس وراه بس بعيدة من الباب، غسان حط المفتاح، لميس حطت ايدها على مسكة الباب، غسان لف المفتاح، ليلى عم تاكل شوكلاطة، الأولاد عم يلعبو بالترين، وآني زوجة غسان قاعدة عالبرندا”. لحات انفعالية درامية تعيد الممثلة رويها مرة أخرى على المسرح، بإيقاع مختلف، بإحساس مغاير، وتلقي لحظة انفجار السيارة بأوراق فصول المسرحية التي ترمز لكتابات وأفكار وحياة كنفاني، تماثل بين موت الفلسطينيين اليوم وبين اغتيال كنفاني، توصيف الأشلاء، الحزن، الندب، لحظة الفظيعة، ومشاعر الفقدان. لتنهي الممثلة مشهد تجسيد الاغتيال بعبارات مستمدة من نصوص كنفاني في الساعة الحائطية التي تدق على طول صفحات رواية “ما تبقى لكم”: “احصي تلك الخطوات المعدنية الباردة تدق في الجدار، تدق، تدق، تدق، داخل النعش الخشبي المعلق أمام السرير، دقات النعش، دقات محشوة بالحياة يقرعها بلا تردد فوق صدري حيث لا صدى، ثمة إلا الرعب. الوقت كان يتسرب من بين خطواته، ليس ذلك فقط كان ضده. وهو يدق خطوته الأبدية المفردة في نعش صغير مغلق بإحكام”.
تروي المسرحية عن كتابات فارس فارس الاسم الصحفي المستعار لكنفاني، الذي أصبح ما يقارب القرين أو الشخصية المستقلة، وتذكر أن فارس فارس كتب نقداً لكنفاني في مجلة الأنوار، ورد عليه كنفاني في مجلة الصياد، هي كتابات نقدية بين الأديب والناقد، الذات ورؤيتها النقدية، المبدع وقرينه النقدي. وتتناول المسرحية رسومات كنفاني التشكيلية، وتروي الممثلة حكاية عن المرحلة التي درس فيها كنفاني الرسم، حين طلب من التلامذة أن يرسموا “المرعب”، فتتالت رسومات الوحوش، الأشباح، الحيوانات الضخمة، والغابات المظلمة، لقد أخبر كنفاني الأطفال بأن كل ذلك فظيع لكنه ليس مرعب، وراح يرسم بطاقة الإعاشة والمساعدات للاجئين باعتبارها المرعب. وهنا تؤدي الممثلة على المسرح أغنية “مؤن مؤن مؤن، من هيئة الأمم، كلوا بلا ثمن، من هيئة الأمم” وهنا تتابع الممثلة بأداء ساخر أغنيتها تعبيراً عن الشروط والقواعد التي تفرضها هيئة الأمم في تقديم المساعدات للاجئين، ألا يبني بيتاً أو يمتهن عملاً.
الحكاية الوحيدة المتعلقة بالذائقة الموسيقية لكنفاني، هي حكاية عن التصميم والصرامة، كان يعشق المغنية “إريثا كيت” وينصت بإستمرار لأغانيها، تطلق الممثلة على المسرحية أغنيتها (I Wanna Be Evil)، إلا أن يعرف كنفاني يوماً أن مغنيته المفضلة أقامت حفلة غنائية قدمت ريعها إلى وكالة دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة: “لقد كسر أسطواناتها واحدة تلو الآخرى، ولم يعد ينصت لها أبداً، هكذا كان غسان في التصميم والصرامة”. حكايات شخصية أخرى خاصة من حياة كنفاني، مرضه بالسكري، عشقه الشوكولا، تحضير أبر الأنسولين يومياً، لكن أيضاً حياة السهر والسكر والتدخين والرقص. سأل أحد الصحفيين الأجانب كنفاني: “هل يعقل أن يكون الأديب والمناضل والناطق باسم الجبهة النضالية يعيش هكذا؟”، فأجاب كنفاني: “إننا نناضل من أجل هذا، من أجل الحياة”.
تحضر موضوعة اللجوء والمخيمات في أكثر من محور في العرض المسرحي، في بطاقة الإعاشة المرعبة، لكن أيضاً في حكاية البحث عن العمل الأول في حياة كنفاني، فكر بالعمل كاتب عرائض إلا أنه اكتشف ألا رصيف للاجئ، يكتب كنفاني: “لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وأنه لاجئ في حيث لا أدري، غير قادر على حلّ مشاكل نفسه، وأننا نحن، اللاجئين البشر، القاعدين على الرصيف منتظرين قدراً جديداً يحمل حلاً ما، مسؤولون عن إيجاد سقف نقضي الليل تحته، كان الألم قد بدأ يفتك بعقل الصغير الساذج”. ويتخصص الثلث الأخير من العرض لرواية حكايات النكبة، دخول الإسرائيليين إلى فلسطين، ورحلة النزوح من يافا إلى عكا إلى صيدا فالحازمية في بيروت. تستلهم اللحظة الدرامية المسرحية نصوص قصص من أدب كنفاني، وخصوصاً قصة (أرض البرتقال الحزين) حيث تؤدي الممثلة بإيحاءات وجدانية لحظة الخروج من فلسطين، وتأمل بيارات البرتقال من رأس الناقورة: “وعندما بدأت رأس الناقورة تلوح من بعيد، غائمة في الأفق الأزرق وقفت السيارة، ونزلت النسوة من بين الأمتعة وتوجهن إلى فلاح كان يجلس القرفصاء واضعاً سلة برتقال أمامه مباشرة، وحملن البرتقال، ووصلنا صوت بكائهن، وبدا لي ساعتذاك أن البرتقال شيء حبيب، وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي شيء عزيز علينا، كانت النساء قد اشترين برتقالات حملنها معهن إلى السيارة، ونزل أبوك من جانب السائق، ومدّ كفّه فحمل برتقالة منها، أخذ ينظر إليها بصمت، ثم انفجر يبكي كطفل بائس”.
تنتهي المسرحية بمشهد يتخيل فيه النص المسرحي رحلة يقوم بها غسان كنفاني مع عائلته بالسيارة بين الحازمية وعكا، وذلك بعد خمسين عاماً على وفاته، يتخيل المشهد الحوارات الممكنة بين كنفاني وأفراد عائلته، زوجته ومؤسسة غسان كنفاني، ابنته وعلاقتها مع رحيله ومع الزمن، وحفيدته في استمرارية كنفاني في الطفولة الفلسطينية إلى اليوم، مستذكراً قصة (القنديل الصغير) وهي أول قصة أدب أطفال كتبها كنفاني وقدم رسومها، وأهدى كنفاني القصة لابنة شقيقته لميس حسين نجم المولودة في 12 يناير 1955، التي قتلت معه بالقنبلة التي فجرت سيارته في 8 تموز 1972. كتب في المقدمة الإهداء التالي:
“بعد كل هذه السنوات يبدو لى أنى عرفت
أخيراً من أنـا.. وأين طريقـي ولذلك فأنـى
لن أستطيع أن أكتب لك شعراًلانى لست شاعراً
ولا مقالا لأنى لست كاتب مقال .. ولكى أحافظ
على وعدى لك وهديتى اليك قررت أن أكتب لك
قصة فمهنتى أن أكتب قصة.. وسوف أكتب لك واحدة
اسمها القنديل الصغير..تكبر معك كلما كبرت”.
تأليف موسيقي: ليال شاكر
تصميم أزياء: محمد صفي الدين
تصميم غرافيكي: لين صابونجي
مساعدة مخرج وإدارة الخشبة: جنى بو مطر
إدارة تقنيّة وتصميم الإضاءة: انطونيلا رزق
تنفيذ صوت: ليا حداد.
أغنية “مؤن مؤن” لعبدالله حداد