فواز طرابلسي: “زمن اليسار الجديد” سؤال النشأة وسياق التحولات

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

بالتالي هناك دور لليساريين بانتظار أن يلعب، إذا لم يلعب الجواب جداً بسيط، يحل محله تطرف يميني، أو تطرف ديني، وهذا ما يحدث. التحدي إما أن ترتقي لتكون قوة تجمع العداء للعولمة النيوليبرالية إلى الديمقراطية بما تعني المساواة في المواطنة وليست فقط التعدد، وفعلاً أنت حزب الأجوبة على النيوليبرالية، حزب العدالة الاجتماعية الحقيقية. 

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/01/2024

تصوير: اسماء الغول

المعتصم خلف

كاتب فلسطيني سوري

المعتصم خلف

صدر له كتاب "أقرب من البعيد بقليل"

“وإن أعادوا لك المقاهي القديمة فمن يُعيد لكَ الرفاق!؟”… محمود درويش

قبل خمس عشر عاماً ختم الكاتب والمؤرخ فواز طرابلسي كتابه “صورة الفتى الأحمر” بلازمة تشبه الحلم، لجدة تروي لحفيدها حكاية الطفل الذي يحاول إفراغ البحر بصدفة، ليروي لنا في الكتاب تجاربه السياسية مع الأحزاب والثورات بصيغة بين التحليل السياسي والطابع الأدبي. ليعود اليوم بكتابه الجديد “زمن اليسار الجديد” الصادر عن دار رياض الريس للنشر والتوزيع، محاولاً استعادة التجربة بصيغة توثيقية تحليلية تناقش بعمق تجاربه في تنظيمات اليسار، تنظيم لبنان الاشتراكي ومنظمة العمل الشيوعي ومحاولاً، إعادة تقييم الحرب وأسئلتها المحورية، ليكون الكتاب أكثر من كونه سيرة شخصية. 

كان لنا هذه المقابلة المطولة مع المؤرخ فواز طرابلسي، حول السياق الشخصي والعام في الماضي والحاضر، عن المثقف المتحزب وخياراته العسكرية، والجيل الحالي ومحاولات التغيير، عن الأمل كمرآة للخيبة ودافعاً ضمنياً للاستمرار.
 

بداية أستاذ فواز. كتاب جديد عن تجربتك في تنظيمين من تنظيمات اليسار الماركسي، “لبنان الاشتراكي” و”منظمة العمل الشيوعي في لبنان”، في مرحلة ما زال يعجز  فيها اليسار عن اكتشاف طريقه بين الثورات المضادة للربيع العربي والأنظمة الحاكمة. كيف تقرأ توقيت صدور كتابك في هذه المرحلة تحديداً؟ 

بالفعل يمكن القول إن قرار بدء العمل على هذا الكتاب قد تأخر. 

منذ خمسة عشر عاماً نشرت كتاب “صورة الفتى الأحمر” الذي اتخذ طابعاً أدبياً للتعبير عن السيرة والتجربة، لكنه لم يشمل كل تفاصيل تجربة تنظيم لبنان الاشتراكي ومنظمة العمل الشيوعي، ولم يتطرق لتقييم الحرب. كانت في ذهني دائماً فكرة أن هناك تكملة، تأخرت فعلاً في نشر هذه التتمة، التي تعدت عن سابقتها كونها فقط سيرة. 

في البداية قررت أن تكون على شكل مقابلات، ولكن تعدت الأسئلة مجرد صيغة المقابلات، لتتحول أكثر إلى كتاب، وأنا شاكر لمريم يونس التي بدأت العمل معها كمحاور، ولكن الكتاب تعدى مجرد الحوار، ليستمر العمل على الكتاب لمدة ثلاثة سنوات، بالتالي توقيته ناتج عن ظروف كتابته. 

همي الأكبر في السؤال الذي تطرحه، أن هناك ما يقارب الأربع  أو الخمس أسئلة في الكتاب، أعتقد أنها تعنينا حميعاً، وهي أسئلة مراجعة، فجأة اكتشفت أننا راجعنا نكسة 1967 بمناسبة الهزيمة، ولكن لم نعمل على الهزيمة، الأمر الثاني هو الحرب الأهلية، وهناك عدة أسئلة غير مطروقة سابقاً، وهناك خلاصة قراءة نقدية لفكر هذا اليسار، مشتركة كثيراً مع سائد هذا اليسار، وهناك توقف أمام سؤال كيف يمكن تفسير هذا الانهيار الفكري بدايةً لدى الكثير من اليساريين.  
 

في فصول النشأة، نرى التمرد كدافع لخلق المساحات للتعبير والرفض، ليكون ردة فعل مستمرة لقضايا وثورات عربية، كيف ترى هذه النشأة القائمة على التفكير والنقاش بالنظر لمحاولات الجيل الحالي خاصة في معركة امتلاك المساحات؟  

امتلاك المساحات لا يكفي لامتلاك الأزمنة. 

نحن جيل الخمسينات والستينات والسبعينات، عشنا في فترة استكمال التحرر الوطني، وفعلياً لا يجوز تضييع اللحظة التاريخية. حركات التحرر الوطني في وقتها كانت على مستوى ثلاث قارات، وبدأ الهجوم المضاد الأميركي والبريطاني والفرنسي، على حركات التحرر الوطني، الذي بدأ بتأميم قناة السويس، العدوان الثلاثي على مصر، الثورة الجزائرية، التي أثرت عليَّ كثيراً وعلى جيلنا، أذكر نساء بيروت عندما كنّ يرمين صيغتهن في حملات جمع التبرعات للثورة، وأذكر أن كان لها مندوباً اسمه أحمد الصغير، وأول مرة قابلت طلال سلمان في فترة المراهقة ضمن حملات التضامن. 

هذا المدى الذي لم يعد موجوداً، الوعي الذي كان أكثر من مجرد مساحة، إنه زمن، كان موضوعا فيتنام وكوبا حاسمين في هذا العالم الذي فيه أممية حقيقية للتضامن، هناك شعوب تقاوم متضامنة مع شعوب تخوض ذات تجربتها، ليس مناصرة المنظمات غير الحكومية “NGOs” التي تؤيد غيرها فقط، لا، كان هناك شعوب هي نفسها تتعرف وتخوض التضامن مع الآخرين لأنها تخوض ذات التجربة. 

بيروت كان لها دور أساسي لأسباب كثيرة، منها بدأ توافد مثقفين عرب، منها مركزيتها الثقافية، ما سمح كثيراً أن تلعب هذا الدور، لتكون الحاضنة للتفكير السياسي الثقافي لمثقفين ومعارضين سوريين وعراقيين عادةً، واستمر هذا الدور فعلياً حتى السبعينات إلى حين احتضان المقاومة الفلسطينية، مختلفاً كلياً عن الوضع الحالي، الذي أعتقد أنه حكم حياتنا كلها ومسيرنا وخياراتنا في العمل السياسي والحزبي، في هذا المعنى اللحظة الزمنية كانت حاسمة، وهي نهاية حركات التحرر، ما استقل منها وما انهار منها، تحت وطأة الهجوم المضاد، 1967 هي تلك اللحظة، كانت نهاية عبدالناصر وآخر نظام حركات التحرر الذي عملياً سقط بسبب حرب شنت عليه بالواسطة، في حين كانت الولايات المتحدة تنظم الانقلابات في هذا العالم.

كل الرد على حركات التحرر كان تتويجها 67 في منطقتنا. بمعنى ما، ما قلته في الكتاب أن التمرد الفردي انعقد مع التمرد الجماعي، هكذا عشنا. 

متمردين على المدرسة الداخلية، بالتالي حرب السويس، ودور الاستعمار البريطاني الذي بدأ ينحسر عن المنطقة. كل هذا أخذ طابع الوعي السياسي، والتطور الفكري الذي كان له علاقة بتطور هذه الحركات. 

أما موضوع الجيل الحالي، شغلني لفترة طويلة الذي يمكن أن تبدأ به في عام 2011، وهو قبل أن يكون تعليقاً على جيل، نحن لم نعطِ الحدث الاهتمام الذي يستحقه، أنا أُخذت بشعار (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) وكنا أمام تحدٍّ غربي يقول بأن المنطقة غير قادرة على فعل الديمقراطية، في هذا الشعار جواب ليس فقط على هذا التحدي، بل وجدت فيه تفسيراً لهذا الحدث، بطالة واستبداد وتفاوت اجتماعي مناطقي وانتهاك للحرية، ولكن تبين لي أن لا علاقة لهذا الشعار بوعي لفاعلين وما يفعلونه، هذه أول مفارقة مدهشة، كأن الشعار ظهر من مجموعة سياسية، فيه التشخيص وفيه الحل، ولكن تم إبعاد هذا الشعار عن الممارسة، وعن الأساليب النضالية، وهذا ما طرح موضوع سؤال القوى. 

لدي شعور أنه كان هناك أثر ثقافي كبير على الجيل الذي نزل إلى الساحات، وهو مشترك في مضمون احتلال المكان، الذي تم التعبير عن بواسطة الساحات، ساحة التغيير في اليمن، شارع بورقيبة، ميدان التحرير، ساحة الساعة في حمص، وساحة البرج/الشهداء في لبنان، الذي يعتبر تكتيكاً احتجاجياً ولكن ليس تكتيكاً تغييرياً، وهو برأيي مبني على الفترة التي ساد فيها موضوع أهمية المكان واحتلال المكان وهابرماس1 والفضاء العام، ولكن هذا يحتاج لامتحان، وهذا هو امتحاننا الفعلي، أن تحبس نفسك في المكان، وأن تبقى في المكان، بمعنى الاعتكاف، ثم تأتي السلطة. مع أن المطلوب التغيير وإسقاط النظام. 

بالتالي لم تكن هذه التحركات بلا مضمر ثقافي. 

الأمر الثاني الاستسهال بالعداء للسلطوية المرتبطة بالفساد أكثر من أي أمر آخر، في وقت كان الحديث فيه عن البطالة، صار هناك شعار إسقاط النظام لأن النظام فاسد، بالدرجة الأولى، بالتالي المفارقات أصبحت أكبر بين الشعارات وبين الممارسة النضالية، ليكون معادياً للسلطة والسلطوية. 

وبالمناسبة مصطلح “السلطوية” يحتاج إلى بحث، هو مفهوم أميركي، ابتكر بالحرب الباردة عندما كان العداء للشيوعية يبرر قيام ديكتاتوريات عسكرية، سميت سلطوية، ولكن هم من جماعتنا، وتبدأ من تشيلي. 

لذلك اختصار نظام بمصطلح السلطوية والعداء للسلطوية، أظن به شيئاً من الأناركية2 الأميركية الفردية التي عبرت عن نفسها كثيراً في تحركات برأيها تريد تغيير المجتمع دون المساس بالسلطة، على الرغم من أن الشعار الرئيسي هو “الشعب يريد إسقاط النظام”، بمعنى المجموعات التي تريد العمل على تنظيم قواعدي/أفقي، هي ذاتها التي تبنت شعار الشعب يريد إسقاط النظام، ثم موضوع ضد القيادات، “عشرين مليون قائد” شعار الثورة المصرية، إذاً لا يوجد قيادات، في لبنان “أنا القائد”، وشعارات أيضاً من نوع “ننتزع ولا نطالب”، بالتالي انصباب كبير بمطالب كلها على السلطة وعلى تغيير السلطة، والفردية الجامحة التي كانت موجودة، والتي منعت التنظيمات الأفقية، التي تضمن في النهاية وجود قرار الأكثرية الذي يجب أن تخضع له الأقلية، حتى هذا فجر قسماً كبيراً من التنظيمات. 

خضنا تجربة التنظيم الأفقي عام 1964، ولكن في النهاية عندما نتخذ قرار إعلان الإضراب، هناك من يعارض نقطة إعلان الإضراب، ويستمر النقاش إلى أن يوافقوا، وهذا يعني عدم الثقة في الديمقراطية، وهذا ما يؤكد الليبرالية أكثر مما يؤكد الديمقراطية. 

الأمران الأخيران: 

الأمر الأول: هو ما اكتشف في الموجة الثانية، في الدرجة الأولى السودان ولبنان، أننا نتحدث عن أنظمة عسكرية، نحن لسنا في فرنسا، في فرنسا “Gilets jaunes/السترات الصفراء” ينزلون إلى الشارع يتظاهرون ولا يذهب النظام ولا يتغير الرئيس. نحن نطالب بإسقاط أنظمة عسكرية بلا وسائل التصدي لها، وتمت الإجابة بأشكال مختلفة، عندما وقف الجيش مع التغيير والأمريكان جلبوا أنظمة انتخابية، وعندما انكسر الجيش صار هناك حرب أهلية. نحن لم نقرأ السلوك الأمريكي تجاه الموضوع، عكس ما يقول جماعة “الممانعة” أن الأمريكان يتآمرون علينا، لا لم يتآمروا علينا، الأمريكي كان لديه حل، إزاحة الرئيس لصالح نائبه، وانتخابات، وهذا تم تطبيقة في أغلب الدول، ولم يطبق في سوريا، لأنه إذا تم إزاحة الرئيس فأنت تزيح كامل النظام. 

هذا الجانب الذي اسمه أن تصطدم بأنظمة عسكرية، التجربة السودانية هي الأبلغ فيها، هي الدولة الوحيدة التي نجحت عبر التاريخ الحديث، أن تقوم حركة مدنية شعبية بإسقاط أنظمة عسكرية، وفي عام 2019 فرضت تنازلات على نظام عسكري. 

الأمر الثاني: هو الانشقاق الكبير بين الطبقات الوسطى، وبين الأكثرية السكانية المفقرة والريفية. تحول طبقة وسطى حديثة وفئات ريفية ومدينية أكثر إفقاراً نحو حركات إسلامية، وهو مستمر. هذه بعض الدروس من عام 2011 وتلقي بثقلها لكي تفهم، بالتالي إذا ألقت بثقلها بجواب من نفس مادة المشكلات، بالجواب على السلطوية هو النيوليبرالية، كما يبدو أنها النزعة الرئيسية للأنظمة والمعارضات، أنا برأيي نحن لم نفعل أي شيء. 
 

ونحن نقرأ أسباب وأهداف نشأة تنظيمات “اليسار الجديد” على الصعيد السياسي والاقتصادي اللبناني حتى الاجتماعي، نكتشف أن مشروعه السياسي ينفع للبنان اليوم ولكن بظروف مختلفة، هل قدر لبنان أن يخوض هذا الصراع دائماً؟ 

بالبداية اليسار الجديد نبتة لها علاقة بعام 1967، وهي ظاهرة عربية مَن حصرها في لبنان هو اليسار، مثلاً مجموعة الرفاق الذي انشقوا من حزب البعث ابتداءً ثم انضموا إلى رفاق لبنان الاشتراكي. الانشقاق الكبير هو حركة القوميين العرب، بعد الحزب الشيوعي، أنت هنا تحت وطأة 67 ضمن حركة متقاطعة، أحزاب شيوعية بغض النظر عن موقفها من القومية، وأحزاب قومية خاب أملها بالقيادات القومية، تتمركز جميعها. فعلياً هم تقاطعوا أكثر من أنهم تمركزوا أو تراكموا،  لذلك لم ينجحوا، لأنهم لم يصلوا لذات النتيجة. 

لذلك أعتقد أن ما يحتاج للتركيز في لبنان هو الإطار العام. 

في الإطار الخاص اللبناني كانت الهجرة جنوبية والبقاعية، وبدأ نتاج التعليم الرسمي في الجامعة اللبنانية بنمط من المثقفين مختلف عن المثقف التقليدي. فعلياً الإطار الخاص كان ما أثارته الشهابية3 من آمال ومن نقد، وهي المحاولة الإصلاحية الوحيدة في التاريخ اللبناني، التي أنا بتقديري قمنا بتضخيم نقدها والسبب الحقيقي أحسهُ أنا بتسمية لبنان الاشتراكي، بمعنى ما كان على جدول أعمال لاستكمال اللوحة التي تسأل عنها في تلك الفترة، كان اسمه الاشتراكية، الاشتراكية وكأنها قفزة، وأنها سهلة، وأن تبني الاشتراكية. 

حاسبنا في لبنان الاشتراكي الشهابية مثلما حاسبنا عبد الناصر، فكنا نبني الاشتراكية ليس كأن تبني تحرراً وطنياً جذرياً واستقلالاً اقتصادياً، فهذا المقياس كان عالمياً، كان هناك تجربة فيتنام وكوبا والصين ناهيك عن الاتحاد السوفيتي، تقريباً ثلث البشرية لديها أنظمة اسمها اشتراكية. 

وضع مقياس عادي جداً للنقد بالتالي تحاسب رئيس جمهورية من الجيش، قادماً من الحرب الأهلية الأولى، يحاول توحيد البلد، يعمل على إصلاحات اجتماعية، إدارة قائمة على الكفاءة، وهذه إنجازات عظيمة، لأني أنا في النص أعدت النظر في الشهابية من منظور آخر، كيف هذا النظام الذي لم يعمر قرأ الحرب الأهلية، قرأ تخلف المناطق، عدم وجود دور للمسلمين في الحياة العامة، التمييز السياسي، الضمان الاجتماعي ودعم التعليم العام، هذه قراءة لأسباب حرب، وهو برأيه لماذا جميع المناطق تمردت على بيروت، وهذه أيضاً ما وضحه الكتاب، من السرد إلى طرح سؤال هل كنا نمتلك الحق بأن لا نرى ولا ندرك؟ خاصة في ضوء تجربة رفيق الحريري وإعادة البناء بعد الحرب الأهلية، وقرأها أيضاً قراءة مختلفة، إعادة بيروت ولبنان كما كانوا قبل الحرب، فإذاً كانوا في عهد ذهبي يجب العودة إليه فلماذا وصلنا إلى الحرب. هذه إحدى المراجعات التي ظهرت في سياق السرد. 

للعودة للبداية؛ ظروف النشأة لحزب لبنان الاشتراكي كانت عربية عالمية ومحلية، وذات الأمر حدث في حركة القوميين العرب، طغى أكثر الوجه العربي، انشقت الحركة من اليمن إلى سوريا، بالتالي رد الفعل على الفكر القومي، كأن تبني رأياً آخر، وأعتقد أن في ذلك شيئاً من الماركسية، كأنها انتقاء من الفكر القومي، طبعاً كان هناك نقد، ولكن أعتقد أنه لم يتشبع اليسار الجديد بماركسيته والأحزاب الشيوعية كانت ماركسيتها سوفيتية تدعو إلى مرحلتي الثورة، مساعدة البرجوازية الوطنية للعمل على الرأسمالية، بعد ذلك يصبح دولة، بالتالي تم الاندماج بين مجموعة من المثقفين ذوي الإنتاج الفكري ومجموعة تبحث عن دور وهوية الحقيقة، بالتالي تطابقت المواقف وخلاصتها كانت بتأييد المقاومة الفلسطينية، إذا كنت تريد إضافة الشيء الأخير للأسباب، هو أنه تحت وطأة 67 ودخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، نشأ تياران متشابهان، بأن الثورة الفلسطينية رافعة الثورة العربية من الهزيمة وأنها سوف تطلق ثورات عربية، مع تشديد كبير على دور الكفاح المسلح، هنا في لبنان يصطلح بـ “دعم الكفاح المسلح”، مع وجود تنظيمات مارست الكفاح المسلح، وعربياً كان اليمن يخوض استقلاله، وانتصر في الكفاح المسلح. العامل الفاعل كان وصول المقاومة الفلسطينية التي دخلت باكراً فعلياً، في عام 1968 كان هناك خلايا فدائية نشطة في الجنوب. 
 

يواجه اليسار بعد عشر سنوات من النضال ضد البرجوازية وطاقمها الحاكم، حرباً حتمية ذات طابع طائفي، استخدمت معها في الكتاب تعابير مثل “لم نتوقع الحرب” والتسليح بإمكانيات متواضعة، لمواجهة التسليح الإسرائيلي والحماية السورية. لينتهي دور اليسار في الحرب بعد سنتين فقط. فعلياً ما الذي كان يتوقعه اليسار؟ وعلى ماذا كان رهانكم؟ 

لم نتوقع الحرب. نعم، لم نتوقع الحرب. 

بداية ماذا تعني الحرب؟ يوجد رواية لخمسة عشر سنة اسمها الحرب، ولكنها ليست حرباً، هذه عمليات عسكرية تدرجت، وكل مرحلة منها لها أهداف ولها قوى ووسائل، بمعنى الحرب التي اسمها 1975-1976 هذه التي يتم الحديث عنها بصفتها الحرب. 

لم نتوقع أن ينتهي التوتر السياسي إلى اقتتال واسع النطاق على قسم كبير من الأرض يدوم سنتين، نعم لم نتوقع الحرب، بالتالي أول شيء يجب تسجيله، لماذا حدثت الحرب؟! الحرب لها رواية رسمية في لبنان وهي حرب الآخرين على لبنان، وأن اللبنانيين لا علاقة لهم بالحرب، مجرد تبرأة!! وهذا عقل ما بعد الحرب، عقلية تبرئة اللبنانيين من أي مسؤولية، وأنها كانت حرباً فلسطينية سورية لا تذكر فيها إسرائيل كثيراً، وأن اللبنانيين ليسوا جزءاً منها، وهي صيغة ما كتب غسان تويني4 “حرب الآخرين” بالتالي تم خلق حالة للتبرئة من الذنب، وفعلاً فعالة جداً، بحيث أن أهم نقطة هي أن العملية تمت، وهذا تم لدى جيل كنت منه، ودور NGOs الآن، وهو أن نتذكر فظائع الحرب فهذا يعني أنها لن تتكرر، ولكن لبنان دخل حرب عام 1860 وتكررت في أكثر من مناسبة، على رأسها عام 1958 بالتالي الذاكرة ليست عنصراً فاعلاً لعدم تكرار الصراع، يجب أن تبحث عن العوامل الجذرية التي تدفع الصراع السياسي لمستوى اللجوء لاستخدام السلاح. 

أنا روايتي.. دخل على لبنان بذات الوقت أزمة اجتماعية وسياسية طرحت مسألة اختلال النظام السياسي، بوجه طائفي مختل، حيث يوجد امتيازات سياسية للمسيحيين على حساب المسلمين، ونقطة على السطر، مُمأسسة وهي رئيس جمهورية ماروني رئيس مجلس النواب شيعي، بالتالي صيغة التمثيل ستة مسيحيين فاصلة خمسة وهي في الإدارة وفي المجلس النيابي وفي الوزراة، تخلف المناطق ومعظمها إما مسيحية شرقية أو مسلمة، هذا كله كان له علاقة بالانفجار الذي حدث. 

دخل بسبب نكسة عام 1967 إلى لبنان مجموعة مقاومين، ازداد عددهم في عام 1970، ولكن سنة 1969 حدث الاتفاق لاحتواء وتنظيم دورهم في الحياة اللبنانية اسمه “اتفاق القاهرة”5 جرى الجواب عليه في معسكر اسمه “جبل لبنان” على أنه تحدٍ وجودي للمسيحيين، الجواب كان عسكرياً، بالتالي بدأ هذا الطرف بالتسلح عام 1969، ترافق هذا التسلح مع عشر سنوات من أزمات اجتماعية تم قمعها جميعها، ومطالبات متزايدة لإصلاح النظام السياسي، طرف يعطي المزيد من الوزن لدور رئيس الوزراء، وطرف يقود لتجاوز النظام الطائفي. لم يقدم أي تنازل لأي من الأطراف. فعلياً كل هذا يقودنا لسؤال، من المسؤول عن الحرب؟! ما أقوله أن هذا الطرف مسؤول عن إنطلاق الحرب، وتحويل الصراع السياسي حول الخيارات، إلى عمل عسكري، لأن هناك طرف بدأ بالتسلح، وبدأ قطاع أساسي من الجيش بمساعدته على التسلح، بوجه منظمة التحرير، اليسار لم يكن مسلحاً وقتها، اليسار بدأ التسلح عام 1973. 

المسؤولية في إطلاق العمل العسكري، تكمن في هذه المسؤولية، هذا التسلق الاجتماعي والسياسي الطائفي والسيادي، قابلهُ بدء التسلح عام 1973 من المقاومة والأحزاب، بعد أن جرى الهجوم على المخيمات، نحن بدأنا بالتسلح بطلب من منظمة التحرير أنه رجاءً يجب أن تتسلحوا في المناطق اللبنانية المحاذية للمخيمات لحماية المخيمات، هذا هو الأمر، هذا التسلح في الحركة الوطنية بالبداية، وقمنا به طوعاً، والخطأ هو أن هناك فرقاً بين التكتيك الدفاعي، أنا أريد أن أدافع بالسلاح عن المقاومة الفلسطينية، صور إلى اليسار خاصة لكمال جنبلاط والذي التحق به اليسار، أن هذه المناسبة تسمح بأن تغير النظام بالقوة المسلحة، هذا القرار الذي اتخذ، واصطدم بعامل خارجي لم يتوقعه أحد، وهو إجازة أمريكية “لحافظ الأسد” بأن يدخل إلى لبنان بجيشه، لكي يمسك بالمقاومة الفلسطينية، وقبول إسرائيلي بأن لا يتدخل الجيش الإسرائيلي، مقابل شروط وضعت وانكشف باكراً، مثل أن لا ينزل جنوب الليطاني وأن لا يدخل الصواريخ إلى لبنان لكي يسمح للجيش الإسرائيلي بالسيطرة على الفضاء اللبناني، فقط في حاجة الجيش السوري لنقل قواته العسكرية بطائرات الهليكوبتر، هذا هو الإطار. 

هذا لا يفسر كاملاً وهمين لدى اليسار، الوهم الأول أنك أنت في معركة بين العروبة والانعزالية، الوضع العربي معها، فطبيعي أن يكون الوضع العربي ضدك وجناحه العسكري اسمه الجيش السوري. 

الوهم الثاني كان مشتركاً خاصة عند اليسار، بأن البرجوازية متناقضة مع نظامها السياسي، بالتالي تحتاج لضغط عسكري، هذا يظهر بشكل واضح لدى الرفيق مهدي عامل  ولكن لم يكن ضمن الكثير من المعارضة لهُ، ولكن هو أعطاه حجماً أكثر من اللازم، المضمر الذي اسمه البرجوازية التي هي بالمناسبة تصير الأسئلة معها، أين هي البرجوازية؟! من هم البرجوازيين؟! ناهيك عن إنكار وجود مسألة طائفية، يظهر وكأن هناك حرباً تخاض كأنها ثورة للتغيير، ولا تتحدث عن المتقاتلين، لا تتحدث عن أكثرية المتقاتلين ماذا كانوا. 

نقرأ الكثير من النقد عن اليسار اللبناني في الحرب الأهلية. وعن السلطوية التي غرق فيها وعن غياب الهوية الفكرية، ما دفعك أنت شخصياً للاستقالة من المنظمة، وفقدان الأمل ببنائها من جديد. 
 

شخصياً ما هي الأخطاء التي كان يجب تداركها؟ 

سبب المغادرة هو أن الحرب الأهلية خلقت وضعاً في المنظمة جعل القسم الأكبر من المنظمة بقيادة الرفيق محسن إبراهيم يأخذ دوراً لا علاقة له بدور الأحزاب في الجبهة، أخذ دور أن هناك أمين عام للتنظيم أصبح أميناً عاماً الحركة الوطنية، وأخذ معه القسم الأكبر من الرفاق، ولقد كنت معارضاً لهذا الأمر منذ عام 1975-1976 وهو قول أننا من الممكن أن نشارك في الجبهة بأمين عام ولكن المنظمة يجب أن يكون لديها صوتها المستقل، وقد عارضني في ذلك الأكثرية وعزلت، بالتالي تحت تأثير ماذا فعلت الحرب بالوعي العام اليساري وبذور ثقافة ماركسية أطاح بها الوعي القومي وشبه الطائفي، كان رأيي أن هذا المشروع الذي ساهمتُ بتأسيسه مرتين، كان من الأجدر أن نعتبر أن هناك حالة مثالية من العلاقة بين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، بأن نحقق الهدف الأساسي وهو وحدة الشيوعية، بالتالي سوف تكون نموذجاً عن إمكانية وجود طرف يساري جديد نشأ بالضد من الطرف التقليدي، أمكن بحصيلة تطور تحت سقف متواضع جداً اسمه الحرب الأهلية، واعتبرت هذا حلاً للمنظمة، خاصة أن الحزب الشيوعي طرح فكرة “أرقى مستوى التنسيق” ونحن جاوبنا هذا الطرح بأننا مستعدون للاندماج رسمياً بقرار من اللجنة المركزية. أنا توصلت لهذه القناعة، لقد طرحتها باستمرار وكنت أستقبل التردد من الطرفين، ثم طرحتها جهاراً في المكتب السياسي للمنظمة خلال الحرب عام 1982 ولم تحصل على التأييد الكامل وكان هناك تعادل بالقوى، والأمين العام لم يحظَ بها، ووقتها كان لدينا أفكار بأن يختبئ جورج  ومحسن معاً للعمل على وثائق مشتركة، وكانت نظريتي أن أفضل وقت لإعادة إنعاش معنويات اليساريين هو إعلان حدث فكرة التوحيد، ولو استغرق الأمر سنوات للتحضير، كل هذا وتبين أن الطرفين رافضان للفكرة، الحزب الشيوعي بالنسبة له الفكرة غير واردة أبداً، والجو داخل المنظمة منتشِ بفكرة لعب دور كبير داخل الإطار الجبهوي، وأكله الإطار الجبهوي بإيجاز، هذا هو السبب الرئيسي الذي أخذت به كل وقتي، منذ عام 1977 وأنا مهمش في الرحلات الخارجية بصفتي مسؤول العلاقات الخارجية، حتى عام 1984 لم يكن لي أي دور أساسي، وكله مجير للحركة الوطنية، حتى بدأت الحركة الوطنية تتفكك وتتفجر. 

كان رأيي أن هذا التنظيم لم يبنِ نفسه كتنظيم، كنا تنظيماً في كل موجة نضع كل التنظيم، موجة التمحور العمالي والفلاحي كل الرفاق والرفيقات يعملون، لا يوجد هيئات، وفي دعم العمل الفدائي والعسكري ذات الأمر، بالتالي هذه المنظمة لا تملك مالية فهي تتلقى المساعدات، ولكن المساعدات توقفت، بالتالي هي لا تملك بناءً تنظيمياً، وعندما دخلوا الحركة الوطنية وسعوا المكتب السياسي أصبحوا 19 عضواً، بالتالي لا يوجد فيها تنظيم عمل، الجميع يقوم بذات العمل إما عسكري أو سياسي مع أعمال فرعية مثل الإعلام، حتى الإعلام تم تفكيكيه لصالح الحركة الوطنية. هذا التنظيم لا يوجد أي مجال لإعادة بنائه على الإطلاق، إعادة بنائه على أساس ماذا؟! 

لهذا السبب لم يكن لدي أي وهم، وللأسف ما افترضت حدوثه قد حدث، وتفككت المنظمة منذ عام 1979 وتبقى بها قلة قليلة، لقد غادرت أغلبية الكوادر والقيادة والأعضاء، بالتالي هذا مصداق للقول بأن في الوقت الذي كان من الممكن العمل على بناء هذا التنظيم وتمتين ثقافته، جرفته الموجة الوطنية وتفكك، في حين تنظيمات مثل الحزب الشيوعي عدا عن رسوخها التاريخي تمتلك تنظيماً للعمل، هناك من يقاتل وهناك من يستمر في عمله وهناك من تحتفظ به جانباً، وهذا تنظيم صغير في أفضل حالاته كان يمتلك 3 آلاف عضو ثلثهم موجود في الخارج، بالتالي لا نحتاج للكثير من الحجج للقول بأني لم أملك الكثير من الأمل لإعادة تأسيسها على ضمن الأسس التي أُقيم عليها كتنظيم يساري ماركسي، لأعيد تأسيسها بعد ثلاثين عاماً على أساس ديمقراطي علماني. 
 

خضتَ تجاربك السياسية والحزبية بعدستين، الأولى كانت ترى المشهد بشكله العام، والثانية كانت تفصيلية تدوينية، لأن المثقف في تلك المرحلة كان مشتبكاً، يتولى مهمات عسكرية، لقد قاتلوا واستشهدوا، بمراجعتك لدور المثقف المتحزب هل أثر ذلك على قراراتك الحزبية؟ وكيف ترى هذه العلاقة اليوم؟ 

أنا لا أملك صورة سحرية عن المثقف. لا يعني أن هناك فئة ذات صفات لا تحول ولا تزول معظمها الضمير والوعي، يوجد مثقفون عملهم تزوير الوعي وبيع أنفسهم، لذلك عصبية الفئة لا تثيرني كثيراً. ولكن السؤال جداً مهم. 

أولاً صدف أنه لم ينفصل دوري النضالي عن دوري في أمرين؛ الدعاية لالتزامي والتفكير حول القضايا التي تشغلها، بالتالي أنا أكتب منذ البداية، مارست الصحافة وأنا بعمر 18 عاماً، بالتالي المزيج من “الدعاوي” بمعنى صاحب الدعوة والمناضل، ثانياً بدأ اهتمامي باليسار من خلال الثقافة والأدب والشعر، والحقبة الجبرانية6 التي يمر بها كل مراهق، والحقبة الوجودية، بالتالي تدرجتُ بثقافتي السياسية بهذه الطريقة، أما التأثير الأكبر كان من خلال عبدالناصر، الذي يعدّ الآن سلطوياً بتأكيد الجميع، ولكن هذا الرجل الذي قال إن ضمان التحرر الوطني يكون باستقلال اقتصادي وعدالة اجتماعية، بالتالي شعار الاشتراكية كان باكراً لدينا، وهذا لا يعني أنه كان واضحاً جداً، ولكن لكي أؤكد لك على الثقافة والالتزام السياسي، مع أني لم أعتبر نفسي ملتزماً بالثقافة ومازلت، ولكني مارست الصحافة باكراً وانتهت ممارستي عام 2010-2012 في جريدة السفير، ناهيك أن هذه التجربة تتوجت بالنسبة لي بمجلة بدايات، لم ينتهِ أبداً هذا الوجه، وأنا أعتبره وجهاً أساسياً، ولم يمنع هذا الوجه أبداً العمل والمسؤوليات  التنظيمية. 

عملت على تنظيم خلايا وحلقات في الفترة التأسيسية لتنظيم لبنان الاشتراكي ومنظمة العمل، تحملت مسؤولية التعبئة بين عامي 1973 حتى 1975 سلمت المسؤولية قبل أن أصل إلى الحرب، كنت مسؤول علاقات خارجية وكنت مسؤول جهاز الإعلام، وأنا أعتز بهذا الجهاز الإعلامي، الذي عملت وتدرب به رفاق رائعون مثل جوزيف سماحة، وأحمد قعبور، وشربل داغر، وهذا وجه آخر مما قدمته منظمة العمل الشيوعي في مجال الثقافة، مثلاً الكاتب عباس بيضون له رأي بأننا عندما نبحث سوف نجد مئتي مثقف وإعلامي من إنتاج هذا التنظيم، وهذا صحيح، لا يهم كثرتهم ولكن ما يهم أن قسماً كبيراً من المناخ الثقافي في لبنان نتج عن اليسار والحزب الشيوعي فعلياً أكثر. وفعلياً كل الحضور في السبعينات كان ليسار ثقافي شيوعي. 

بالعودة لما تقوله نعم أنا لم أفصل حتى الآن بينهما، وفعلاً يوجد جاذبية خاصة بين الثقافة والسياسة، ما يزال تعلقي مستمراً بهما، ولكن نعم كنت أمارس ثلاثة أدوار في ذات الوقت، داعية وما يمكن تسميته مفكر، ومناضل، وهذا كله نتاج صدفة، بالتأكيد لا أطلب به الجميع، ولكن لو تحدثت عن تجربتي في هذا المعنى أنا محظوظ، لذلك عندما أسأل هل أنت نادم؟! لا أنا لست نادماً، هذه حياتي وهذا ما يجمعها.  
 

أخيراً أستاذ فواز، أنهيت كتبك بالأمل، مع أننا نحن جيل الربيع العربي، أصبحت علاقتنا مرتبكة مع الأمل، بعد كل هذه التجارب والإخفاقات والمحاولات من أين تستمد أملك الشخصي؟ 

أولاً أنا ناقد وغير معجب بالخلط بين المزاج الشخصي والحدث العام، هناك مدرسة ورثناها عن عام 1967 اسمها الخيبة، ويصدف أنه بالمناسبة العالم الأكاديمي الأمريكي في مرحلة ضمن التسعينات نمى هذه المرحلة، مثلاً في حال كتابة أطروحة دكتوراه كان يجب أن تكتب عن شكل من أشكال الخيبة، وهو ما أنتج وقتها بالقول عن انتهاء النظام الشيوعي بالتالي البدء بجمع المثقفين، وهذه ليست مؤامرات هذه تفاصيل تقرأ. 

وفعلياً الكثير من فكر محسن ابراهيم هو فكر خيبة، يأخذ على علاته، ومن يريد أن يجادلني أهلاً وسهلاً، مع أن الخيبة لا يمكن أن تكون عملاً سياسياً، الخيبة فطرية، التفاؤل والتشاؤم فعلان فطريّان، بالتالي في الوظيفة الجماعية يمكن القول إننا انهزمنا، ولكن الإعجاب بالهزيمة شيء والاعتراف بالهزيمة هو شيء آخر مختلف تماماً، وهنا أريد الإشارة للعظيم ياسين الحافظ7 الذي ميّز بين الأمرين في كتابه الشهير “الهزيمة والايديولوجيا المهزومة” وسمح للآخرين أن يبنوا على أساس هذه الفكرة، الهزيمة تنتج إيديولوجية ولكن ليس من الضرورة أن لا تنتج غير ذلك. بالتالي المزاج الذي يطغى كثيراً هو في الفردية وقد ينتج ثقافة وأدباً، ولكن هذا لا ينتج معرفة. يمكنك أن تعمل على مجموعة اسمها الإحباط عن ناشطين وناشطات في ثورة 17 تشرين لبنانية، ليعبروا عن مشاعرهم، ولكن لو طلبت منهم التحدث عما تعلموه؟ لماذا حدثت ثورة 17 تشرين؟! أنا لا أملك أي شك بأنهم لن يقولوا أشياء عظيمة، وأتحمل المسؤولية، فعلياً أنت محبط وأنا أدركت ذلك وجميل جداً في التعبير الأدبي، لكن لماذا اليوم لا يوجد حلقات تناقش أسباب قيام ثورة 17 تشرين، وأسباب تفككها، أنا أظن أن هذه وظيفة الفكر السياسي والاجتماعي، أنت محبط أو غير محبط هذا تفصيل آخر، المواطن المضطر أن يعيش ويعيل أسرة لا يستطيع أن يقول أنا محبط لا يمكنني الذهاب للعمل. الإحباط والخيبة امتياز فردي. ماذا يفعل رب أسرة بغزة مضطر لتأمين الماء والطحين لزوجته وأولاده؟ أمام هول الكارثة المباشرة (يمكن بيته مدمّر) ماذا يفعل؟! بيقول أنا محبط ما فيني اتحرّك؟! لذلك السؤال هل أنا قادر أن أطرح أسئلة بالمعرفة؟ وهنا لا أقصد بالمعنى الفلسفي. لهذا السبب مرت 2011 بلا إنتاج فعلي حولها، غير أن هناك ثورة وثورة مضادة، لا أريد أن أعمم، ولكن هناك الحواجز التي تمنع الناس من الجلوس مع بعضهم البعض ليدركوا ما الذي حدث، أنا أطرح سؤالاً سابقاً ما هي الجغرافية الاجتماعية لثورة 17 تشرين؟! هناك حدث أساسي ضمن الأحداث وهو دعوة “حسن نصرالله” جمهوره للانسحاب وانسحب، فمن تبقى؟! وما الذي كان يريده؟! 

إذا أردت يؤسفني أنني تتلمذت على علم الثورة أو التغيير الليليني، هل نحن في مرحلة هجوم أو دفاع أم كمون، فعلياً انهزمت ولا يوجد حركة في العالم لا تنهزم، تأخذ أربعة سنوات لتفكر وتستعد من جديد، لا يوجد أي شيء من هذا النوع، سوف تقول لي هذه واحدة من سمات الجيل، لا غير صحيح. الحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا تقوم بهذا النوع من المراجعات، وتظهر مجدداً بشكل جديد. 

أدعو للأمل بمعنى أن تتحمل الناس مشاق حياتها لأنه ممكن أن تحسنها وتغيرها، الأمل هو الثقة بالنفس، عندما نستشهد بدور الصلاة لدى فيروز تقول “لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين” حتى في الصلاة أنت تحاول أن تستجمع معنوياتك لتستمر، وهذه يعطي فكرة لماذا الإيماني أنجح غالباً من العلمانيين، حتى لو كان الإيمان يسارياً. بالنهاية الثورات المدنية تعني التضحية، تعني قبول الفرد لتسليم فرديته لقرار جماعي، تعني هدر الوقت في سبيل نتائج قد لا تظهر الآن بسهولة، وقد لا تظهر أبداً، وصولاً للاستعداد للموت، نحن نتحدث عن بلدان الناس فيها أخذت قرارات فيها احتمالات القتل، وهذه ليست تسلية، نحن نتسلى في لبنان، عندما كنا نقول للرفاق الوهم بالنظام سقط؟ ماذا يعني سقط؟! هناك مصطلح منذ الاستعمار الفرنسي اسمه “سقط” “يسقط الاستعمار الفرنسي”، إذاً ماذا يعني سقط النظام اللبناني؟! يعني أنه تفكك وغير قادر على الاستمرار وهناك قوى قادرة على استلام السلطة من بعده. ما هو المعنى من بناء حركة فيها 200 ألف شخص موزعين، لا تشمل القسم الأكبر من طوائف لبنان، اعتذر للحدة!! ولكن إذا كانت أغلب شيعة لبنان خارجه، ومسيحيو لبنان في شريط صغير قواتي8 هذه تسقط النظام؟! لماذا سوف تسقط النظام؟! الشعار الرئيسي ليس شعاراً عفوياً، هذا شعار تنظيمات، 40 تنظيماً كانوا يستخدمون ذات اللغة، حكومة انتقالية ذات صلاحيات تشريعية، أوف!! هذا يعني كيرنسكي9، أو مناشدات لرئيس الجمهورية لكي يستقيل، أنتم بجانب سوريا!، ماكرون لن يستقيل في حال طلبت منه المظاهرات، ميشال عون سوف يستقيل بسبب المظاهرات! إذا أنا في لبنان مؤيد للثورة السورية غير قادر على فهم هذا الدرس الأول، حسناً هناك مجال للبحث، نحن نتحدث عن الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع في سوريا، وجاء الرد عليهم عسكرياً، نحن هنا لم يتخطَ القمع حدود قوى الأمن الداخلي، وهذا اسمه القمع. 

هذا الأمل الشخصي مبني على نظرة للحياة والتاريخ، الأمل لا يعني أبداً عدم وجود الخيبات، يمكن للإنسان أن ينهزم دون أن يستسلم، فرق بين أن تنهزم وبين أن تستلم، نأخذ من مهدي عامل أسوأ ما لديه، معادلة “لست مهزوماً مادمت تقاوم”، ومن المهم أن لا يستسلم الفكر، والمهم أن لا يبتكر الفكر الخرافات، مهمة الفكر هو نفسه أن يغذي الأمل، وهذا ليس تفاؤلاً أو تشاؤماً. 

في حصيلة الثورة تبين أن ما هو سائد من ثقافة في هذه الأوساط المنقسمة إلى قسمين، قسم إسلامي، وقسم يشمل كل أقسام الطبقة الوسطى في العهد النيوليبرالي والـ NGOs، هذان القسمان ما الذي يربطهم بينهما؟ برأي ما يربط بينهما فعلياً أشخاص يساريون، لا أقول أنا مدني وأنا أقاتل ضد الإسلاميين ليأتي السيسي إلى الحكم. 
 

في لقاء تلفزيوني سابق سألت المذيعة لماذا شاب في منطقتنا يذهب إلى داعش؟! هؤلاء أليسوا أبناء شعبنا؟! نظرت لي بتعجب وسألتني هؤلاء أبناء شعبنا؟! ماذا سوف نسميهم؟! ألا يمكننا أن نسأل لماذا يتحول الإنسان إلى داعشي؟! كل الدراسات حول داعش تتحدث عن الأوروبيين في داعش، والعربي؟! الأمر غير مفهوم، لماذا شاب يتحول إلى داعشي؟! هذا فعلياً في الحالة القصوى. 

ما أريد أن أختم به؛ نحن بضاعتنا الفكرية تنتمي إلى يسار حركة التحرر الوطني، أنت في عهد العولمة الاستعمارية وأنت في عهد النيوليبرالية، ما هي بضاعتك؟! ماذا لديك؟!

هل يمكن لليسار إلا يكون معادياً للرأسمالية؟! وإلا ما هي وظيفته؟! في حين أن القسم الأكبر من اليسار إما تكنوقراطي أو نيوليبرالي بالتالي وبلا تشاؤم، ولكن هذا التحدي يقول أن هناك شيئاً ناقصاً اسمه قوى من المتضررين من النيوليبرالية تقاوم بوعي تطبيقات النيوليبرالية، لا تتناسى أبداً المعركة الوطنية، لا تتناسى أبداً الديمقراطية، المساواة، وليست التعددية الأميركية، وليس مساواة حقوق الإنسان الفردية، بل حقوق الشعوب بتقرير مصيرها، لماذا نصفق إذاً؟! حقوق إنسان لما يحدث في غزة، أو احتلال يمنع شعباً كاملاً من تقرير مصيره، وحقوق الإنسان الفردية. إذاً وحقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية؟! 

بالتالي هناك دور لليساريين بانتظار أن يلعب، إذا لم يلعب الجواب جداً بسيط، يحل محله تطرف يميني، أو تطرف ديني، وهذا ما يحدث. التحدي إما أن ترتقي لتكون قوة تجمع العداء للعولمة النيوليبرالية إلى الديمقراطية بما تعني المساواة في المواطنة وليست فقط التعدد، وفعلاً أنت حزب الأجوبة على النيوليبرالية، حزب العدالة الاجتماعية الحقيقية. 

يؤسفني ما أعرفه عن أوضاع الأحزاب والتنظيمات اليسارية، ميولها تؤكد انشقاقها بين ليبراليين  وقوميين، أحياناً يعيشون في ذات الحزب ويختلفون داخل ذات الحزب، وأحياناً غير موجود الجناح القومي المتصلب، هذا يفسر بالنسبة لي ببساطة أن هناك أجهزة تاريخية لم يختلف اليسار الجديد عنها، تجمع بين أنظمة ديمقراطية والولاء لأنظمة غير ديمقراطية، وبين العداء الجذري للاستعمار، ولكن نحن في استعمار جديد، أنت في نمط آخر من الاستعمار قائم على الاقتصاد والايديولوجيا. 
 

 

هوامش

1 هابرماس: يورغن هابرماس فيلسوف ألماني معاصر ، يعتبر من أهم منظري مدرسة فرانكفورت، وهو صاحب نظرية الفعل التواصلي. 
2 الأناركية: فلسفة سياسية تعني لاسلطوية، ترفض التسلسلات الهرمية ويرونها غير عادلة، يدعو أنصار اللاسلطويين إلى مجتمعات دون دولة، وهناك تقسيمات وتقاليد للفكر اللاسلطوية مختلفة ومتعددة، وتعتبر غالباً فكراً سياسياً متطرفاً. 
3 الشهابية : فترة حكم الرئيس اللبناني فؤاد شهاب بين (1958-1964). 
4 غسان تويني : صحفي وسياسي ودبلوماسي لبناني، والدهُ الصحفي اللبناني جبران تويني مؤسس جريدة النهار، انضم في بداية الأربعينيات إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما مثل الحزب عام 1951 ضمن الجبهة الوطنية الاشتراكية بقيادة كمال جنبلاط. كما شغل مناصباً برلمانية وحكومية.
5 اتفاق القاهرة :  اتفاق تم توقيعه  في القاهرة عام 1969 لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، ضمن فترة الرئيس اللبناني شارل حلو الذي أرسل فداً لبنانياً برئاسة قائد الجيش إميل البستاني إلى القاهرة للتحادث والتفاوض مع ياسر عرفات. 
6 الجبرانية : نسبةً للكاتب اللبناني جبران خليل جبران. 
7 ياسين الحافظ : مفكر سوري ويعتبر من أهم المنظرين الماركسين العرب، عمل على ربط الماركسية بالمسألة القومية بعد تعريب الماركسية واستخدامها ونقدها لفهم المجتمع العربي وتغييره.
8 قواتي : نسبة لحزب القوات اللبنانية، وهي منظومة عسكرية أسسها بشير الجميل عام 1976 لتكون الذراع العسكري للجبهة اللبنانية، مؤكداً بشير الجميل أن تأسيس القوات جاء تحسباً لتحديات عسكرية تحيط بمسيحيي لبنان. 
9 كيرنسكي: ألكسندر كيرنسكي سياسي روسي بارز، ويعتبر من الشخصيات البارزة بعد ثورة فبراير عام 1917 في روسيا. 
الكاتب: المعتصم خلف

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع