“الخيال أهم من المعرفة، لأن المعرفة محدودة، والخيال لا حدود له”…. ألبرت آينشتاين
المحارب الفنان
إذا سألت اليابانيين عن أسماء أشهر الرسامين اليابانيين في الرسم بالحبر، أو فن الـ “سومي إي”، فستجد أن مياموتو موساشي (1548 – 1645)، من ضمن المصنفين في هذا الفن، حتى أن متاحف يابانية عدة تعرض لوحاته المرسومة بالحبر الأسود، مثل متحف الفنون في كوماموتو، ومتحف كوبوسو التذكاري للفنون في إيزومي.
أما إذا سألتهم من هو أشهر محارب ساموراي في تاريخ اليابان فعلى الأرجح ستكون الإجابة واحدة تكاد تخلو من الاستثناءات، إنه مياموتو موساشي نفسه، الرسام المميز، والمبارز الأفضل على الإطلاق، والذي خاض أكثر من 60 حربًا، وكانت مبارزته مع ساساكي كوجيرو، أحد أشهر محاربي الساموراي، هي المبارزة الأشهر في تاريخ اليابان، وذلك رغم أنها وقعت قبل أكثر من 4 قرون، إلا أن اليابانيين قد خلّدوها في كتبهم وأفلامهم.
ومن المعلومات الجديرة بالتوقف عندها حال حديثنا عن مياموتو موساشي، هو أنه ابتكر طريقة في المبارزة بالسيف، لم تكن موجودة قبله، وتعرف بـ”هيوهو نيتن إيتشي ريو” وهو أيضًا مؤلف كتاب “الحلقات الخمس” حول الفنون القتالية. فهل كان للنزعة الفنية عند موساشي، دورٌ، في أن يبتكر تقنية قتالية؟ بمعنى، أن تاريخ اليابان يعج بأبطال الساموراي، فلماذا جاء الابتكار الحربي من مقاتل ذي خلفية فنية؟
ويبدو أن هذا النبيل الياباني، الفنان المحارب، هو أفضل مدخل لموضوع هذه المادة، وهو: “كيف تؤثر الفنون والآداب في الخطط الحربية؟”، وإذا أردنا مزيدًا من الدقة فيمكننا إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: “كيف أثرت الخلفية الفنية ليحيى السنوار ومحمد الضيف، على خطة يوم 7 أكتوبر؟”.
ولا يغيب عن البعض أن يحيى السنوار أصدر رواية “أشواك وقرنفل”، بينما كان محمد الضيف فنانًا مسرحيًا، له مشاركات موثقة في التمثيل على مسرح الجامعة، وقد أسس فرقة “العائدون” المسرحية. فهل من الصدفة أن يكون الرجلين اللذين يقودان الحرب، من أصحاب الخلفيات الفنية والأدبية، بصرف النظر عن مستوى الفنون التي أنتجوها؟
التفكير الإبداعي
إن معادلة “الفنان المحارب” نادرة جدًا عبر التاريخ، ويحتاج المهتم، للبحث كثيرًا ليعثر على أمثلة من هذه المعادلة، إلا أن أحد أبرز تلك الأمثلة، هو الرسام المصري الشهير أحمد نوار (1945)، وهو أحد رواد الفنون التشكيلية في مصر وعميد ومؤسس كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا، وحاصل على جوائز وأوسمة في المجالين الفني والحربي. وكان لنوار دور مهم للغاية وبطولي في حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل (1967 – 1970)، لا سيما وقد كان قناصًا يخدم في منطقة مشتعلة وخط تماس: الدفرسوار، شمال البحيرات المرة بقناة السويس. وذكر نوار في لقاءات عدة أنه استفاد من كونه فنانًا في خوض المعركة، وأنه اعتمد في اكتشاف الأهداف على (الخداع البصري وخيال الظل) وهي أمور تتعلق بالعلوم الفنية والبصرية: “كلما طوّر العدو الصهيوني تمويهاته التي تعتمد بذكاء على الخداع البصري، كنت جاهزًا لكشف حيله أولًا بأول”. وكانت النتيجة أن نوار اقتنص 15 إسرائيليًا بين جندي وضابط وقناّص.
يقول نوار في مداخلة خاصة لـ”رمان”: “للفن دور كبير في حرب (طوفان الأقصى)، فبناء رؤية عسكرية يتبعها تكتيك عسكري أمر كان للفنون والثقافة سهم كبير فيه، وهذا كله لأنه يشكل ما يسمى (ثقافة الأداء والتخطيط والسيطرة)”. ويضيف: “هذا بالضبط عكس ما ينتهجه الكيان الصهيوني الذي يفتقد إلى رؤية القائد، ويفتقد إلى ثقافة التخطيط، يفتقد إلى إحساس الفنان”. ويؤكد نوار أن “السنوار والضيف يمتلكان الفكر الإبداعي، كما يمتلكان الانتماء الوطني وإرادة المقاومة”.
ويشرح الجذور الفنية التي ارتكنت عليها خطة 7 أكتوبر فيقول: “لقد اعتمدا على مساحة الخيال، وعلى القدرة على التفكير البصري، فبناء القصة يعتمد على رؤية فكرية، وخيال، وقدرة على تحويل هذا الخيال إلى واقع حي يعتمد على مفردات وعناصر ولغة حتى تتفاعل هذه الخبرة المتراكمة والحس الإبداعي لإنتاج ما نشاهده كل لحظة من انتصارات مذهلة”. ويتابع: “المفاجأة الكبرى التي صدمت الكيان في السابع من أكتوبر، كانت فصولها كأنها قصة محكمة ونابضة بالأحداث، والحقيقة أنه لا يمكن التفكير فيها من قِبل شخص ثقافته عسكرية فقط”.
غزة.. مدينة فنية
ولا يفوت نوار أن ينوه بالفضاء المكاني للحرب، مؤكدًا أنه هو أيضًا ذو طابع فني. يوضح: “إذا دققنا في (مدينة غزة للأنفاق) فسنستطيع أن نطلق عليها (المدينة الافتراضية الخيالية) بتصميمها وتكوينها، ولو شاهدناها في أفلام الخيال العلمي لوصفناها بـ(المبالغة)”. ويستطرد: “مدينة الأنفاق فكر عبقري وفذ، ويتوافق مع روح النضال والمقاومة”.
ويتفق أسامة الشاذلي (1973)، وهو صحفي وروائي وسيناريست مصري، وضابط سابق بالقوات المسلحة المصرية، مع ما ذهب إليه أحمد نوار بشأن الفضاء المكاني للحرب، أي غزة وأنفاقها، فيقول: “صنع الفن المقاوم ما عجزت عنه النظريات والقوى العسكرية بعد تحضير جيد امتد لتصميم شبكة مدهشة من الأنفاق لا يصنعها سوى خيال مهندس فنان، جعلت الصراع فوق الأرض بلا معنى، وإن احتجت لمواجهتنا فتعالَ ندفنك أسفلها”.
الروائي والمسرحي و”المسافة صفر”
تتشابه إذن، مسارات قائدي الحرب، مع مسار مياموتو موساشي، فثلاثتهم حملوا السلاح، وثلاثتهم مارسوا الفن وآمنوا بأهمية الثقافة، فرسم مياموتو اللوحات، وكتب يحيى السنوار الرواية، ومثل وألّف محمد الضيف المسرحيات، وكما كان لمياموتو دور في ابتكار قتالي متمثل في طريقته في المبارزة المشار لها آنفًا، فقد ابتكر قادة “طوفان الأقصى” حيلًا عسكرية يصعب أن ترد على المخيلة غير النشطة.
يقول أحمد نوار: “محمد الضيف يتفاعل فكريًا على مساحة وفراغ وعمق المسرح الذي يحتاج إلى بناء درامي وجمالي في نفس الوقت”.
ويرى نوار، أن الإسهام الفني في حرب طوفان الأقصى لا يقتصر على قادة الحرب، لأن تلك الروح الفنية طالت جميع أفراد المقاومة. يوضح: “امتدت ثقافة السنوار والضيف إلى كل مقاوم، فهم يشتركون في أنهم يمتلكون الأرض والتاريخ، وقدرتهم على السيطرة والتفوق على الكيان الصهيوني جاء نتيجة حتمية للخطة العامة لمعركة (طوفان الأقصى)، فالإدراك الفني والثقافة المتراكمة لدى السنوار والضيف كان لهما الأساس والفضل في نجاح الخطة العملاقة التي أذهلت العدو والعالم”.
ويعلق أسامة الشاذلي على “التعاون الفني بين السنوار والضيف في إدارة الحرب” فيقول: “اجتمع يحيى السنوار الروائي كاتب رواية “الشوك والقرنفل” مخطط طوفان الأقصى وقائده الأهم مع محمد الضيف المسرحي الفلسطيني مؤسس فرقة “العائدون” – وكأنه يقصد تسميته – ليضعا خطة فنية تمامًا لمواجهة آلة عسكرية غاشمة لا تعرف الرحمة وواحدة من أكبر قوى الشر والبقية الباقية من القوى الاستعمارية في هذا العالم.. إسرائيل”.
“كنت ضابطًا للمدرعات في القوات المسلحة لقرابة أحد عشر عامًا، ودرست الدبابة الميركافا التي صورتها البروباجندا الصهيونية على أنها الدبابة الأعظم في العالم وصنعوا حولها هالة ضخمة لتكون الدبابة الأفضل من التي 90 الروسية والليوبارد الألمانية والإبرامز الأميركية والتشالنجر البريطانية، بل وظللنا لسنوات نحلل ونتدرب على نقاط ضعفها حين الاشتباك لأن أهم مميزاتها كانت الحفاظ على طاقمها حيًا حسب عقيدة القتال الإسرائيلية التي تحافظ على الفرد قبل المعركة، لكن خطة “المسافة صفر” التي صنعها خيال فنان حالم حطمت تلك النظرية ودمرت تلك الدبابة وجعلتها أضحوكة العالم بأكمله”.
الخيال كسلاح
يستند كريم شوقي، اختصاصي الطب النفسي إلى مقولة آينشتاين: “الخيال أهم من المعرفة، لأن المعرفة محدودة، أما الخيال فلا حدود له”. في تحليله للمنطلقات الفنية التي أُسس جانب كبير من خطة 7 أكتوبر على أساسها. ويشرح: “إذا كان الإبداع هو العملية التي تتحرك فيها المفاهيم التي كانت ثابتة ساكنة نسبيًا، ويمكّنها هذا التحرك من التأليف الواعد بخلق كل أكبر، فالحرب هي الأخرى عملية لتحريك واقع يرفضه المظلوم، وخلق واقع جديد ينصفه”.
ويضيف: “كتب يحيى السنوار رواية عن التحول النوعي للفلسطينيين من لحظات الانكسار إلى بناء المقاومة، وفي الوقت نفسه كان الرجل يتعلم اللغة العبرية في سجنه، وأدمن مشاهدة القنوات الإسرائيلية حسب شهادة سجّانيه، وكأنه كان يجمع المواد الأولية اللازمة لبناء مشروعه بعد ذلك، وكان المشروع الجديد بسيطًا وغريبًا ومجنونًا في أدواته ووسائله، فمن كان يتخيل مثلًا إمكانية تحويل لعب الأطفال البسيطة إلى أداة من أدوات المقاومة مثل البالونات والطائرات الورقية الحارقة التي أرعبت إسرائيل منذ عام 2018، لقد أدرك المؤلف أن زرع الخوف بين الصهاينة أشد وطأة من زرع القنابل”.
ويعلق أحمد نوار على أحد أبرز ملامح الابتكار في يوم 7 أكتوبر قائلا: “الملفت للنظر والمدهش هو الخيال الذي أدى إلى ابتكار (المقاتل الطائر) لاختراق الحدود، إنه قمة الإبداع، وهو يذكرنا بأفلام الخيال العلمي ومحاولات الصعود إلى الفضاء. وقد تحول هذا الخيال إلى واقع فعلي. إن الأساس هنا هو الخيال، وامتلاك قدر من الخيال سيؤدي إلى قدر كبير من الابتكار، وهذا ما حدث في (طوفان الأقصى)”.
يقول اختصاصي الطب النفسي كريم شوقي: “كان إيريك بيرن (1910 – 1970) الطبيب والمحلل النفسي اليهودي الأميركي الأشهر يقول إن الصهاينة قرأوا التاريخ جيدًا واستوعبوا الدروس، وأن تكديسهم للأسلحة الحديثة سيحول دون تكرار نهايتهم المعتادة، وأعتقد أن لو بيرن مازال حيًا لم يكن ليحتاج إلى الكثير من الذكاء لاستقراء مصير المشاركين في هذه الملحمة من الطرفين، فقد حرص مؤلف النص على أن تكون النكبة هذه المرة من نصيب الصهاينة. سينتصر الفلسطينيون حتمًا في هذه الجولة، لأنهم من كتب السيناريو، والإسرائيليون لم يكونوا سوى ردة فعل، لقد انعكست الأدوار في الرواية”.