ردّاً على تصريحاتٍ أدلَت بها خلال فعاليَّةٍ في باريس في مطلع الشهر الجاري، تلقَّت جوديث بتلر رسائل كراهية ترافقَت مع انتقاداتٍ لاذعة من قبل منشوراتٍ صهيونيَّة. في هذه المقالة، تدافع بتلر عن موقفها وتوضِّحه.
نشرت في “منشورات فيرسو” 14 آذار 2024.. نُشِرت أولاً في موقع “ميديا بارت” الفرنسي في 11 آذار 2024.
غصَّت زيارتي لفرنسا خلال هذا العام الأكاديميِّ بمنعطفاتٍ وتحوُّلاتٍ مثيرةٍ للاهتمام. بدايةً، في مطلع شهر كانون الأوَّل، ألغَت عمدة باريس فعالية عن معاداة الساميَّة ومعاداة الصهيونيَّة، كنت آمل من خلالها توضيح الفارق بين الظاهرتين. أُعيدَت جدولة الفعالية لتُقام في بانتان، وحضر جمع غفير للمشاركة في مناقشة هذا الموضوع، بما في ذلك فرانسوا فيرغيس، وميشيل سيبوني، والمنتج والمؤلِّف المسؤول في ريليه دي بانتان أوليفيه ماربوف. شملَت المنظَّمات الراعية للفعالية جماعتين يهوديَّتين معاديتين للصهيونيَّة، فضلاً عن منظَّماتٍ يساريَّة أخرى. عقب الفعالية، نشرَت حركة “كلمات الشرف” تسجيلاً لما دار خلالها، ومن ثمَّ تداول منتقدون مقطعاً مصوَّراً، مقتطعاً من سياقه، يظهر فيه أنَّني أقول إنَّ الهجمات التي ارتُكبت ضدَّ إسرائيليِّين في السابع من تشرين الأوَّل أكتوبر كانت جزءاً من حركة مقاومة. واقترحتُ ألَّا نُفكِّر في حماس كجماعةٍ إرهابيَّة، بل كجزءٍ من حركة المقاومة تلك. لكن ما فشل ذلك المقتطف في تضمينه كان الجزء الثاني من حجَّتي، وتحديداً، أنَّنا نستطيع، بل ينغي علينا، أن نختلف مع أساليب مثل هذه الحركة، وأنَّ وجهة نظري هي أنَّه ينبغي معارضة كلٍّ من الفظائع التي ارتكبت حينذاك، وأعمال الإبادة الجماعيَّة التي ترتكبها دولة إسرائيل. بعد ذلك، انتقلتُ إلى الحديث عن اللاعنف ومعناه، مؤكِّدةً على تطلُّعاتي إزاء المنطقة، والتي يشاركني فيها كثيرون أيضاً، بصدد إرساء شكلٍ من أشكال الحكمِ يُجسِّد قيم المساواة، والعدالة، والحرِّيَّة للجميع، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الأصل القوميّ.
ثمَّ ما لبثت أن انهالَت عليَّ رسائل كراهية من صهاينةٍ منزعجين. اتُّهِمتُ مجدَّداً بدعم حماس؛ وباللامبالاة بالانتهاكات الجنسيَّة؛ وبإساءة استخدام مصطلح “مقاومة” المقدَّس في السياق الفرنسيّ. كما أعربَت المؤسَّسة التي استضافتني في باريس عن قلقها إزاء ذلك الغضب الشعبيّ. وعلى الرغم من أنَّني لم أتعرَّض “للإلغاء” تماماً، إلَّا أنَّ بعض الفعاليات التي كان يفترض أن أشاركَ فيها قد “أُجِّلت” في ضوء تهديداتٍ بتعطيل محاضراتي. ما أودُ قوله إنَّ هذه الفضيحة تتعلَّق بي، وليست كذلك، في الوقت نفسه. ففي مثل هذه الأوقات، يصير المتحدِّثون في الفعاليات العامَّة بمثابة دوَّاماتٍ تجتذب قوى متصارعة؛ وتغدو، أوضح من الشمس، ضآلةُ الاهتمام بالمناقشات والأفكار اللائقة التي تحتاج إلى الوقت حتَّى تنضج وتتبلور. ومثلما ذكرتُ في مقالتي المنشورة في العاشر من أكتوبر في لندن ريفيو أوف بوكس تحت عنوان “بوصلة الحداد“، فقد شعرتُ بكربٍ عظيمٍ إزاء مقتل مواطنين إسرائيليِّين يهود في السابع من أكتوبر، وكذلك أدنتُ حماس لما ارتكبته من فظائع. في الوقت نفسه، كان عليَّ أن أسأل نفسي عن السبب الذي يجعلُني أحزنُ بشدّةٍ لتلك الأرواح، بينما تتصاعد كثافة الهجمات ضدَّ الفلسطينيِّين في غزَّة ويُقَتل الآلاف منهم. اعتقدَ البعض أنَّه ينبغي عليَّ الحديث أكثر عن الإسرائيليِّين التي أُزهقت حياتهم بوحشيَّة، أو أخذوا كرهائن؛ في حين رأى البعض أنَّه يتوجّب عليَّ الصمت بشأن ما يعتريني من حزنٍ إزاء تلك الأرواح. بيد أنَّه ليس بمقدوري التخلِّي عن الحزن، أو الغضب، اللذين أشعر بهما حيال أولئك الذين تعرَّضوا للاعتداءات والقتل في السابع من أكتوبر؛ ولا الامتناع عن تأكيد أنَّ هناك إبادةً جماعيَّةً يتعرَّض إليها الشعب الفلسطينيّ. وبالنسبة إليّ، ما من تعارضٍ بين هذين الموقفين.
تظلُّ هذه النوازع كلُّها صحيحةً بالنسبة إليَّ، كيهوديَّةٍ وإنسانة في آن. فكما نعلم، وفي ظلِّ عقودٍ من أعمال العنف التي أفضَت إلى تلك الواقعة، ولا سيما تلك التي ارتكبتها قوَّات الاحتلال، قبل السابع من أكتوبر، فإنَّه ينبغي علينا رواية السرديَّات التاريخيَّة ابتداءً من تلك العقود. منذ ذلك الحين، أسفرَت الهجمات الإسرائيليَّة على غزَّة عن مقتل ما يقرب 30,000 شخص؛ هذه الأرواح تثير فيَّ الأسى وتحثُّني على معارضة عنف الدولة الإسرائيليَّة. لذا، أجدُ نفسي أمام محنةٍ لا تناقُض؛ وهي محنةٌ أتشاركُها مع كثيرين في جميع أنحاء العالم، ألا وهي الحداد على كلِّ الأرواح التي أزهِقت في هذه الحرب الوحشيَّة، والرغبة في عالمٍ لا مكانَ فيه لأيِّ عنفٍ أو قتل.
لقد نجمَت هجمات حماس في أكتوبر، كما نعلم، عن فصيلٍ مسلَّحٍ يتبع لحزبٍ سياسيٍّ يديرُ قطاع عزَّة. وإنَّني أضمُّ صوتيِّ إلى أولئك الذين يصفون هذا الهجوم كنوعٍ من المقاومة المسلَّحة ضدَّ الاستعمار والحصار والتشريد المستمرَّين. لا يعني هذا رمنسة ما ارتُكب من فظائع أو تبرير أيَّ أفعال. وعلى الرغم من صعوبة تقبُّل ما سأقوله للوهلة الأولى، إلَّا أنَّني أرى أنَّ من الممكن وصف حماس كجزءٍ من حركة مقاومةٍ أو كفاحٍ مسلَّح، دون اعتبار أنَّ أفعالها مبرَّرة. ليسَت كافَّة أشكال “المقاومة” مبرَّرة. فجميع صور العنف الجنسيّ مشينةٌ ومُدانة، سواء ارتكبتها حماس أو الجيش الإسرائيليّ. كذلك ينبغي التصدِّي لمعاداة الساميَّة، والعنصريَّة المعادية للعرب، بالحزم نفسه. بالنسبة إليَّ، يجب أن ينصبَّ تركيزنا الآن على كلٍّ من القتل الإسرائيليّ بطرقٍ منفلتةٍ وصفيقةٍ لعشرات الآلاف من العزِّيين؛ وتواطؤ الولايات المتَّحدة والقوى العظمى مع هذه الإبادة الجماعيَّة. لقد آن الأوان للمجتمع الدوليّ، ولا سيما الجهات الفاعلة في المنطقة، أن تعمل معاً لإيجاد حلٍّ عادلٍ ودائمٍ يسمح لجميع سكَّان تلك الأرض بالعيش في مساواةٍ وحرِّيَّةٍ وعدالة. ولتحقيق ذلك، يجب أن نجد سبلاً لفهم أسباب العنف، دون اللجوء إلى: 1) تبريراتٍ مُتعجِّلة ومحلّ شكّ، سواءٌ معه أو ضدَّه، و2) صور كاريكاتوريَّة عنصريَّة تعارِضُه.
التزامي هو التوصُّل إلى وسيلةٍ تسمح بتَصوُّر تطبيق المساواة المطلقة على كلِّ من يستحقّون الرثاء. سيحتجُّ على هذا أشخاصٌ من جميع الأطراف. إنَّ فلسفة اللاعنف تتطلَّبُ منظوراً للحرب لا يتبنَّى بالضرورة موقفاً من داخل الحرب نفسها. ومن الممكن، إن لم نقل لزاماً، تأمُّلُ الحرب وأفعال الإبادة الجماعيَّة -وهذين ليستا مُتماثلتين- من أجل إنتاج تفكيرٍ نقديٍّ ينشد الوصول إلى إمكانيَّة تحقيق سلامٍ حقيقيّ، واستشفاف كلٍّ من السبل والأسباب التي تدفع اللاعبين العسكريِّين إلى إلقاء السلاح والانخراط معاً على طاولة الدبلوماسيَّة وبناء مستقبل جديد.
إذا أردنا مطالبة المتقاتلين بإلقاء أسلحتهم -كما آمل أن نفعل- فإنَّه يتعيَّن علينا فهم الأسباب التي دفعتهم إلى حملها في المقام الأوَّل. لكن ليسَت الغاية من تتبُّع هذا النوع من التحقيق التاريخيّ تبريرَ العنف الناجم عنها؛ ففهمُ النشأة التاريخيَّة لحركةٍ ما لا يعني عقلنة أفعالها. في الواقع، من أجل تحقيق عالمٍ من التعايش اللاعنفيّ وإنهاء القهر والإخضاع، سيكون لزاماً أن نفهم تاريخ القهر الاستعماريّ، وكذلك بُناه وممارساته المستمرَّة، بغية وضع نهايةٍ لذلك القهر. لن ينجح التعايش ما لم نرسِّخ في البداية ظروف المساواة. بالنسبة إليّ، لطالما شكَّلت القيم العليا للمساواة والتعايش مُرتكزَ كلِّ أعمالي، وكذلك فيما يتعلَّق بالالتزام بالأنماط اللاعنفيَّة في النشاط والحشد السياسيّين. فالأدوات التي نستخدمها تعكسُ رؤيتنا للعالم الذي نصبو إليه وتُمثِّله، ولهذا يتيح اللاعنف، مهما بدا غير عمليّ، منظوراً لا يمكننا الاستغناء عنه. ومع أنَّه يُحزنني التطرُّق إلى الجهود المبذولة من أجل تشويه كلماتي وعملي وتحريفها؛ لكن لعلَّ هذه الحادثة تبيِّنُ أيضاً حدودَ ما يمكن سماعُه ومعرفتُه بالنسبة إلى أولئك الذين اتَّخذوا من التواطؤ والتنكُّر للمسؤوليَّات أسلوبَ حياة؛ الأسلوب الذي نحنُ بأمسِّ الحاجة إلى وضعه موضع الطعن والتشكيك.
فيديو اللقاء في بانتان (بالإنكليزية والفرنسية):