لا يبدو خارجًا عن السياق الولوج للتراث المسرحي فيما يتعلق بالاشتباك مع الواقع العربي الراهن، في ظل حالة الوهن التي تعتري المشهد العربي في حرب الإبادة التي تقودها قوة استعمارية إسرائيلية على غزة، التي لا يسع الموقف العربي فيها سوى أن يحسب نفسه أمام مسرحية آخذًا فيها موقف المتفرج طواعية، تماما كما عُرفنا في مسرح الفرجة الذي اعتدنا فيه الالتزام بالمشاهدة دون أن ننبس بكلمة، قبل أن نكتشف جذور المسرح الحواري بحكم غريزتنا الجماعية، فقدم سعد الله ونوس المسرح بحلة جديدة التي تناسب استدراكنا لواقعنا، إلا أن مأساتنا ما عادت مسرحية قابلة للتمثيل على خشبة مسرح، حتى باتت حكايتنا التي يخيل للسامع عنها أنها مسرحية لشدة سوداويتها واقعًا ديستوبيًا، ولا أقصد هنا في السياق المتناول حرب الإبادة على غزة عينها، فهي حرب يقودها شتى صنوف الاستعمار أبرزها الاستعمار الإسرائيلي، وإنما أقصد حال الواقع العربي المتقهقر والذي بات مكشوفًا أمام هذه الحرب، فأصبحنا نعيش في حالة نكوص بعيدًا عن تراثنا الحقيقي الذي حققنا فيه إنجازًا يحسب لوعينا بذواتنا.
إن تراثنا المتمثل بالمسرح الحواري الذي ثار على الظلم وانتصر للمقهورين والمقموعين واستهدف تعليمنا والقضاء على تجهيلنا بواقعنا، أصبح ضربًا من ضروب كسر العبودية في قوله لما لا ينقال في الواقع، إلا أننا ابتعدنا عن إرثنا مشكلين قوقعة حالت بيننا وبين صدق الفعل والقول، وأصبحت الأقنعة التي أسقطناها في مسرح المقموعين أكثر ملائمة لحالة الذل والخضوع التي نعيشها، والحائط الرابع الذي حال بيننا وبين كلامنا وأسقطناه في مسرحنا الحقيقي، استعدنا همة إعادة بنائه وطوبناه بأسوار عالية وسميكة ليحول بيننا وبين صراخ الملكومين والمقهورين، وكأننا ما عدنا نريد حتى أن نتفرج على مأساتنا، إلا أن الفارق يكمن في أن المسرح يبقى مسرحًا بخصوصيته ذات الخشبة والجمهور والستارة، ومأساتنا ساحة مفتوحة جمهورها هم ممثليها وستارتها استعمارًا سلم السلطة علينا لاستعمار جديد.
ماذا قدم المسرح السياسي لنا؟
لم يكن المسرح السياسي القائم على محاورة الواقع بعيدًا عن حاجة الأمة العربية، بالرغم من أنه استمد أبعاد التجديد من المسرح الملحمي الذي قدمه بروتولد بريخت، مع التحفظ على خصوصية مسرحنا العربي الجديد وهويته، فالتغريب والتوقف عن السرد وكسر الإيهام كلها تقنيات وجدت طريقها في المسرح الخاص بنا، فمنذ أن عكف ونوس على تسيس المسرح وتقديمه للواقع العربي وجد في الواقع ما يكفي من معضلات سياسية واجتماعية كفيلة لأن تجعلنا ندرك جوعنا للحوار، وتقويض التمثيل الملتزم بالنص والذي يفصل بين عناصر المسرح، بصورة نعكس فيها الحقيقة التي غيبناها عن ذواتنا في ظل هزائمنا وانكساراتنا وانصياعنا للسلطات.
ولعل ما قرب المسرح العربي إلينا بحلته الجديدة هو قيامه على ظاهرة التمسرح، في التأصيل للبذور الوجودية للمسرح العربي السياسي، إذ أصبغت على المسرح خصوصية دفعت بدمجه مع الواقع وقضاياه، على اعتبار أن التمسرح هو “البعد المسرحي لتصرفات الإنسان وحركاته داخل الفضاء اليومي” بما في ذلك علاقته مع الآخرين، ما يحيل إلى أن المسرح كظاهرة هو غريزة بشرية يومية، أي أن جذور المسرح السياسي القائم على الحوار لم تكن بعيدة عنا، وانبثق من بوادر وجودية كانت سابقة على إعلان قيام المسرح الجديد.
إن تسييس ونوس للمسرح هو اتجاه نبع من إسقاط حالة العزلة التي عاشتها الشعوب العربية في ظل السياسات العربية والقمعية، التي أسقطت الدور الفاعل للكلمة على حساب سياسة تكميم الأفواه، ولعل حالة الحنين للتطرق للمسرح السياسي وتجديد ونوس والكتابة عنه في هذه الفترة، لهو نابع من حالة تراجع واضحة في سياقنا العربي فيما يتعلق بحالة الفرجة التي تعتري الواقع العربي، على حرب الإبادة التي تقوم بها قوة استعمارية إسرائيلية على قطاع غزة، وكأننا خلقنا من جديد في حالة مسرحية لم تتعرف على حاجتنا للحرية ومناهضة الظلم، وتنتمي لحقبة استعمارية جديدة متحكمة بالأمة ولا تقبل على الشعوب سوى حالة الرضوخ، إذ باتت الشعوب العربية تتخذ موقف الصمت في ظل الهوان العربي، في حالة يعتريها الذهول من استمرار الحرب على قطاع غزة دون أي رد فعل يستحق أن يسجل في التاريخ، فبات جوهر المسرح الحواري يعزينا بأنفسنا على حالة الخنوع، إذا بات محتوى فن المسرح الذي قدمه ونوس أكثر صدقا في خطابه من الخطابات التي خرج بها الساسة في كشف حقيقة واقعنا، وأكثر إنصافًا في قول الكلمة وتحييد الباطل.
لماذا ونوس في قراءة الواقع؟
تساءل ونوس في رسالته التي كتبها لليوم العالمي للمسرح عام 1996 عن سبب كتابته للمسرحيات في زمن انحسار المسرح وتقهقره، ثم يجيب ” ” إني مصرّ على الكتابة للمسرح، لأني أريد أن أدافع عنه، وأقدّم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً “. وأخشى أنني أكرر نفسي، لو استدركت هنا وقلت :” إن المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مركّبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها وافتقر إليها “.”، وكأن ونوس أدرك منذ زمن بعيد ما ستؤول إليه الأمور.
لم يقدم ونوس مشروعًا عاديًا للمسرح، وإلا ما استدعى ذلك أن نقف اليوم عنده بعد أن اجتاحت التكنولوجيا العالم وتقهقر المسرح حتى يكاد أن يكون معدومًا، إذ لم يعد أي من المجتمعات يأبى بتكريسه في الثقافة، وهو ما بات يوضح مستوى الأزمة الثقافية التي نخرت بنية المجتمعات وهددت بنيتها الحضارية، حتى بات استحقاق الشعوب من إنجازاتها متدنيًا رغم الإرث الفريد، لكن تجهيلنا من قبل القوى الاستعمارية بلغ مبلغًا عظيمًا حتى أصبح ما أنجزناه للبشرية مجرد ماضٍ نحن إليه بحكم عطشنا لليوتوبيا الرغيدة، التي كثيرًا ما نجد أنفسنا فيها في ظل واقع استعماري جديد نعيشه بعد استقلالنا المدروس الذي منح لنا من قبل القوى الكولونيالية ذاتها.
تعد خطوة تسيس المسرح التي انطلقت من جوع الشعوب للحوار، والذي قدمه ونوس ضمن مشروع ذو خصوصية عربية حمل في طياته فهم عميق لسوسيولوجيا المجتمعات العربية، إذ احتوى المسرح الجديد على ثلاث طبقات من الحوار يتخللها حوار داخل العرض المسرحي وحوار بين العرض والمتفرج، وحوار بين المتفرجين أنفسهم، وهو ما جعل من فضاء المسرح مفتوحًا على ثقافة الحوار بين الأفراد والجماعات رغم حدوده المغلقة، إذ أخذ على عاتقه جعل المسرح مكان للاحتفال بالاختلاف واحترام التعددية، وتقويض النزاعات، وهو ما دلل على فهمه لأهداف الاستعمار في استهدافه لنقاط ضعف الشعوب وتأجيجها.
إذ بات يعد إرث ونوس المسرحي ضروريًا لاستدراك واقعنا في مرحلة ما بعد الكولونيالية التي أدخلت الشعوب خلالها في أشكال أخرى للاستعمار أجهضت بالضرورة نهضة الأمة ووحدتها، فشكلت هزيمة حزيران 1967 في نظر ونوس نقطة تحول في دخول الشعوب العربية لنفق مظلم تحت وطأة الاستعمار الجديد الذي يقوده الغرب بشتى الطرق، بالرأسمالية والليبرالية التي تطورت لاحقًا للتطبيع السياسي والاقتصادي مع الاحتلال، بعد أن طعنوا خاصرة الوطن العربي بالمستعمر الإسرائيلي الذي بات معضلة وجودية مهددة للفلسطيني على أرضه وللعربي في رجعيته أكثر فأكثر، حتى لجمت الشعوب عن الثورة نحو الحرية والانعتاق من العبودية، فأجهضت الثورات وانشغلت الشعوب في حروب أهلية ونزاعات طائفية وعقائدية، وهو ما بدد الحلم بالانعتاق من الفردية والإحساس بالجماعة ضمن بوتقة المسرح الحواري الذي كرس له ونوس محطة فكرية هامة، كانت لو أدركتها الشعوب وانتهجتها لانتقلت الأمة العربية لواقع أكثر إنصافًا، وهو ما لم يتحقق لإجهاض المستعمر الغربي والإسرائيلي إقامة مشروع حضاري يتفوق على الغرب، يعاود ونوس القول في رسالته “وما دمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا، فعلينا الاعتراف، بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الإنساني العميق”.
“الفيل يا ملك الزمان”.. ماذا عن عالم مليء بالفيلة؟
يتنوع الإرث المسرحي الذي قدمه ونوس ليجعل من كل مسرحية أنتجها ذات رسالة وخطاب، لا ينفك حتى يبني جسور مع الواقع بكافة محطاته الزمانية، إذ تكمن فردانية إرثه المسرحي بإمكانية قراءته خارج الأطر الزمانية والمكانية التي كتب ومثل فيها، ما يتصل مع ميخائيل باختين في تنظيره لحوارية العمل الفني من خلال ثنائية الزمان والمكان “الكرونوتوب” أي “الزمكانية”، إذ تعد البنية الزمكانية داخل العمل الفني المتخيل الفضاء الذي يشتغل عليه الفنان لتقريب العمل الفني من المتلقي، حتى يغدو متن الأحداث مألوفا للقارئ ويضفي عليه واقعية تجعل المتلقي يشعر بأنه في خضمها، وكأنها تقع حوله وفي زمانه.
وتتحدد حوارية المسرحية التي قدمها ونوس تحت عنوان “الفيل يا ملك الزمان” بجعل فضاء المسرحية بنية توليفية تؤطر حركة الأحداث وخط سيرها بصورة تخرج من فضاء المسرح والعمل للفني للفضاء المعيش، من خلال مدلولات سيميائية وإسقاطات مكانية وزمانية تشبك القارئ مع العمل الفني كإحدى الشخصيات الفاعلة في المسرحية. وتحكي المسرحية حكاية ملك له فيلًا يجعله فوق الرعية، فينكل بها ويدهس أطفالهم، ويستبيح أملاكهم فيدمر أراضيها ويهرس مواشيها، ويدمر بيوتها، ويطرح سكانها أرضا، لتقرر الرعية مقابلة الملك والشكاية على الفيل، لوهلة تصور المسرحية واقع المجتمعات العربية في إسقاط صورة الملك المستبد الذي تخافه الرعية على البنية الحاكمة مجتمعاتنا، فلا تخلو صورة المدينة على خشبة المسرح من تصوير واقع الفقر والصبر على الضرائب والأوبئة وأعمال السخرة، وأخيرًا هذا الفيل الذي يبطش الأرواح ويميتها ويسير فوق الرعية وكأنها بساط لأقدامه، وعندما تصل الرعية للملك الذي يسكن في قصر فاخر، تبدأ حاشية الملك وحراسه بالظهور، في مفارقة مكانية بين المدينة الفقيرة التي يحكمها الملك وتعاني ظلمه وظلم الفيل، والقصر الفاخر الذي يتربع فيه الملك على عرشه.
من منظور آخر، تتعدد قراءات المسرحية بتنوع سياقات الانصياع للظلم في الواقع العربي، إذ يمكن أن تقرأ المسرحية بصورة أخرى إسقاطًا على واقع الاستعمار الاسرائيلي في فلسطين، فالملك هو الحامي للفيل، تماما كما يمكن إحالة صورة الفيل في المسرحية للاحتلال الإسرائيلي الذي يسلب الناس أراضيها وبيوتها ويقتل أطفالها، إذ تصور المسرحية صورة لدهس أحد الأطفال تحت أقدام الفيل ووالدة الطفل الملكومة، في صورة مشابهة لإجرام قتل الأطفال على أيدي الاحتلال الاسرائيلي، أما الملك فيعكس صورة الأنظمة العربية المناصرة للاحتلال الصهيوني وتدعم وجوده، فلا تكترث لكم القتل والتنكيل الذي يحدث في فلسطين على حساب المصالح الاقتصادية والسياسية مع الاحتلال، أما سكان المدينة يعكسون صورتين في سياقين، الأولى واقع الفلسطيني الملكوم على أبنائه الشهداء وأرضه ولا يملك حقوقه، وذلك في صورة المرأة التي يدهس طفلها وآخر يفقد أرضه وثالث يصبح طريح الفراش بعد أن يرفسه الفيل بأقدامه، أما الثانية فتنعكس عند مقابلة الرعية للملك الطاغي لتشكوا له الفيل المستبد فتصاب بالخرس وتقبل بالخنوع والرضوخ، حتى يطلب زكريا -أحد الرعية- تزويج الفيل وتدليلة وترضخ بقية الرعية خوفًا من حاكمها، في صورى مشابهة للشعوب العربية الصامتة على الظلم وهو ما يعكس استمرارية الظلم بسبب الفيل.
تنعكس في المسرحية تقنيات المسرح الملحمي التي خدمت حوارية المسرح السياسي، إذ تنتهي المسرحية بتذويب الجدار بين الممثلين والجمهور، فيخاطب الممثلون الجمهور بصورية تعكس أن خشبة المسرح ليست فاصل بين بنيتين مختلفتين:
(يتحركون بخطوات ذليلة منسحبين، وتخفت الأضواء فترة. بعد ذلك ينتفض الجميع. يقفون صفًا أمام الجمهور، وقد نفضوا عن حركاتهم وهيئاتهم مظاهر التمثيل.. بعد لحظات)
الجميع: هذه حكاية.
ممثل5: ونحن ممثلون.
ممثل3: مثلناها لكم لكي نتعلم معكم عبرتها.
ممثل7:هل عرفتم الآن لماذا توجد الفيلة؟
ممثلة3:هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفيلة؟
ممثل 5:لكن حياتنا ليست إلا البداية.
ممثل 4: عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أخرى.
الجميع: حكاية دموية عنيفة.
وفي سهرة أخرى سنمثل جميعا تلك الحكاية.
“ثم ينسحب الجميع”..
يأتي التطرق لهذه المسرحية في الوقت الراهن، لما بات يقرأ من تداعيات الصمت العربي في الواقع، والخوف من مواجهة الأنظمة الحاكمة حتى بات الخوف متحكم في الشعوب جملةً وتفصيلًا، إذ اعتمد ونوس على تجليات أبعاد المسرحة التي تفصل الالتزام بالنص حرفًا وكلمًة عن الآداء الحواري، وحالة التمسرح المعيشة في الواقع لتمثيل الزمكانية وخلق حوارية بين زمن كتابة المسرحية وزمن راهنية قرائتها، واعتمد ونوس لفظة “الزمان” في اسم المسرحية ليضفي خصوصية على الزمان المعيش في المسرحية، واستمراية الزمان ذاته التي تنعكس بخلوه من الأمان في ظل البطش الذي يمارسه الفيل وظلم الملك بالالتقاء مع الواقع العربي، إذ تنتهي المسرحية “وفي سهرة أخرى سنمثل جميعًا تلك الحكاية” أي في زمان آخر ممتد لهذا الزمان حيث ستكثر فيه الفيلة تباعًا للصمت العربي.
أما أهمية هذه المسرحية التي قدمها ونوس في حياته التي فجع فيها مرارًا وتكرارًا بعواقب الصمت العربي، تأتي لتقرأ في الوقت الراهن الذي كثرت فيه الفيلة في إحالة لكل ما هو حامي للاستعمار الإسرائيلي، في صورة استشرافية حذرت منها نهاية المسرحية، حتى بات الواقع معضلة وجودية للفلسطيني والعربي على السواء، فما أصبح واقعًا هو ما نهى به مسرحيته “في سهرة أخرى سنمثل جميعًا تلك الحكاية”، وهو الزمان الراهن وعواقبه المتجسدة في حرب الإبادة على قطاع غزة والتنكيل بالفلسطيني في كل مكان في فلسطين المحتلة، هذا الوضع الراهن الذي بات كل من الحكومات والشعوب فاعل في استمراريته حتى أضحى الشعب الفلسطيني ضحية كل من الملك الطاغية والفيل المستبد.
المصادر: