ومن نكبةٍ لاقيتُها بعد نكبةٍ … رهبتُ اعتسافَ الأرضِ ذاتِ المناكبِ
ابن الرّومي
لا يحتاجُ الفلسطينيُّ أن يكون متطيّرًا مثل ابن الرّومي لكي يشعرَ، وهو يُنهي ستة وسبعين عامًا من النكبةِ الأولى، برهابِ “اعتسافِ الأرضِ ذاتِ المناكب”. فالوقائعُ تؤكّدُ ما قالَهُ محمود درويش في وصفِ النكبة بأنّها “حاضرٌ ممتدٌّ يُشيرُ إلى الاستمرار في المستقبل”.
الأرقامُ تقولُ إنّ عدد الفلسطينيين في كلّ العالم بلغ مع نهايةِ العام ٢٠٢٣ أكثر من ١٤,٥ مليون شخص، يعيشُ أكثر من نصفهم خارج الأراضي الفلسطينية، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ السبعة ملايين فلسطيني في الداخل يعيشون على أرضِهم، فقد هُجّرَ أكثر من مليون فلسطينيّ من أرضهم عقبَ النكبةِ الأولى عام ٤٨، وحوالي مائتي ألف بعد نكسةِ حزيران ٦٧، أي قبل خمسةٍ وخمسينَ عامًا من الحربِ الأخيرةِ التي تشنّها دولةُ الاحتلال منذُ أكتوبر الماضي ضدّ الفلسطينيين في قطّاع غزّة، والتي أسفرت عن نزوحِ أكثر من مليوني فلسطينيّ تحت وطأةِ القصفِ والدمار، من دونِ أن ننسى أنّ حوالي ٦٦٪ من سكّان القطّاع هم أصلًا نازحون إليه وليسوا من سكّانهِ الأصليين.
يحيلُنا هذا التغيير الديمغرافيّ المُمنهج إلى مفاهيمَ أكثر عموميّةً من حصرِها بالإطارِ الفلسطينيّ، من بينِها ذلك التغيير الذي يطرأ على مفهومَي الوطن والمنفى ومعناهما، ومصادر هذين المعنيين.
شرّحَ البروفيسور الراحل يوسف سلامة (١٩٤٦ – ٢٠٢٤) هذين المفهومين في مقالتِهِ المنشورة في مجلّة حرمون بعنوان “على هامش الوطن – تأملات فلسفية في مفهوم الوطن” في أيار/مايو ٢٠١٧ ضمنَ ملفٍّ أعدته المجلة بمناسبة الذكرى السادسة لانطلاقة الثورة السورية. فاستخدم “الهامش” ضمن ورقتهِ التأمليّة تلك للدلالة على “اللا وطن”، على اعتبار أنّ الوطنَ هو المتن:
“لا يمكننا فهم الهامش من دون العودة إلى النص الأصلي أو إلى المتن الأم، فهذا الهامش ما هو إلا نوع من المعرفة التي لم تجد لها محلّاً مناسبًا في المتن، فنُحيت إلى الهامش”.
لكنّ الخطورةَ في ذلك الهامش، الذي هو ضروريٌّ لفهم المتن، تكمنُ بتحوّلِ الهامشِ إلى متنٍ (نصٍّ) جديد، يُحيلُ بدورهِ، بل ويستدعي وجودَ هوامشَ أخرى.
وعلى الرغم من أنّ العلاقةَ بين الوطن واللا وطن تقومُ على السّلب المتبادل، من زاويةِ الأنطولوجيا (علم الوجود) وفقَ سلامة، أي أنّ وجودَ أحدهما ينفي وجودَ الآخر، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّهُ لا يُمكنُ تواجدُهما في المكانِ نفسهِ والزمانِ نفسه. بل إنّ ذلك يعني أنّ سلبَ الوطنِ من شعبٍ ما، يُنتجُ لا وطنًا لهذا الشعب، في وطنه.
وهنا نجدُ أنّه لا يُمكنُ بأيّ حالٍ التفكيرُ بالوطنِ لفهمه أصلًا، من دون التفكير بالعناصر المكوّنة له ابتداءً بالمكان والزمان.
يتساءلُ يوسف سلامة في هذا السياق عن كيفيّةِ تحوّلِ المكانِ إلى وطن، وكيفيّة تحولِ البشرِ إلى مواطنين، ويقولُ في ذلك:
“إن المكان لا يتحول إلى وطن إلا بفضل الضغوط التي يمارسها البشر على المكان، وتمثل بمجموعها أولى صور غزو الإنسان للطبيعة. إذ يضفون على المكان – من خلال هذا الغزو -الهوية أو الماهية التي تكون في سبيلها إلى التكون. وبذلك يخرج المكان من عزلته وتجرده ولامبالاته، ويتحول بفضل هذه الضغوط مجتمعة إلى وطن لهذه المجموعة البشرية دون غيرها”.
هذا يعني أنّ وجودَ النازحينَ في خيامٍ منصوبة على أرضٍ جرداء قد يُحوّلُ تلكَ الأرض، بفعلِ الممارسةِ البشريّةِ والروحيّة التي يُسبغُها الناسُ عليها من مكانٍ “لا مبالٍ” مجرّدٍ غير معيّنٍ، إلى مكانٍ مُعرّفٍ، يستمدُّ تعريفَهُ من نشاطهم البشريّ، أي من وجودهم الماديّ ونشاطهم الروحيّ فيه. ههنا يتحوّلُ ما كانَ هامشًا لمتنٍ مسلوبٍ إلى متنٍ جديد. ومن يدري، التجاربُ الإنسانيّة، والفلسطينيّة بخاصّة، تؤكدُ إمكانيّةَ وجودِ هامشٍ جديدٍ له، وهكذا يدورُ الفلسطينيونَ في حلقةٍ مفرغةٍ يبحثونَ فيها عن الوطن، المتن، فلا يحصلون إلّا على المنفى، الهامش!
إذن، فإذا كان المكانُ يتصفُ عند فلاسفة وعلماء كثر بأنّهُ مجرّد ذو ثلاثة أبعاد غير مرتبطٍ ببلدٍ محدد أو دولة وهو أقرب لأن يكون نقطةً ذهنيّة مجرّدة، وهو على ذلكَ ليسَ وطنًا، فإنّ الوطنَ ليسَ المكانُ كُلُّهُ بكاملِ تجريدِهِ، إنما قطاعٌ من المكانِ يملأهُ البشرُ فينتزعونهُ من عزلتهِ وتجرّدهِ ولا مبالاته:
“وبينما يكون بوسعنا القول عن المكان المجرد بأنه اللامبالاة المطلقة وعدم الاكتراث التام، فإن تحول جزء من المكان إلى وطن معناه الارتقاء بهذا المكان إلى التعيُّن والاكتراث والمبالاة التامة”.
هذا فيما يخصُّ المكانَ، لكن ماذا عن الزمان؟
يذهبُ الدكتور سلامة في مقالتهِ البديعة إلى أنّ الناسَ لا يكتفونَ بخلعِ التجرّدِ عن المكانِ عبرَ نشاطهم فيه ليصيرَ وطنًا، بل إنّهم يفعلون ذلكَ مع الزمان أيضًا، إذ إنّ هذا الأخير يساهم بتعيينِ المكانِ أو قطّاعٍ منه وإخراجهِ من عزلتهِ ولا مبالاته، لكنّهُ على الرغم من ذلك يبقى مجرّدًا هو الآخر يُمكنُ اعتبارُهُ محضَ مقياسٍ وعدّادٍ للحركة، لولا أنّ الفعلَ الإنسانيّ يمنحُهُ تلك الخصوصيّة التي تُخرجُهُ من كونِهِ “زمانًا” ليصيرَ “تاريخً” شعبٍ محدّد.
إنّ اقتلاعَ شعبٍ ما من أرضِهِ، كما يحدثُ مع الفلسطينيين هذه الأيام، وحدثَ ويحدثُ مع غيرهم أيضًا، إنما هو اقتلاعٌ من المكانِ والزمانِ معًا، وإعادةٌ لهذينِ الأخيرين إلى الحالة المجرّدة، وإجبار هذا الشعب على الحياةِ في الهامش عبر إخراجهِ من المتن.
المشكلةُ في ذلك الاقتلاع، أو من بين مشكلاته، أنّ الحياةَ الجديدةَ للنازحين واللاجئينَ على السواء عصيّة على إمكانياتهم على خلقِ تغيير فيها. فالذينَ انتزعتهم آلة الحرب الإسرائيليّة من شمالي قطاعِ غزّة إلى جنوبه عاشوا في خيام منصوبة في صحراء، ما لبثوا أن اضطرّوا لحملها والانتقالِ معها إلى أماكنَ أخرى، أي أنّ الفعلَ البشريّ الوحيدَ الذي كانوا مهجوسينَ فيه وقادرينَ على القيام بهِ تحتَ أيّ ظرف هو النجاة فحسب، والهربُ بغرضِ النجاةِ لا يُمكنُ أن يُشكّلَ هويّةَ شعبٍ، ويجبُ ألا يكون كذلك، ولا يُمكنُ تخيّل الهرب بغرض النجاة فعلًا بشريًا مكافئًا لمُشكّلاتِ الهويّة مثل الثقافة بمعناها الواسع الذي يشملُ المنظومةَ القيميّةَ وطُرُزَ الحياةِ من مأكلٍ وملبسٍ وتراثٍ وأنماط عيش. ليست النجاةُ مُعادلًا لكلّ هذا في تشكيلِ هويّةِ شعب.
يقولُ يوسف سلامة:
“لنمط الوجود في المخيم تكلفة إنسانية هائلة، تتمثل في أن قاطن المخيم يحيا في مكان مستعار ليس له عليه سلطان، فهو لا يستطيع أن يغير فيه شيئاً، ليجعله أكثر جمالا، أو ليزيل بعض ما فيه من قبح. إنه لا يستطيع أن يزرع، ولا أن يبني بيتًا. فبيت اللاجئ خيمة، وقبره حفرة مهملة تحمي الأنوف من رائحة نتنة لجثة مجهولة الهوية. ولم يكن الأمر كذلك إلا لأن نمط الوجود في المخيم معناه أن المكان غير مبال بشاغليه، لأنهم محض كائنات لا يشعر المكان بوجودها”.
ذلك الهروبُ المتكرّرُ نحو اللا وطن، يجعلُ اللاجئين يعتاشونَ على الذاكرة التي تأخذُهم إلى حيثُ كانوا قادرينَ على الفعلِ الإنسانيّ المُشكّلِ لهويّتهم الخاصّة المتفرّدة التي تُميّزهم عن سواهم، الفعل الذي انتزعَ لهم وطنًا محددًا من المكانِ المجرد وتاريخًا محددًا من الزمان المجرّد.
المفارقةُ التي تشبهُ فكاهةً سوداء، هي أنّ يوسف سلامة نفسه أُجبرَ على الحياةِ في هوامشَ كثيرة، حاولَ فيها جميعًا خلقَ ذلك الفعلِ الإنسانيّ المؤثر الذي يجعلُ المكانَ ينتسبُ إلى البشرِ وليس العكس، ابتداءً من نزوحه الأول مع عائلتهِ من قريتهِ أمّ الزينات في قضاء حيفا التي ولد فيها عام ١٩٤٦، مرورًا بمخيّمِ اليرموك جنوبيّ العاصمة دمشق حيث عاشَ وانتمى، وانتهاءً بالمنفى الشماليّ البارد في مدينة مالمو جنوب السويد.
هوامشُ عدّة لذلك المتنِ المفقودِ الذي يُجبَرُ اليومَ أكثر من نصفِ الفلسطينيين على الحياةِ خارجه تحتَ أبصارِ العالم بأسره.