السينمائي الإيطالي باولو سورنتينو روائي أيضاً، نرى ذلك، ونسمعه تحديداً، في أفلامه، بالأخص منها آخرها، وله اسم بطلته، ولها اسم حورية بحر في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، في الأخيرة تدخل الحورية علاقة حب فتعاقبها الآلهة بتحويلها إلى مدينة نابولي الإيطالية. هنا، نجد في الفيلم استعادة معاصرة ورمزية لا للأسطورة، بل لامرأة فائقة الجمال يمكن أن تكونها حوريةُ بحر بشرية، ولمدينة تماهت المرأة معها، هي نابولي.
الفيلم (Parthenope) قصيدة حب مزدوجة، تجاه بارثينوبي الشخصية، وبارثينوبي المدينة. في الفيلم يعود سورنتيتو إلى مدينته، ناسها وأمكنتها، وناديها لكرة القدم وإن سريعاً، أنهى به الفيلم محيلاً إياه إلى سيرة ذاتية لمدينة كانت في حياة سابقة حورية بحر، وسيرة جمالية ذاتية له، بتعلقه بمدينته، نسائها وبحرها وناديها، كما أرانا الأخير في “يد الله” (٢٠٢١).
تراثٌ إيطالي سينمائي حاضر هنا، عشق فديريكو فليني لروما رأيناه هنا في نابولي، وعشقه للنساء رأيناه كذلك هنا، مع امرأة بجمال خرافيّ، تظهر أوّل مرة خارجة من البحر، إلهةٌ فعلية، لا استيهاماً كما تخرج كلوديا كاردينالي في “8½” لفليني، كذلك تخرج الأخيرة كملاك من لا مكان. ورأينا التراث الجمالي للسينما الإيطالية في الصور الثابتة والبحرية، مستعيراً إياها من مايكلأنجلو أنطونيوني، أحد أجمل من نقل صوراً للبحر وقصصاً للنساء، وسورنتينو يستعيد ذاته هنا كذلك، ليكون الفيلم إحالة إلى الجماليات ذاتها، البصرية والسردية، بوصفه روائياً، كما كانت في “الجمال العظيم” (٢٠١٣)، و”شباب” (٢٠١٥).
هذه سينما إيطالية بأجمل صورها المعاصرة، تتقن سلاسة الحكاية ورهافة المحكيّ، بترميز يذهب إلى أساطير، مختلطة بعفوية الشخصية الإيطالية وصور خلابة لنابولي، للبحر، للبيوت، للحورية على شكل بشر، لقصص حب كان لعقاب الآلهة في الميثولوجيا ظلّه عليها، امرأة شديدة الجمال والذكاء أمضت حياتها فاقدة حباً جربته مرّة.
الفيلم هو بارثينوبي الحورية/المرأة، من ولادتها في البحر إلى عودتها، متقاعدة من عملها الجامعي، إلى نابولي، مروراً بعلاقات ومآسٍ عاطفية، ونجاح أكاديمي. يحوم الفيلم حولها، الأماكن تحوم حولها، وكذلك باقي الشخصيات. كأننا هنا أمام سفر مقدَّس هي رسولته، شخصية مكتملة لا عيب فيها ولا شرّ في محيطها.
الفيلم صفاء تام نراه في وجه بارثينوبي. في الفيلم حب ومحبة، ورغبة وعشق وشغف، الفيلم المكتمل بجمالياته البصرية، كانت صوره نقلاً أميناً لقصائد منثورة على طوله، لتراجيديا متمثلة بحياة بامرأة تسر الناظرين، فما انتبه أحدنا إلى أن تراجيديا في حياة هذه الحورية تدور أمامنا.