“أنا لست مهتماً بفوكو أو داريدا أو التفكيكية .. لطالما أردت استبدال التفكيك بإعادة التركيب.”
تشارلز عيساوي
استكمالاً للنقاش الطويل الذي أحاط بالتحولات والانعطافات الفكرية التي شهدها الغرب في أواخر ستينيات القرن الماضي، خصوصاً في فرنسا، وطرح “الما بعد” كلازمة ثابتة تسبق البنيوية والحداثة وما تمخض عن ذلك من رؤى وتصورات أطلقها مفكرو ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، فإنه كثيراً ما يثار الجدل في الآونة الأخيرة حول مفاهيم البنى والمنظومات المعرفية الاستعمارية، والكيفية التي قد يصار من خلالها إلى الخلاص من هذه البنى، كذلك طرح سؤال مركزي يتمحور حول هل يكمن السبيل إلى هذا الخلاص في فهم البنى الكلية للسرديات والمعارف التاريخية الكبرى، أم في تفكيك وفهم عناصرها وجزئياتها كل على حدة؟ والحقيقة أنني أرى أن البنية وتفكيكها يكمل أحدهما الآخر، وأن الفهم الشمولي للبنى الكلية لا يتأتى إلا بفهم ماهية عناصرها.
ومن ناحية هندسية فإن الواقف قبالة المنشأة لا يستطيع إدراك حقيقة البناء ولا كيفية سلوك ركائزه بغير تحليل أركانه وعناصره الإنشائية وفهم ضوابط سلوكها ونظم عملها -مستقلة وضمن المجموع، ذلك أن سلوك العناصر وخصائصها والعلاقات المتبادلة بينها ضمن البنية الكلية للبناء لا يمكن فهمها دون إدراك ماهية العنصر الأساسية، كما لا يمكن للعناصر المستقلة أن تنتج بنية كلية دون تكامل علاقاتها في قالب واحد تنصهر فيه وتخرج ضمن إطار متناسق ومنسجم. إذن فعملية فهم حقيقة المنشأة تستلزم من ناحية عملية تحليل كل واحد من عناصرها وفهم سلوكه بشكل مستقل، ثم إعادة تركيب هذه العناصر ضمن المجموع العام للحصول على رؤية شمولية وفهم دقيق للبنية الكلية، الأمر الذي لا أجده ممكنا إلا بتحليل وهدم المنشأة، ثم العمل على إعادة تركيبها، آخذين بعين الاعتبار أن عملية الهدم، إذا ما جسدت تحليلاً خلاقاً للهياكل والبنى، فإنها قد تمكننا من إعادة تركيب العناصر المفككة ضمن أطر وبنى جديدة مختلفة وأكثر واقعية.
وإذا ما كان الحديث يدور عن بنى معرفية وحاضنة تاريخية أصلانية للفكر المحلي، فلا بد هنا من الوقوف عند عدة أمور؛ وأرى أنه لا بد أولا من البحث في تركيبة هذه البنى بشقيها المعرفي والتاريخي، والتي لطالما كانت صنيعة الغرب الأقوى وتجسيداً لرؤيته المتخيلة للشرق الأضعف. بناءً على ذلك، فإنه وعند تناول أي من هذه البنى ومحاولة تفكيكها لا بد من الانتباه إلى أنها لم تبنى يوماً بأيدٍ محلية. ولعل أفضل من يستطيع تفكيك آلة ما هو ذلك الذي تلقى التدريب في الشركة المصنعة، وهنا يتبادر إلى الذهن المثقف الهجين، الذي غادر بلاده وذهب إلى الغرب لتلقي علومه ثم عاد في رحلة استشراق نحو الذات ونحو الآخر المُتَخَيَّل. هذا المثقف الذي وإن كان يستخدم أدوات الآخر إلا أنه يسخرها في مسعى لكشف حقيقة الشرق وإظهار زيف السردية الغربية. ولعل من الواجب على هكذا مثقفين أن يكتبوا بلغتهم الأم تارة كي يزيلوا التعمية التي مارسها الاستعمار الغربي وزرعها في ذهن الشرقيين أنفسهم حول الماهية الشرقية للمكان وللعقل، وبلغة أجنبية تارة أخرى، كي يمحو الصورة النمطية المتخلفة التي أثارتها السياسات الغربية حول الشرق في الذهنية الغربية.
وفي سياق معالجة بعض جوانب النقد الموجه إلى طبيعة المخرجات والنواتج التي قد تتأتى من استخدام المعارف أو الأدوات الغربية في تفكيك سرديات الغرب ومقاربة رؤيته وتصوراته للشرق، أجد أنه عند استخدام أدوات أجنبية، لغرض محلي، فإنه لا يعيب الأداة مكان صناعتها أو صانعها بشكل مطلق ومجرد، بل قد يكون العيب في الآلية أو الطريقة التي يتم بها توظيف الأداة. فالسكين سكين أينما ذهبت وكائناً من كان صانعها، لكنها قد تستخدم في إعداد الطعام أو كأداة للقتل! كذلك فإن العامل الماهر قد يكون أقدر على تفكيك بنية أي آلة باستخدام الأدوات القياسية التي يزودها المنتج، ولكن على هذا العامل أن يكون ملماً بطبيعة الآلة وبكيفية توظيفها لخدمته وكيفية تفكيكها باستخدام الأدوات التي رافقتها، أما إن قرر تفكيكها باستخدام أدوات غير ملائمة فقد يحيلها دماراً وخراباً.
وعلى اعتبار أن البنى لا يمكن أن تفكك سوى بفهم خصائص عناصرها وبيان علاقة هذه العناصر ببعضها في السياق الكلي للبنية، فإن التفكيك أفضل ما يكون بأدوات الصانع ووفقاً للكتالوج الخاص به، لذا فإن ما أراه هو وجوب أن يكون هناك تبادل أممي لكتالوجات البنى المعرفية المختلفة بشكل يتيح للشرق أن يفهم ذاته على حقيقتها وأن يفهمها الغرب وفقاً لهذه الحقيقة، فوراء كل ذات يقبع آخر، ولكل آخر ذاته التي يراها ويستطيع إظهارها للآخر المغاير بشكل أفضل، وبذلك يكون الناتج حاضنة فكرية “إنسانية أصلانية كونية” وليست محلية مجردة أو خاضعةً لمنظومة سياسية ممأسسة وممنهجة لصالح طرف دون غيره، فلا ترتكز على تفوق موضع دون آخر (Positional Superiority) بل تقوم على فكرة أن لكل “آخر” ذاته وأناه التي يجب الاعتراف بها دون وسمها بالتخلف وترسيمها ضمن حدود هذه الحاضنة وفقاً لماهيتها “الأصلانية” بغير تلويث.
وأجد من الضروري هنا القيام بمَشكَلة (Problematize) مفهوم الأصلانية ومحاولة الوقوف على حقيقته وبيان من هو المثقف الأصلاني ابتداءً، وما علاقته بالمفكر الهجين، وهل يعتبر المفكر الهجين أصلانياً؟ وإذا لم يكن أصلانياً فمن سيكون المسؤول عن إنتاج وصياغة تلك الحاضنة الفكرية الأصلانية؟ كذلك لا بد من طرح تساؤل حول إذا ما كان يشترط في رعاة هذا المشروع من المثقفين -كي يكونوا أصلانيين- أن يكونوا منحدرين من سلالة معينة ولم يغادروا موقعهم الشرقي؟ وكيف لهم أن يقوموا بهذه الرحلة الاستشراقية المضادة بلا أدوات مناسبة؟
هناك مقولة لأودري لورد مفادها أن “أدوات السيد لا تفكك أبداً بيت السيد”؛ فلماذا لا نقول إنها لا تفككه لأنه لا يريد لها ذلك، وأنها قابلة لتفكيك هذا البيت بيد شخص يعي طريقة تركيبه ويفهم تفاصيل بنيته الكلية والارتباطات العلائقية بين عناصرها، وأنه إذا ما قام هذا الشخص بتفكيكه فعلاً فقد يغدو قادراً على إعادة تركيب منظومة أكثر تناسقاً من وجهة نظره. ومن هنا فإن مهمة الحاضنة الفكرية الكونية تكمن في تحليل وتفكيك البنى المعرفية والسرديات التاريخية الكبرى، وإعادة تركيبها وفقاً لرؤية “أهل” البنية وركائزها لذواتهم لا كما يراهم غيرهم، وأن يكون مسعى كل بحث قادم ليس “استكشاف” الآخر بقدر ما هو الرغبة في التعرف إلى حضارة ذاته وأناه.
يقول شاهد أمين: “الفلاحون لا يكتبون، هناك من يكتب عنهم”، فإذا لم يكن من الكتابة بدٌ فليكن التاريخ كما يجب أن يكون، ولنتوقف عن إدراك أنفسنا من خلال رؤية الغرب، ولنعمل على تفكيك منظومة علاقات القوة المتمثلة في الواقع الجيوسياسي البطريركي الكولونيالي وتشريح وتسطيح ومساءلة المجال المعرفي الذي اسمه “التاريخ” بحيث تشكل الكتابة مسرحاً لأحداث التاريخ الكلي لمجمل التواريخ الجزئية لمختلف الشعوب دون انتقائية أو تمويه أو تعمية أو تخيل وبغير استعادة للأحداث التاريخية لخدمة أغراض وأهداف محددة، ولنتبع الحلم بما أوتينا من ليل في شعر محمود درويش: “فلا تنظر لنفسك فيما يكتب عنك، ولا تبحث عن الكنعاني فيك؛ لتثبت انك موجود، بل اقبض على واقعك هذا، واسمك هذا، وتعلم كيف تكتب برهانك… كن سيد أوصافك منذ الآن.”