نشأت ظاهرة الاختفاء مع تبلور جهاز الدولة منذ ثلاثة آلاف عام، حين اضطر بعض القادة الذين اقترحوا بناء سور الصين العظيم إلى التخفي من بطش الإمبراطور عشية إعدامهم، إذ استخدم هذا النمط لحماية النفس في أثناء الغزوات وحكم الأنظمة الديكتاتورية، وقد تطرق الباحث حسن نعمان الفطافطة في كتابه “تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي 1967 – 2022” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2023) لتجربة الاختفاء في الحالة الفلسطينية.
يستهل الباحث كتابه بتعريف الاختفاء، فهو الابتعاد عن عيون العدو وعدم تسليم النفس له، من أجل حماية التنظيم، وحماية الكادر، للاستمرار في مهمته النضالية، وتقبل فكرة الانقطاع الاجتماعي إلى درجة الصفر، والاعتماد أساسًا على الحماية والحاضنة التنظيمية، فالمتخفي يعيش حياته الخاصة بين أربعة جدران في بيت سرّي، ويتواصل مع أصحاب الشأن فقط، وضمن ترتيبات معدّة مسبقًا.
يرى الكاتب أنّ ظاهرة الاختفاء ساهمت في إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة في محطات كثيرة من تاريخ النضال الفلسطيني، بإيجاد قيادة محلية مستقرة، قادرة على إدارة العمل النضالي، وفي رتق الاختلالات التي تسببها الضربات الأمنية والاعتقالات المتلاحقة من الاحتلال الإسرائيلي، وثمة تجارب مبكرة سجّلت حضورًا بارزًا في تكريس الظاهرة وتطويرها، منهم باجس أبو عطوان وأبو منصور وجيفارا غزة وزياد الحسيني.
ويذهب إلى إنّ ظاهرة التخفي ليست بدعة فلسطينية خالصة، وإنما ظاهرة أملتها أوضاع الاحتلال الإسرائيلي وطبيعته، وملاحقته المستمرة لأي فعل مقاوم في محاولة منه لحجز طاقة المقاومين أو اغتيالهم، وشكّلت أيضًا ظاهرة تاريخية مارستها مختلف الشعوب في إطار صراعها ضد الغزاة والمحتلين وأنظمة الطغيان.
يتطرق الكاتب إلى صعوبات ممارسة ظاهرة التخفي في الأراضي الفلسطينية، بسبب إمكانيات الاحتلال التكنولوجية الهائلة والمتطورة في مطاردة المطلوبين، إضافة إلى إنشائهم شبكة واسعة من المتخابرين معه، وهنا حاول العقل الفلسطيني إيجاد حلول إبداعية للتغلب على ضيق المكان وغياب التضاريس الجبلية الوعرة والغابات التي يمكن للمطاردين الاختفاء فيها، وذلك من خلال الكمون في أماكن سرية مثل الكهوف والملاجئ وفي بيوت سرية ومخابئ داخل بيوت سكنية، معروفة فقط لذوي الشأن ممن لهم صلة بالمتخفين، ولا يخرجون منها إلا للضرورة مستخدمين وسائل التمويه والتخفي، وقد تبنّوا الوسائل التقليدية في التواصل بينهم، للحدّ من التفوق التكنولوجي الإسرائيلي.
ويشير إلى أنّ ظاهرة الاختفاء في التجربة الفلسطينية ذات طابع مديني، رغم لجوئها إلى الجبال والكهوف والأرياف، تبنتها مختلف التنظيمات الفلسطينية منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة سنة 1965، فقد نجحت في اعتمادها على أوكار داخل بيوت العائلات الحاضنة للمقاومة، أو في البيارات. وقد نجحت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اعتماد نمط تخفي مدني يتمثل باستئجار بيوت سرية لقياداتها وكوادرها، حتى تضمن استقرار القيادة والمحافظة على البنية التنظيمية.
أما فيما يتعلق بتجربة الاختفاء التي مارستها حركة “حماس”، فقد نجح عشرات المتخفين من الصمود في وجه الاحتلال، رغم إمكاناته اللوجستية الكبيرة، بسبب الاحتضان الشعبي الذي وفرته البيئة الدينية الداعمة لحماس، ولجهازها العسكري، فقد تمكنت من توفير مختلف المستلزمات الضرورية للمتخفي، من إيواء وتموين وتنقلات ومراسلات ومستلزمات، ويرتبط هذا النجاح أيضًا باستخدامهم وسائل التنكر والتمويه.
في المقابل، بعض المنظمات مثل “فتح” والجهاد الإسلامي، لم تتجه إلى أسلوب الاختفاء، رغم توفرها على الإمكانات البشرية والمادية، بسبب بنيتها التنظيمية التي اعتمدت على الهيكل التنظيمي الأفقي، إذ كانت الخلايا والمجموعات العسكرية على تواصل مباشر مع قيادات الخارج التي كان يقتصر دورها على الإشراف والتوجيه العام.
تركز عمل المختفين في معظم الأحيان على المتابعة المكتبية للعمل الحزبي، واعتماد المراسلات المكتوبة واللقاءات المتباعدة كأساس لعملهم اليومي، يستثنى من ذلك مَن قاموا بمتابعة ميدانية للبنية العسكرية، الذين كانوا يتنقلون بحيطة وحذر مستخدمين وسائل التمويه.
في المجمل، لم توفر التنظيمات الفلسطينية الإمكانات المالية واللوجستية التي يستلزمها الاختفاء، وقد حاول بعض المتخفين تعويض هذا النقص عن طريق الاعتماد على الحاضنة الشعبية في توفير جزء أساسي من مستلزماتهم، غير أن دور هذه الحاضنة ظل محدودًا، بسبب تراجع دعمها للمطاردين، وخصوصًا فيما يتعلق بالإيواء، لما يترتب عليه من قمع قوات الاحتلال واتخاذ الإجراءات العقابية ضد عائلاتهم وقراهم وأحيائهم، ثم عزوف قطاع أوسع من الجماهير عن تقديم الدعم والمساعدة، بسبب فقدان ثقتهم في جدوى المقاومة والتراجع العام في الحالة الوطنية.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في انحسار ظاهرة الاختفاء؛ الصعوبات النفسية والاجتماعية والجسدية التي يمر بها المختفي، والمرتبطة بأوضاع التخفي وشروطه التي تفرض عليهم الانعزال عن الحياة الاجتماعية التي اعتادوا عليها، والانتقال من مكان إلى آخر، بينما يلازمهم التوتر والقلق من انكشاف أمرهم، والشوق لرؤية أهلهم وأحبّائهم.