مازلت أتذكرُ جيداً مع بدايات الحرب موجة القلق والتأزم التي شعرتُ بها حين رأيت للمرّة الأولى أول تَجمّع خيام تم إنشاؤه لاستقبال النازحين القادمين من شمال وادي غزة تجاه جنوبها، كان هذا التَجمّع عبارة عن مئات الخيام البيضاء المُتراصة إلى جانبِ بعضها البعض، والتي نُصِبت في أرضٍ خاليةٍ بالقرب من مبنى “الصناعة” وهو مقرّ للتعليم المهني يتبع وكالة الغوث.
كنّا لا نزال في بداية الحرب، في مُنتصف أكتوبر من العام الماضي، وكانت موجات النزوح الأولى تتوالى تباعاً، كانت آلاف العائلات تتوافد إلى مدينة خانيونس، وكنّا نشاهدُ سيارات النقل وهي تنقل العائلات مع أمتعتها: حقائب للملابس، بعض الأدوات المنزليّة القليلة، كان الناس مع بداية الحرب يعتقدون أنهم لن يمكثوا في حالة النزوح سوى أسابيع معدودة، أو ربمّا شهرين على أبعد تقدير، ولذا لم يكونوا مهتمين بنقل الكثير من أغراضهم، كانوا يكتفون بحقائب الملابس والأوراق الثبوتيّة والنقود والمصوغات وبعض الأغطية والفرشات.
ولقد اُستقبِلَ جزءٌ كبير من العائلات مع بدايات النزوح في بيوتِ أقارب وأصدقاء أو معارف، ثم استقبلت مدارس وكالة الغوث والتي تتحوّل عادةً إلى مراكز ايواء أعدادً إضافية من العائلات النازحة، كلُّ هذا كان لا يزال مقبولاً ومستوعباً بالنسبة لنا، بالنظر إلى سياق الحروب وموجات التصعيد السابقة التي عشناها في غزة خلال الـسبعة عشر عاماً الماضية، إلا أن كثافة العائلات التي نزحت من مناطق واسعة من جغرافيا شمال قطاع غزة، والتي لم يكن من السهل استيعابها إلا باللجوء إلى فكرة تجمّع الخيام، كان استثناءً ومؤشراً مرعباً ومخيفاً.
وأذكرُ أنني حينَ رأيت على مواقع التواصل الاجتماعي في حينها هذا التجمّع أُصبت بانقباضٍ شديد، وشعور هو مزيج من مشاعر الأسى والخوف معاً، مشاعر أعتقد أنها مُبررة بالنظر إلى ما حركتهُ هذه المشاهد من تجارب وانعكاسات سابقة، أولا: لانعكاسها العام في وعينا الجمعي كفلسطينين، فالخيمة وتجمّع الخيام وصولاً إلى مفردة المخيم، تُحيلنا سريعاً إلى نكبة العام 48 وكل ما يتصل بها من سياقات الفقد والخسارة، فقد المكان والانقطاع عن سيرورةِ الحياة والانتقال إلى حياةِ اللجوء وما يرتبط بها من المعاناة والألم والفقد والتردي، وهذا كلَّهُ هو تحريك لسردية معجونة بالألم والقسوة. ثانياً: انعكاسها الخاص عليه بصورةٍ شخصيّةٍ، واسترجاع لذاكرة مُبكرة مع الخيمة، حينَ هُدمَ بيت العائلة للمرّة الثانية في اجتياح إسرائيلي لمخيم خانيونس مع ذروة نشاط انتفاضة الأقصى.
حدثَ ذلك في مارس من العام 2003 وفقدنا ليلتها منزل العائلة بعدَ أن نجونا من موتٍ محقق، كُنت لا أزال حينها طفلاً في الصف السابع الابتدائي، وعشت تفاصيل فقدان البيت وأن تصبح نازحاً بلا مؤى بكلِّ بشاعة تلك التجربة وقسوتها، إلا أن مشهداً كان لا يزال عالقاً في ذاكرتي كلّما استرجعت تلك التجربة، هو مشهد الخيمة التي أحضرها الصليب الأحمر لنا كمأوىٍ مؤقت.
كان مشهداً مُرّاً وبشعاً وما يزال إلى اليوم محفوراً بصورةٍ مؤلمةٍ في وعيي وذاكرتي، ولذا استجلب ربمّا المشهد المبكر لتجمّع الخيام مع بدايات الحرب في اكتوبر الماضي كلَّ تلك المشاعر الممزوجة بالألم، وكل تلك التجارب بتفاصيلها المرهقة، ووجدتي متشنجاً وأعتقد غيري الكثيرين محاولين تجاوز فكرة الخيمة وتجمّع الخيام، بمعنى آخر تجاوز سياق فقدان البيت والمكان المتغلغلة في أعماق وعينا كفلسطينين منذ العام 1948 وصولاً إلى 2023.
ذلك المشهد الذي لم يكن سوى باكورة مشاهد لا نهاية لها لتجمعات هائلة من خيام النازحين التي ستملأ كل الأماكن والزوايا والمساحات في كل مكان، والتي لن نستطيع تجاوزها أو الهروب منها، كما لو أنها قدراً محتوماً لا فرار منه.
داخل الخيمة، خارج العالم
بقيت مشاهد تجمّع الخيام التي شاهدتُها مشاهد مُشوهة ومؤلمة أحاول تجاهلها والهروب منها، إلى أن ساقتني قدماي في رحلة النزوح الطويلة من مكان إلى آخر هروباً من نيران الحرب التي بدت تتسع وتتوهج بصورة مرعبة، كنتُ قد نَزحت للمرّة الثانية في ديسمبر من العام الماضي إلى بيتِ أقاربنا في منطقة حي الأمل بخانيونس، وكان نُزوحاً داخل المدينة نفسها ولذا كان من السهل اللجوء إلى بيتٍ من بيوتِ الأعمّام والأقارب المنتشرة في جغرافيا المدينة والآمنة ولو بصورةٍ نسبية، ولذا لم يكن نزوحاً يستعدي التفكير بالخيمة.
ولقد ساقتني قدماي في تلك الفترة للمرّة الأولي إلى تجمّع الخيام، هو ذاته الذي كنتُ قد شاهدتُ صوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان المسير بين الخيام وعلى أطراف المخيم، هو مسير في لوحة يسيل منها التعب، شيء يشبه ما يمكن الشعور به حين تشاهد لوحة “العطش” لاسماعيل شموط، ثمة موت محبوس وبطيء يمكث في قيعان الحالة برمتها، الصيغة نفسها مركبة تركيباً منزوعاً من الآدمية ويهدر بصورةٍ بشعة وسريعة كل ما هو إنساني وحي في المكان.
كانت الخيام قد نُصبت إلى جوار بعضها البعض في مساحة ضيقة تنعدم فيها الخصوصية وتُحوّل كل من يسكنها إلى حالة آدمية واحدة مُتماهية وممزوجة ببعضها البعض، فيما يُلغي استقلالية الفرد من حيث كونه ذاتاً انسانيةً قادرةً على أن تنفصل فسيلوجياً أو نفسياً عن البقية، تقارب مخنوق يُجبر الجميع على أن تتداخل خصوصياتهم بطريقةٍ تنعدم فيها فرص الحفاظ على مساحة خاصة لقضاء الحاجة أو لطبخ الوجبات اليومية أو تبادل الهموم الأسرية أو حتى الحديث الحر والخاص بين أفراد الأسرة الواحدة.
فيما الشمس تُحوّل الخيمة نهاراً إلى ما يشبه الدافئة الزراعية، حيث ترتفع بصورةٍ مرعبة درجات الحرارة ما يجعل البقاء داخل الخيمة بقاء داخل جحيم حقيقي، أما إذا ما هبت رياح قوية فمن الممكن أن تَقلع الخيمة من أرضها بكل ما فيها وعليها، وإذا ما أمطرت ينزلق من زواياها ماء المطر كما لو أنه الطوفان وما من سفينة نوح، تُنقذ المعذبين من الماء الهابط من السماء والخارج من الأرض.
كان المشهد برمته يشبه ديستوبيا مرعبة، مكاناً خاصاً من الجحيم، وكنتُ فيما أتجوّل بين الخيام محاولاً تجنب أن تنزلق قدماي في أخاديد مياه الصرف الصحي التي شقت لنفسها مجالات ضيقة في الأرض، أفكر في أن كل من هم داخل تجمع الخيام خارج العالم، أنه منفى، ليس فقد لنفي الناس عن قضاياها واسئلتها، إنما لنفيهم عن آدميتهم وكرامتهم ولياقاتهم الإنسانية، وكنتُ فيما أنا غارق في بشاعة المشهد أفكر أن واحدة من أهم أشكال النجاة في هذه الحرب محاولة النجاة من الخيمة.
“خيمة عن خيمة بتفرق”
أطبقت إسرائيل اجتياحاً واسعاً وشاملاً على مدنية خانيونس في يناير من العام الجاري، وكنّا في العائلة كمن يحاول أن يتشبث في آخر قطعة حطام في سفينة تغرق، انتظرنا طويلاً قبل أن نتخذ قرار الخروج من خانيونس، انتظرنا إلى أن اقتربت الدبابات إلى حد الموت، ولم يعد أمامنا خيارات إلا الخروج من المدينة، والخروج من المدينة هو الدخول في الخيمة.
كنّا نحاول أن نُرجئ قرار الخيمة أطول فترة ممكنة، لا نريدها، لا نريد شكلها ولا مهانتها ولا نهاراتها المشتعلة ولا لياليها الباردة، إلا أنه لا مفر منها في نهاية الأمر، فالجميع سيكون مضطراً إلى الدخول في الخيمة مهما حاول الهروب منها خاصة في ظل اتساع رقعة العملية العسكرية والتي وصلت مديات عميقة في كل زوايا خانيونس.
وبهذا بدأت رحلة البحث عن الخيمة، كنّا مجموعة من العائلات الكثيرة في عائلتنا الممتدة، ولم يكن لدينا خطط حول كيفية الحصول عليها، ولم نكن نعرف أن الخيمة ليست خيمة فقط وانتهي الأمر، أنها مجالاً واسعاً من الاختلافات والتباينات، والاختلاف في الخيمة يؤشر إلى الاختلاف الطبقي فيمن يسكنها، فهي ليست خيام واحدة موحدة كالتي حوَت داخلها الوزير والغفير إبّان نكبة العام 1948، أنها خيام تختلف في شكلها ومساحتها وارتفاعها وسعتها وقدرتها على مقاومة تقلبات الجو، فالخيم الاماراتية والتي من المفترض أنها توزع مجاناً، تُعد أكثر تلك الخيام جودةً فهي أكثرها ارتفاعاً ولديها قماش قادر على أن يُقلل إلى حد بعيد من تسرب الأمطار إليها وتُباع بسعر يقترب من الألف دولار، تليها الخيم القطرية والتركية ثم الكوتية ثم الجزائرية والمصرية في الأقل جودة.
وليس من السهل الحصول على خيمة من تلك الخيم بصورة مجانية، ولذا تمكنت العائلات التي لديها القدرة المادية على شراء الخيمة والتي لا يقل سعر أردئها عن أربعمئة دولار من شراء خيمة، فيما صنعت العائلات الفقيرة لأنفسها خيماً من أكياس النايلون وعصي المكانس والأخشاب، خيم في غاية السوء ولا يمكن لها أن تقي شر الشمس أو المطر أنها شر بحد ذاتها.
وبهذا تحوّلت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية على امتداد الساحل الغزي إلى تجمعات متصلة ومتتالية من الخيام المختلفة، خيام جيدة مزودة بلوحات طاقة شمسية للتزود بالكهرباء لنازحين لديهم إمكانيات مادية أعلى وأخرى بالية ممزقة تقلعها من جذورها أي نفخة هواء لنازحين فقراء، والصيغة كلها حمقاء ومقرفة، كوميدا سواء مرعبة في مشهد يغرق كله بالبؤس.
وكالعائلة وجدنا لأنفسنا مكاناً وسط تركيبة الخيام هذه، مشهداً متوسطاً في خياماً معقولة تُعاني كغيرها وتنام في مشهد الضياع هذا تحت أصوات الانفجارات وطائرات الاستطلاع، بأيادٍ متمسكة بعمود الخيمة تحاول أن تمنع رياح يناير الباردة من أن تقتلعها من أرضها إلى سماء تضئ فيها الانفجارات.