كتبها برانكو ماركِتيك في جاكوبان في ٦/١/٢٠٢٤.
عندما تتَّهم الأصواتُ المؤيِّدة لإسرائيل خصومَها جزافاً بمعاداة الساميَّة، فإنَّها بهذا تُقزِّمُ تهمةً خطيرةً ومحدَّدةً إلى محض ازدراءٍ سياسيّ. وكلَّما طال أمد هذا السلوك، ازدادت صعوبة تمييز معاداة الساميَّة الحقيقية شديدة الخطورة والتصدِّي لها.
معاداة الساميَّة مشكلةٌ حقيقيَّة بالفعل، وهي تزداد سوءاً بمرور الوقت.
خلال الأشهر الثمانية الفائتة، شهِدت حوادث معاداة الساميَّة ارتفاعاً ملحوظاً بعد مرور ستَّة أعوام فقط على حادثة إطلاق النار المروِّعة في كنيس شجرة الحياة، والتي نفّذها معادٍ للساميَّة وأسفرَت عن مقتل أحد عشر شخصاً. كما تكشف الفضائح التي تورَّط بها مشاهير، مثل كانييه ويست وكيري إيرفينغ، عن مدى ضآلة المسافة بين معاداة الساميَّة غير الرسميَّة والتيَّار السائد.
فضاءات السياسة ومعاداة الساميَّة تتقاطع أيضاً؛ فللمرشَّح الجمهوريِّ الحاليّ لمنصب حاكم ولاية كارولاينا الشماليَّة سجلٌّ حافل بإنكار المحرقة والتعليقات المسيئة لليهود. كما سبق أن انبرَت عصبةٌ من الشخصيَّات البارزة في الحزب الجمهوريّ، بما في ذلك المرشَّح الرئاسيّ السابق فيفيك راماسوامي والمرشَّح الجمهوريّ الحاليّ دونالد ترامب وابنه، للدفاع علانيةً عن أحد مؤيِّدي الرئيس السابق، والذي يمتلك تاريخاً حافلاً بالتصريحات العنصريَّة المقيتة. قبل عامين، تشارك ترامب مأدبة عشاء سادتها أجواء من الودِّ مع معادٍ آخر للساميَّة، ألا وهو نِك فوينتِس؛ المناصر المتطرِّف لتفوّق البيض، والداعي إلى “نصرٍ آريٍ مُطلَق”، ناهيك عن إعجابه بأدولف هتلر إذ يعتبره “شخصاً رائعاً حقّاً”.
ليس فوينتِس سوى واحدٍ من ضمن العديد من معادي الساميَّة الذين يظهرون في برامج تستضيفها شخصيَّاتٌ إعلاميَّة محافظة شهيرة- شخصيَّات تشيدُ بضيوفها أولئك في بعض الأحيان، بل وتوافقهم الرأي. بل إنَّ عدداً منهم قد أدلوا أنفسهم بتصريحاتٍ تكاد أن تكون صورةً من معاداة الساميَّة الصريحة، على غرار إيلون ماسك الذي يُؤيِّد نظريَّة مؤامرة معادية للساميَّة، وتشارلي كيرك الذي اتَّهم “بعضاً من أبرز مُموِّلي القضايا اليساريَّة المناهضة للبيض بأنَّهم أميركيّون يهود”.
معاداة الساميَّة حقيقةٌ واقعة، ومشكلةٌ لا تَني تتفاقم ولا مناص من مكافحتها. لكن ما يُقوِّض المهمَّة الأخيرة بشدَّةٍ هي حقيقة أنَّ الأصوات المؤيِّدة لإسرائيل- سواءٌ أكانت ليبراليَّة أو وسطيَّة أو محافظة- قد عمدت إلى رمي تهمة معاداة الساميَّة جزافاً ضدَّ كلٍّ من يختلف معها بصدد السياسة الأميركيَّة الإسرائيليَّة، ممَّا يُقزِّمُ تهمةً خطيرةً ومحدَّدةً تستلزم اهتمام الرأي العامّ إلى محض ازدراءٍ سياسيّ. وكلَّما طال أمد هذا السلوك، تضاءل احتمال تعاطي الجمهور ككلِّ مع الاتِّهامات المستقبليَّة على محمل الجدِّ أو حشد الغضب اللازم لمواجهتها.
يَنطبق هذا بصفةٍ خاصَّة على الاتِّهام الزائف بمعاداة الساميَّة، الموجَّه لمن يخالفهم الرأي حتَّى لو كانوا من اليهود أنفسهم.
على سبيل المثال، زعم آلان ديرشوفيتز مؤَخَّراً أنَّ “الأقسام الجامعيَّة الأسوأ من حيث معاداة الساميَّة ومعاداة إسرائيل هي تلك الخاصَّة بالدراسات اليهوديَّة”. وفي السياق نفسه، بعد أن عَلِم بقرب إصدار المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة مذكَّرةَ اعتقاله، صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو أنَّ “معاداة الساميَّة الجديدة قد انتقلت من ساحات الجامعات الغربيَّة إلى المحكمة في لاهاي”، وهذا اتِّهامٌ يردِّده أيضاً سياسيّون مثل السيناتور توم كوتون. لكن في المقابل، ماذا عن أعضاء اللجنة التي أوصَت بالإجماع بإصدار مذكَّرات الاعتقال؟ كان أحدهم ناجياً إسرائيليَّاً من المحرقة، ناهيك عن أنَّه قد شغَل في مرحلةٍ سابقةٍ منصب سفير إسرائيل لدى كندا.
بغضِّ النظر عن مدى سخفها، ظلَّت هذه الاتِّهامات سمةً بارزةً وثابتة طوال الحرب على غزَّة. ففي شهر آذار، وعقب استلامه جائزة الأوسكار عن أفضل فيلمٍ أجنبيّ، خاطب المخرج البريطانيّ جوناثان غليزر جمهور الحفل، قائلاً إنَّه وشركاءه “يقفون هنا كرجالٍ يرفضون قرصنة يهوديَّتهم والمحرقة من قِبل احتلالٍ يزجُّ الكثير من الأبرياء في صراعاته”. سرعان ما استنكر أنصار الحرب خطاب غليزر، وللسخرية الفجَّة ضم هؤلاء أشخاصاً غير يهود، مثل ميغان ماكين، معتبرين الخطاب معادياً للساميَّة و”فرية دمٍ مُعاصِرة من شأنها تأجيج كراهية اليهود المتفاقمة أصلاً في جميع أنحاء العالم”.
رأينا أمراً مشابهاً في شهر كانون الثاني المنصرم، عندما أوكلَت جامعة هارفرد إلى ديريك بنسلار، وهو من عمالقة الباحثين في التاريخ اليهوديّ ومدير مركز الدراسات اليهوديَّة في الجامعة، مهمَّة رئاسة فريق العمل المعنيّ بشؤون معاداة الساميَّة. لم يلبث الملياردير الأميركيّ بيل أكمان أن علَّق على هذا التعيين بالقول إنَّ هارفرد “تواصِلُ السير على طريق الظلام”؛ كما عنونت مجَّلة تابلت الخبر بـ “ديريك بنسلار يُساعد على جعل العالم أكثر أماناً لمعاداة الساميَّة”؛ في حين صرَّحت النائبة الجمهوريَّة إليز ستيفانيك، والتي من المحتمل أن تشعل منصب نائبة ترامب في حال فوزه بالرئاسة، “أنَّ ديريك بنسلار معروف بآرائه وتصريحاته المشينة المعادية للساميَّة”.
لكن عن أيِّ آراء أو تصريحات يتحدَّثون؟ في تغريدةٍ له عبر إكس، زعم وزير الخزانة الأميركيَّة السابق، لاري سمرز، أنَّ بنسلار “قلَّل علانيةً من حجم مشكلة معاداة الساميَّة في هارفرد، ورفضَ التعريف الذي تستخدمه الحكومة الأميركيَّة على مدى الأعوام الأخيرة الفائتة لمعاداة الساميَّة باعتباره فضفاضاً جدَّاً، وشدَّد على الحاجة إلى توظيف مفهوم الاستعمار الاستيطانيّ في تحليل إسرائيل، ووصفَ الأخيرة بدولة فصلٍ عنصريّ، وأكثر من ذلك”، محذِّراً من أنَّ هذه الآراء تبدو “شديدة الإشكاليَّةً” بالنسبة إلى شخصٍ يشغل منصب الرئيس المشارك لفريق العمل المعنيّ بمكافحة معاداة الساميَّة. وبعبارةٍ أخرى، لا يتَّفق الجانب المؤيِّد لإسرائيل مع بنسلار؛ وهذا اختلافٌ تَرجحُ كفَّته على يهوديَّة الرجل نفسه والعقود الطوال التي قضاها بحثاً في التاريخ اليهوديّ.
لا يقتصر هذا التوجُّه على الولايات المتَّحدة وحسب؛ ففي حالةٍ أخرى شهِدت اتِّهام شخصٍ غير يهوديٍّ لآخر يهوديّ بمعاداة الساميَّة بسبب خلافٍ سياسيٍّ بشأن إسرائيل، وصف عمدةُ برلين كلمة الصحفيّ الإسرائيليّ يوفال أبراهام بأنَّها “لا تُطاق”، مضيفاً أنَّه “ليس لمعاداة الساميَّة مكانٌ في برلين”. لكن ماذا قال أبراهام؟ من على منصَّة مهرجان برلين السينمائيّ الدوليّ (برليناله)، خاطب أبراهام الجمهور وبجانبه شريكه المخرج الفلسطينيّ، قائلاً: “في غضون يومين، سنعود إلى أرضٍ لسنا متساويين فيها”، فالأوَّل يعيش بموجب قانونٍ مدنيٍّ يتيح له حقوق التصويت والتنقُّل، بينما يعيش الآخر في ظلٍّ حكمٍ عسكريٍّ يحرمه أيًّا من هذه الحرِّيَّات، على الرغم من أنَّ المسافة بين منزليهما لا تتجاوز رحلة ثلاثين دقيقة فقط.
نتيجة لذلك، تلقَّى أبراهام سيلاً من التهديدات بالقتل، كما اضطرَّ أفراد عائلته إلى الفرار من مجموعةٍ يمينيَّةٍ احتشدت أمام منزلهم، ممَّا دفعه لاحقاً إلى نشر تغريدةٍ عبر إكس جاء فيها: “بالنظر إلى أنَّ جدَّتي ولِدت في معسكر اعتقالٍ في ليبيا، وأنَّ معظم أفراد عائلة جدِّي قد لقوا حتفهم على أيدي ألمان إبَّان المحرقة، فإنَّما تغضبني أشدَّ الغضب صفاقةُ السياسيّين الألمان إذ يتجرَّأون في عام 2024 على تحويل هذا المصطلح إلى سلاحٍ يوجِّهونه ضدّي بطريقةٍ تُعرِّض أفراد عائلتي للخطر”.
ليس أبراهام سوى واحدٍ من ضمن قائمةٍ ألمانيَّةٍ مشينةٍ ومتنامية في آن. وبحسب الناشطة والباحثة في مجال حقوق الإنسان، إيميلي ديتشي-بيكر، فإنَّ ثلث الذين تعرَّضوا “للإلغاء” في البلاد على خلفيَّة مزاعم بمعادة الساميَّة كانوا يهوداً أنفسهم، مع العلم أنَّ تعداد اليهود في ألمانيا لا يربو عن 1% من إجماليّ عدد السكَّان. تضمُّ تلك القائمة أفراداً على غرار أودي راز، وهو باحث إسرائيليّ عانى من الاعتقال والطرد والوصم بمعاداة الساميَّة لتنظيمه احتجاجاتٍ ضدَّ الحرب على غزَّة؛ وإيريس هيفيتس، التي تعرَّضت للاعتقال واتُّهِمت بـ “رفع شعاراتٍ بغيضةٍ معادية للساميَّة”، وذلك بعد أن وقفَت بمفردها في برلين ورفعت لافتةً جاء فيها: “كيهوديَّةٍ وإسرائيليَّة، أقول: أوقفوا الإبادة الجماعيَّة في غزَّة”.
على الرغم من سخفها ولامنطقيَّتها، إلَّا أنَّه ليس مستغرباً أن يقع اليهود في شرَك هذه الاتِّهامات. منذ البداية، يقود الأميركيّون اليهود المظاهرات ضدَّ الحرب على غزَّة، وكانوا في أحيانٍ كثيرةٍ أشدَّ منتقدي إسرائيل، بينما تدأب في الوقت نفسه الأصوات المؤيِّدة لإسرائيل على توسيع نطاق تعريفها لمعاداة الساميَّة إلى درجةٍ تُجرِّده من أيّ معنى. فعلى حدِّ زعمهم، تنطوي معاداة الساميَّة اليوم على كلٍّ شيء؛ بدءاً من شعار “من النهر إلى البحر”، إلى اتِّهامات “الفصل العنصريّ” و”الإبادة الجماعيَّة”، إلى مجرَّد قول “الحرِّيَّة لفلسطين” أو المطالبة بوقف إطلاق نار- أو مجرَّد انتقاد إسرائيل وتاريخها الاستعماريّ.
يَفهم معظم العقلاء ما يحدث، لكن هُنا بالضبط مكمَن الخطر؛ إذ سيغدو من الأصعب بكثيرٍ أن يتعاطى الناس على محمل الجدِّ مع الاتِّهامات المشروعة ضدَّ معادي الساميَّة الأشرار حقَّاً، من أمثال نِك فوينتس وفيكتور أوربان ومارك روبنسون وغيرهم ممَّن يتصدَّرون المشهد، إذا ما صار يُنظَر إلى تهم معاداة الساميَّة باعتبارها مجرَّد صورةٍ أخرى من تنابزٍ سياسيٍّ بالألقاب، بدلاً من كونها وصفاً دقيقاً لمعتقداتهم وتصرُّفاتهم.
وعليه، فإنَّ أنصار حرب نتنياهو الكارثيَّة لا يكتفون بالمساعدة على إلحاق أضرارٍ جسيمةٍ بإسرائيل؛ بل يساهمون أيضاً في تقويض مكافحة معاداة الساميَّة على المستوى الأوسع.