الرطوبة في هواء بيروت، صوت مكيف الهواء القديم لا يوازي قدرته على التبريد، بينما أنا أحاول تقريب آلة التسجيل الصغيرة من الكاتب الياس خوري، وأتابع موجات الصوت وهي تعلو ثم تستقيم بصمت مطبق، قبل عامين من اليوم، حاولت التطرق مع الياس خوري حول روايته “باب الشمس” التي صدرت عام 1998 عن دار الآداب، الرواية التي كتب عنها الكثير فعلياً في المراجعات والنقد، حاولت تداركها بسؤال حول سحر السرد في الرواية التي بدأ بكتابتها بعدها وهي “يالو”، لم يتردد الكاتب بأن يقول أنه كتب رواية “يالو” وهو خائف، لقد قال كل شيء في رواية “باب الشمس”، إلى أن شعر بخوف عدم القدرة على الكتابة مجدداً.
الرواية التي اعتمدت بجوهرها على الإنصات استعاد فيها خوري حكاية الشعب الفلسطيني من النكبة إلى الشتات، حيث كان يمضي ساعات في المخيمات الفلسطينية، لينصت للحكايات ويعيد كتابتها، لتتجاوز قصة الحب بين نهيلة ويونس الأسدي ما هو شخصي، لتجيب الرواية عن سؤال الأرض وما حدث في النكبة، وتبلور اليقين الذي راكمته التجربة، محولةً الحب إلى حكاية تتسع لجوهر القضية الفلسطينية، يدفعني أنا شخصياً لتصديق يونس ونهيلة، أكثر من الكاتب، ولربما هذا هو المعنى الأوضح لصنعة الكتابة عندما تصير شخصيات الرواية حقيقية أكثر من كاتبها.
الرواية التي صنفت ضمن قائمة أفضل مئة رواية عبر التاريخ بحسب موقع List Muse والتي ترجمت إلى أكثر من 14 لغة، حولها المخرج والسيناريست المصري يسري نصرالله، إلى فيلم طويل حمل اسم “باب الشمس – الرحيل والعودة” صدر عام 2004، من تأليف الكاتب الياس خوري والمؤلف والناقد محمد سويد والمخرج يسري نصرالله، لنشاهد فيلماً يضم أزمة متعددة، وأمكنة تروي تاريخها الشفهي على لسان أصحابها، واتضحت في الفيلم الفكرة الأهم التي حولت الرواية من قصة حب إلى حكاية شعب أيضاً، وهي قدرة الفلسطينيين على التحرر في التسعينات من تروما النكبة، ليحكوا لنا تجربتهم ونضالهم وحتى محاولاتهم في فهم النكبة، وقدرتهم على شرح سياقاتها.
علمتنا السينما أن لا أحد يستطيع أن يروي حكاية واحدة مرتين، ومهما كانت الحكاية وسيلة لفهم الزمن، يمكنها أن تتجاوزه، طالما مازلت تستمد معانيها من الواقع، ليكون عرض فيلم باب الشمس بجزأيه ضمن مهرجان عمان السينمائي الدولي لهذا العام في دورته الخامسة إجابة لسؤال محدد حول علاقة الحكاية بأصحابها، الدورة الخامسة التي تمتد من 3 حتى 11 من شهر يوليو/تموز الحالي، ضمت 50 فيلماً من 28 دولة، بدون أي سجادة حمراء أو مشاهد احتفالية، ليسلط الضوء على السينما الفلسطينية ضمن قسم إضاءة، الذي ضم فيلم المخرجة لينا سويلم “باي باي طبريا” وفيلم “باب الشمس” للمخرج يسري نصرالله، بالإضافة إلى مجموعة أفلام “من المسافة صفر” التي تم تصويرها داخل غزة أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع بعد عملية السابع من أكتوبر.
الفيلم الذي يعتبر الأطول في السينما العربية على امتداد 278 دقيقة تم عرض نسخته المرممة، بعد ما يقارب 17 عاماً من عرضه بهيئة نيغاتيف، والترميم هي عملية إعادة أحياء الفيلم بوسيط رقمي عبر 4K، ليكون قابلاً للعرض في صالات السينما، واللافت للنظر ظروف إنتاج الفيلم التي تمت بعد مقابلة المخرج يسري نصرالله المنتج الفرنسي هامبير بالزان عام 2002، الذي ترك له حرية اختيار الحكاية وظروفها، لم يتردد المخرج يسري نصرالله برواية قصة الإنتاج في جميع مقابلاته تقريباً، خاصة عن تلك اللحظة التي شعر فيها أنها الفرصة المناسبة لتحويل رواية باب الشمس إلى عمل سينمائي، ضم كلاً من الممثلين يم تركي، عروة نيربية، حلا عمران، باسل خياط وآخرين.. لنرى اليوم الحكاية وكأنها في زمنها، تستعيد أسئلة التجربة الفلسطينية، لا بكونها اقتباساً من الماضي، بل كوسيلة لاستعادة الحاضر الفلسطيني اليوم، طالما نكبة الشعب الفلسطيني ما زالت مستمرة.
إن أعمق الطرق وأكثرها وضوحاً للتعبير عن اللحظة الفلسطينية الحالية، يتم اليوم بتفكيك السياق الإنساني، مهما بدا السؤال معقداً حول صورة الفلسطيني اليوم، إلا أن فيلم “باب الشمس” يقدم إجابة تقارب بين الإجابة السياسية والاجتماعية لحياة الفلسطينيين، كون بطل الفيلم مقاوماً، مقاتلاً بلا خيارات في سبيل أرضه، إلا أنه عاشق في المرتبة الأولى، ومهما بدا اليوم تعريف الحرب كشيء عام في استديوهات التحليل السياسي، إلى أن قصة يونس ونهيلة تنتمي إلى ما هو خاص لمضمون هوية القضية الفلسطينية كونها قضية إنسانية في المرتبة الأولى، الزوجان اللذين يتزوجان في قرية عين الزيتون التي هجر الاحتلال الإسرائيلي أهلها في النكبة، الحب هنا هو وسيلة لتدارك الزمان والمكان التي تنتمي إليه نهيلة بعد رفضها مغادرة فلسطين لتعيش في مخيمات الجليل، ويونس الذي ينتمي إلى المقاومة الفلسطينية في مخيمات لبنان، ليكون اللقاء في مغارة دير الأسد في الجليل، والتي أسمتها نهيلة “باب الشمس”، هذا السياق الإنساني يقدم حصيلة تراكمية لعلاقة الفلسطيني الإنسانية مع نفسه ومع خياراته، هي المحرك الأساسي للفيلم، خاصة في جزئه الأول، حيث المحرك الأساسي للفيلم يتم باقتباس اللحظة التي يكتشف فيها الأبطال أنفسهم ضمن واقع صعب، بلا إجابات، بينما الأحداث تتوالى بلا تعقيد عبر الشاشة الكبيرة.
لفيلم باب الشمس ميزة تتجاوز قدرة من يحاول طمس الفلسطينيين في القضية الفلسطينية، وجهة نظر كل من المخرج يسري نصرالله والكاتب الياس خوري، هي تقديم فيلم عن الفلسطينيين الذين يعيشون القضية الفلسطينية، وهذا ما لا يريد أن يعترف به العالم اليوم بصحفيّه وغرف أخباره وسياسيّه وجنرالاته، وهذا ما نراه في حكاية خليل الطبيب الفدائي وشخصية شمس المناضلة، حيث لا يخرج سؤال الوطن من اليومي والمعاش، ليكون الفيلم ليس مجرد جدل حول مفهوم الوطن فقط، إنه ببساطة محاولة لاستعادة الفلسطيني وهو يسجل شهادته الشخصية، خارج الأرقام، قريباً من معاناته، مدركاً لهشاشة العالم، بما لا يثير الشفقة، بل يستعيد الأسئلة ومحاولات فهم الإجابات في العديد من الأمكنة والأزمنة التي انتقل فيها المخرج يسري نصرالله في الفيلم.
أن عرض فيلم “باب الشمس” ضمن النسخة الخامسة من مهرجان عمان الدولي للسينما اليوم، يعني الالتفات لدور الحكاية الشخصي لفهم سياق القضية الفلسطينية، لتكون الألفة والحماسة واليقين والشجاعة احتمالات لا يبنيها الفلسطيني لمواجهة الاحتلال فقط، بل ليستعيد إنسانيته، ولربما هذا هو ما يستحق الاحتفاء اليوم، وعلى الرغم من مرور أكثر من 19 عاماً على العرض الأول للفيلم، إلا أننا مازلنا نرى قدرة الأدب والسينما على تجاوز الزمن، من خلال الإدراك الجاد والحقيقي لحكاية الشعب الفلسطيني، عرض الفيلم بينما لا يزال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مستمراً، ضمن وضع إنساني صعب، لندرك أن ذكرى مأساة فلسطينية تحدث وسوف تحدث، هي ككل الذكريات يكون الاستثناء فيها في قدرتنا على استعادة سياقها الإنساني ضمن وحشية الأحداث.