عوامل ضعف الاقتصاد الفلسطيني
على الرغم من التوسع والتنوع اللذَين شهدتهما العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، وتحديدًا بعد اتفاقيات أوسلو، فإنها لم ترتقِ كثيرًا؛ لأنها لمّا تزل رهينة السياسات الإسرائيلية ومنفعتها الاقتصادية، إضافة إلى ضعف السياسات الحكومية الفلسطينية المتعلقة بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع فلسطينيي الداخل، وضعف البيئة الاستثمارية في فلسطين، ووجود بعض المخاوف المرتبطة بتدفق رأس المال العربي إلى الضفة الغربية، لكنّ البعدَين الاجتماعي والثقافي للفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر وانتماءهم القومي الواحد، بقيا كامنَين في العقلية الفلسطينية، حتى هبّت جميع فئات الشعب في أيار/ مايو 2021 لتخُطَّ رسالة قوية وواضحة تؤكد الترابط بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، وبين فلسطينيي الداخل والشتات، وهو حراك حمل في طياته بذور تعزيز العلاقات الاقتصادية، التي درسها هذا الكتاب، فجاءت فصوله لتثبت إمكانية بناء شراكة حقيقية وتحقيق تكامل اقتصادي بين طرفَي الخط الأخضر.
ثمرة التعاون البنّاء
جاءت مبادرة معهد ماس وجمعية الجليل إلى إعداد هذا الكتاب واهتمام المركز العربي بنشره، في إطار الوعي بأهمية هذه التجربة ومثيلاتها في الإضاءة على الواقع المرّ المتمثل في خضوع جميع فئات الشعب الفلسطيني لسيادة إسرائيل ومشروعها الاستعماري الاستيطاني.
ولكتاب آفاق التعاون الاقتصادي دورٌ في سدّ ثغرة معرفية بارزة في أدبيات الاقتصاد الفلسطيني؛ فقد استعرض أوجه العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية لحدود هدنة عام 1949 بين فلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الاحتلال، بعد أن نجح المستعمر في تجزئة 7 ملايين فلسطيني بين البحر والنهر وتفرقتهم جسديًّا، ومع ذلك أخفق مشروعه الصهيوني في كسر علاقة مكونات الشعب الفلسطيني، الذي لا يزال موحّدًا في هويته العربية وثقافته، وقادرًا على الصمود والالتحام.
لكن العلاقات الاقتصادية بين طرفَي الخط الأخضر تعرّضت لمد وجزر تبعًا للأوضاع الأمنية والسياسية، وذلك بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. أما راهنًا، فتتأثر هذه العلاقات بعوامل عدة؛ أبرزها: تحكُّمُ إسرائيل بوتيرتها، وتفاوت قدرة فلسطينيي الـ 48 الشرائية مع التي لنظرائهم في الضفة الغربية وغزة لتفاوت الدخول في الجانبين، ولأن العلاقات الاقتصادية بينهما فردية وغير منظّمة وغير ممأسسة، وتقتصر على القطاع الخاص والأفراد، فضلًا عن تشابه قطاعات الصناعة الفلسطينية بينهما؛ ما يؤدي إلى تكامل صناعي بطيء جدًّا. ولأن فئات الشعب الفلسطيني لا تملك السيادة في اتخاذ القرار الاقتصادي، ولأن الاقتصاد الفلسطيني لا يندرج تحت أي حالة من حالات “اقتصاد السوق”، بل يخضع للمزاج والمصالح الإسرائيلية الاقتصادية والقومية، فقد تقلصت أنماط العلاقات الاقتصادية الفلسطينية، وانحصرت في استهلاك السلع والخدمات والسياحة والتعليم العالي، وفي أفضل الحالات مبادرات في قطاعات محدودة جدًّا.
أما إسرائيل، فتستغل علاقاتها الاقتصادية مع الفلسطينيين في أمرين: القوى العاملة الفلسطينية الرخيصة، وجعل الساحة الفلسطينية منطقة استهلاك مهمة للبضائع والصناعات الإسرائيلية، مع اتباع سياسة إعاقة التنمية في أراضي الـ 67 المؤدية إلى الإفقار الجماعي، عبر إهمال احتياجات المجتمع العربي وتطوير بلداته وقراه في ميزانيات الدولة للتطوير والتنمية، وإقامة مؤسسات حكومية أو من القطاع الخاص أو مشتركة تعمل مع القطاع العربي الخاص ورجال أعمال عرب وتنفذ مشاريع خدماتية. وفي كلتا الحالتين تتحقق العقيدة الصهيونية ومشروعها بإبقاء الاقتصاد العربي في حالة تبعية للاقتصاد الإسرائيلي المتفوق، فمنذ إقامة دولة إسرائيل، لم تتعدَّ تصريحات الحكام الإسرائيليين حول تطوير الاقتصاد العربي وتحسين أحوال العرب المعيشية الجعجعة الكلامية التي لم تنعكس يومًا على أرض الواقع.
فحوى الكتاب
يبحث كتاب آفاق التعاون الاقتصادي سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر وتطويرها، وأنجع هذه السبل للوصول إلى ما أمكن من التكامل الاقتصادي الذي يبدو تحقيقه أمرًا صعبًا، نظرًا إلى إحباط السياسات الإسرائيلية الممنهجة التنميةَ على طرفَي هذا الاقتصاد، ونجاحها في إلحاقه بنظيره الإسرائيلي قسرًا لعقود طويلة، وإعاقتها تطور القطاعات الحيوية الاقتصادية الفلسطينية زراعيًّا وصناعيًّا، وتقييدها التجارة الفلسطينية الداخلية وحصرها في مسار يخدم المصالح الإسرائيلية؛ ما أدى إلى فجوة كبيرة بين الاقتصادين في جميع المؤشرات. وفي هذا يطرح الكتاب سؤالَين محوريَين؛ هما: هل ثمّة آفاق للتعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر؟ وهل يمكن التوجه نحو شكل من التكامل الاقتصادي بين طرفَيه؟
يستعرض الفصل الأول الخلفية التاريخية والسياسية للعلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، ومراحل تشكّل هذه العلاقات بعد احتلال الضفة الغربية وغزة في عام 1967. ويتناول السياسات الإسرائيلية تجاه الاقتصاد العربي في الداخل، كما يتطرق إلى أبرز محددات العلاقات الاقتصادية على طرفَي الخط الأخضر.
ويشخّص الفصل الثاني واقع اقتصاد الأراضي المحتلة، وعلاقته بالاقتصاد الإسرائيلي، لتعريف القارئ بإمكاناته للتحول مصدرًا للتسويق إلى الداخل الفلسطيني، أو وجهةً مُجدية للاستثمار في اقتصاد الأرض المحتلة. كما يتناول طبيعة علاقة الاقتصاد الفلسطيني التجارية باقتصاد الاحتلال، التي قد تُحدّد مجالات التعاون الاقتصادي الفلسطيني العابر للخط الأخضر.
ويدرس الفصل الثالث أثر السياسات الإسرائيلية في اقتصاد الداخل الفلسطيني، وأبرزَ سمات هذا الاقتصاد على مستوى المرافق والأسر والأفراد، وهي معطيات تساعد في رسم تصوّرٍ للعلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، كما يستعرض الفصل أبرز المعطيات الديموغرافية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، ومدى ارتهان الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، وطبيعة القطاعات الاقتصادية الرئيسة في مناطق الداخل العربي في ضوء نتائج مسحٍ ميداني.
ويتناول الفصل الرابع أبرز محاور العلاقات الاقتصادية الحالية بين الفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، المتمثلة في تجارتهم مع مختلف مدن الضفة الغربية، خصوصًا مدن التماسّ مع الأخيرة، مع التوجه المتنامي لرأس المال العربي إلى الاستثمار في قطاع العقارات، تحديدًا في مدينتَي أريحا ونابلس، والانخفاض الكبير في الوقت ذاته في نسبة الاستثمارات في الصناعة والزراعة، لارتفاع مخاطرهما بسبب المعوقات الإسرائيلية والأوضاع السياسية. ويستعرض الفصل نتائج مسح ميداني لـ 212 منشأة في مناطق 1948، أظهرت تبادلًا تجاريًّا بين منشآت الداخل العربي والاقتصاد الفلسطيني. ويستعرض كذلك، بناءً على نتائج المسح الميداني والمقابلات، الصعوبات التي تواجهها المنشآت العربية في الداخل أثناء تسويق منتجاتها في المناطق الفلسطينية، في استيراد المواد الخام، وتشغيل العمالة الفلسطينية، والاستثمار والتعاون مع القطاع المصرفي أو شركات التأمين الفلسطينية في مناطق السلطة الفلسطينية، والحصول على التمويل. كما يتطرق إلى التعقيدات القضائية والإجرائية لتسجيل الشراكات، وغياب الدعم الحكومي والسياسة الضريبية التي تشجع الاستثمارات العربية في مناطق السلطة.
ويتطرق الفصل الخامس إلى الآفاق الاستثمارية المستقبلية ومجالات التشبيك الاقتصادي والتجاري الرئيسة بين طرفَي الخط الأخضر، وذلك اعتمادًا على الخريطة الاقتصادية الفلسطينية والعربية في الداخل، وتحديات العلاقات الاقتصادية والتجارية الحالية.
وأخيرًا، يحدد الفصل السادس أدوار الجهات ذات العلاقة ومسؤولياتها على طرفَي الخط الأخضر، وفي مقدمتها الحكومة الفلسطينية، التي يتمثل دورها الرئيس في مأسسة هذه العلاقة وتنظيمها، والنظر إليها بوصفها هدفًا استراتيجيًّا يجب السعي لتحقيقه، إدراكًا منها لضرورة استغلال الميزان الديموغرافي لمصلحة الاقتصاد الفلسطيني، والاستفادة من تراكم رأس المال البشري والاجتماعي والمؤسسي للفلسطينيين على طرفَي الخط الأخضر، ثم دور الجهات العربية الفاعلة داخل الخط في تعزيز فرص التكامل بين اقتصاد الداخل الفلسطيني والاقتصاد الفلسطيني في الأراضي المحتلة.