علمنا التاريخ أن على الفلسطيني أن يواجه تصوراته الشخصية عن ذاته قبل أن يفكر بمواجه الآخرين، وأظن أن ريما حسن فعلت ذلك بكل ما تملك من قوة. منذ بدايات ظهورها الإعلامي قبل ثلاث سنوات تقريباً، كان من السهل أن نرى كيف تجاوزت التضليل الذي غالباً ما يفرض على القضية التي تنتمي إليها، نحت الشعارات جانباً، وتنازلت عن أدوار البطولة التي تكتسبها الضحية التي حققت ذاتها بعد المعاناة، لتنتمي للصورة الأولى للفلسطيني الذي يبحث عن حقوقه ويحاول التمسك بها للنضال من أجل قضيته، وجدت ريما في المنفى جواباً يتسع لاحتمالات التغيير، لتبدأ بتفكك التراكم المضلل حول أسئلة القضية الفلسطينية، لا بمنظور سياسي فقط بل اجتماعي وثقافي.
على الرغم من إدراكها العميق لنفسها وللمكان الذي تنتمي إليه، إلا أن فخرها لم يكن بمخيم النيرب الذي خرجت منه وهي بعمر عشر سنوات تقريباً، بل كان فخرها بقدرتها على تجاوز المؤقت الذي بني على أساسه المخيم، أكبر المخيمات الفلسطينية اليوم بعد دمار مخيم اليرموك في سوريا، استعادته ريما حسن كهامش لقضية أكبر، يمكن من خلاله فهم سياق القضية الفلسطينية، هامش لم ينل أهله وسكانه حتى الآن تركيبة الحقوق التي تسمح لهم باستعادة أصواتهم.
ومهما بدا الصوت خافتاً وبعيداً في البداية، إلا أن منذ ظهور ريما حسن الإعلامي الأول، لم تترك حيزاً للالتباس حول مضمون أسئلتها وجوهر نضالها، لربما البراءة هي الكلمة المناسبة لهذا التكهن، ولكن حتى من خلال البراءة، استطاعت أن تقول دائماً من هي وما الذي تنتمي إليه وما الذي تريده، والأهم كيف تراكمت أسئلتها، لتصل إلى اليقين الذي لا يجعلها معفية بصورة غريبة عن إيجاد الأجوبة، حول واقع اللاجئين والمخيمات، صورة المنفى والمنفيين، وعلاقة كل هذا بسؤال الحقوق ومدى أهمية توثيق الانتهاكات.
ليكون هذا هو الجواب حول سؤال كيف تفهم ريما حسن وصولها للحظة تأسيسها منظمة “مرصد مخيمات اللاجئين/Refugee Camps Observatory” في عام 2019، التي مكنت من خلالها القيمة الأساسية لنضالها، حيث لن يتغير العالم بجدية دون مضمون تفصيلي يشرح سياق التغير السياسي والاجتماعي.
رغم أن استعادة الذات أمر مربك أحياناً، إلا أن ريما حسن ظهرت في 23 مارس/آذار 2023 لتستعيد حكايتها كاملة عبر منصة TEDx EMLYON، الظهور الذي لم ينل أي اهتمام جدي وقتها، بينما ردة الفعل التي وثقتها تعليقات اليوتيوب عند نشر الفيديو، كانت تتبادل عنصرية قاسية، تؤكد الرفض القاسي لفكرة وجود ريما حسن كإنسانة وناشطة حقوقية تحاول استعادة صوتها لسرد الحكاية. بعد إنترو قصير يضمن رسماً ليد تحمل بوصلة تشير إلى المركز وعنوان بالخط العريض “الطرق المتقاطعة/Cross Roads”، تظهر ريما حسن بحماسة فاترة، أضافت هالة من الرصانة على مشهد المسرح، لتروي حكايتها الشخصية كأنها حكاية شخص آخر، كانت تلك المرة الأولى التي سوف تروي فيها بعض تفاصيل تجربتها، لمدة 13 دقيقة استعادت نفسها من ثلاث أماكن؛ الجذور الفلسطينية، الطفولة السورية في مخيم النيرب والمواطنة الفرنسية، لتكون مرآة هذه الأماكن كلها هي الأربعة أمتار التي عاشت بها ريما طفولتها في المخيم.
لم تخدع ريما نفسها عندما سلطت الأضواء عليها، على الرغم من أن العالم كان أكثر هشاشة من أن ينصت لها، ولكن حتى عندما كان الإنصات فعلا ممكناً، قدم الوفد الوزاري للاندماج لها صورة المرأة الملهمة، بينما قدمت ندوة داخل مجلس الشيوخ الفرنسي ندوة بعنوان “فلسطين-إسرائيل: الوضع الراهن” بالتعاون مع منظمة L'Histoire في الشهر الثاني فبراير/شباط من عام 2023، إلا أن اللحظة الفاصلة للنضال بدأت مع عملية السابع من أكتوبر.
لم تنتصر ريما حسن منذ السابع من أكتوبر لموقفها السياسي فقط، بل بقدرتها على الظهور الدائم بتسميات تحدد الموقف الذي يجب على فرنسا اتخاذه، كلمة إبادة جماعية لوصف العدوان على غزة، شكلت أبرز أسباب هجوم اليمين الفرنسي عليها، لتكون كلمات ابرتهايد، انتهاكات، انتفاضة أيضاً التي استخدمتها لوصف نضال الشعب الفلسطيني، أسباباً لتعميق تهم معاداة السامية والكراهية والتطرف بحقها.
لم تتغير ريما حسن من ما قبل السابع من أكتوبر وما بعده، الذي تغير هو قدرة العالم على تجريد الفلسطيني من هويته، وعمق التهم ومدى جسارتها في تفكيك أي داعم للقضية الفلسطينية.
فعلياً لم يكن يوجد أي حكمة لهذا النضال أكثر من تبدل نظرة الفرنسيين لريما، التي اضطرت دائماً لتبرير نفسها، ولا معنى لهذه المواجهة التي خاضتها ريما حسن منذ السابع من أكتوبر، أكثر من أن الإنصات للفلسطينيين يخضع لشروط كثيرة أولها أن يتنازل الفلسطيني عن أسئلته الشخصية حول ما يحدث.
الحملة المتطرفة من اليمين الفرنسي، والفاشيين، لم يجعل من ريما بطلة، بل جعلها أكثر جسارة مواجهة نفسها وفي قدرتها على الانتماء سياسياً، حيث الهجمات لم تركز على موقف ريما فقط، بل بيقينها الحتمي بعلاقتها مع نفسها ومع العالم كفلسطينية قادمة من مخيم في سوريا.
بعد أول لقاء تلفزيوني بعد السابع من أكتوبر، قاد اليمين المتطرف أول حملات الكراهية الممنهجة ضد ريما حسن، وتعمقت الكراهية إلى حد اتهامها بهويتها الفلسطينية كونها ولدت في سوريا، التشكيك بالأصول دفع ريما حسن إلى نشر صورة “الكرت الأبيض” بطاقة الأونروا التي تمنح للاجئين الفلسطينيين الذين حرموا من بلادهم، نشرت ريما الصورة على حسابتها دون أن تظلل أي معلومة، وعلى الرغم من موجة التضامن الواسعة معها، إلا أن اتهامات الهوية وحملات الكراهية عمقت من قدرة ريما في الانتماء لما تؤمن به، وهذا أيضاً لا ينطوي تحت خطاب البطولة، بل إلى جسارة تفكيك ما حاول اليمين المتطرف محوه .
لم تكن ريما حسن أول من تم وضعه ضمن دائرة التدقيق الإعلامي والسياسي ولا أظن أنها سوف تكون الأخيرة، لكنها قدمت لنا مثالاً حول مساحات المواجهة السياسية في أوروبا، وتحديداً ضمن الأوساط المؤيدة للاحتلال، خاصة أن هذا يتم ضمن لحظات سياسية صعبة وضمن سياق تاريخي لا بد من العودة له دائماً بشكل أعمق. لقد تم اتهام ريما بتمجيد “الإرهاب” لكونها لم تعتبر عملية السابع من أكتوبر عملية إرهابية، وعملت المنظمات الداعمة للاحتلال على جمع ما نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى اقتطاع اقتباسات ضمن لقاءاتها التلفزيونية المؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني، لتقديمها إلى السلطات الفرنسية، لتستمتع الشرطة الفرنسية إلى أقولها وتشرح شعار “من النهر إلى البحر”.
لا يوجد بالطبع من يستطيع أن ينزع عن الفلسطيني فلسطينيته، ولكن السيدة التي أسست مرصد مخيمات اللاجئين عام 2019، هي ذاتها التي أسست مجموعة العمل الفلسطينية الفرنسية بعد السابع من أكتوبر، وهي ذاتها التي فازت بمقعد عن فرنسا في البرلمان الأوروبي عن حزب فرنسا الأبية، كأول فرنسية من أصول فلسطينية تفوز بهذا الاستحقاق، ثم استحقت منصب منسقة مفوضية حقوق الإنسان في المجموعة اليسارية ضمن البرلمان الأوروبي.
في حالات الفوز هذه واجهت ريما حسن تهديدات بالقتل والاغتصاب والكثير من الافتراءات والأكاذيب، لتقدم لنا مثالاً عن النضال السياسي ضمن دول تقودها حكومات ترفض تسمية ما يحدث بالإبادة الجماعية، لنتأكد أكثر من أي وقت مضى أن الدفاع عن حقوق الإنسان مازال لا يشمل الجميع، بل يخضع لضوابط سياسية ومحاولة تمييز مركب تحاول أن تجعل الفلسطيني على الهامش، وفي كل محاولة لاستعادة صوته فعليه أن يخوض نضالاً مضاعفاً ومركباً يفرض عليه دائماً مواجهة نفسه والعالم وتفكيك التهم.