يقول درويش:
لم يسألوا: ماذا وراء الموت؟ كانوا
يَحفظُون خريطةَ الفردوس أكثرَ من
كتاب الأرض, يُشْغِلُهُمْ سؤال آخر:
ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟
…
(( اُلموت لا يعني لنا شيئاً. نكونُ فلا يكونُ.
اُلموت لا يعني لنا شيئاً. يكونُ فلا نكونُ))
ثنائية الجسد المشتبك والوعي:
ينطلق المدخل الثاني للقراءة من النظر إلى عمليات “المسافة صفر” بوصفها عمليات استشهادية؛ إذ إنّ اللحظة التي يتقدم فيها المقاوم الفلسطيني من أقوى آلة يتحصّن فيها الجندي الإسرائيلي، واضعًا عبوته الناسفة عليها من “النقطة صفر”، هي لحظة يُمارس فيها فعل الموت، ومشهد لأجساد معلقة بينه وبين الحياة. من هذا التوصيف، نحاول فهم قيمة الصفر في المشاهد التي يبثها الإعلام العسكري لمقاومين “يَصْعَدون إلى حَتْفِهِم بَاسِمين”- بالتوصيف الدرويشي- من منظور الوعي بما هو مُدرِكٌ لطبيعة سياسات تطويع الاحتلال للجسد الفلسطيني أو قتله كَمُدرَك. ذلك ما تأسس عليه أهم أوجه معاني الجسد الفلسطيني ورمزيته في المجال السياسي والثقافي بوصفه مشكَّلًا بخطابهما، وتعبيرًا هوياتي عن عقيدة المقاومة والكفاح المسلّح.
من هنا، نقرأ قيمة المسافة الصفريّة للمقاومة من قيمة اختيار الموت وإنتاجه بوصفه ما يلي:
١- الموت كممارسة تحرّريّة
من المهم في محاولة تكوين فهم شمولي لدوافع العمليات التي يستخدم فيها الفلسطيني جسده كأداة لمواجهة الاستعمار والمستعمِر أنّ ننظر في توصيف هذه العملية وتسمياتها من داخل السياق الواقعة فيه. مثلًا؛ الخطابان الاستعماري الإسرائيلي والغربي يسمّون تلك العمليات ب”العمليات الانتحارية”، فترتب على ذلك خطاب يهمّش أهم دوافع هذه العمليات ويرتكز على الأبعاد الدينية (بالتركيز على مفاهيم الإرهاب و الإسلاموفوبيا) والاقتصادية والنفسية. بينما فهم هذه العمليات من خلال تسميتها “بالعمليات الاستشهاديّة” ومن داخل سياق الفاعلين والشاهدين عليها يبلور أبعاد أخرى وينفي بعضًا مما بلوره الخطاب المضّاد. فالكثير من الروايات والشهادات ووصايا الاستشهاديين، وبعض الأدبيات الباحثة في هذه الظاهرة تثبت أنّ الباعث لهذه العمليات لا يقتصر على ما هو إيماني ديني، بل أنّ هناك أبعاد وطنية، وأيديولوجية ثقافية، فرضها وجود الاحتلال واستمراره.
بمعنى أنّ أبعاد العمليات الاستشهادية ليست دينية عقائدية فقط، وإنما وطنية وسياسية واجتماعية. وهي ثقافة جمعيّة تتعدى ثقافة الفرد الفلسطيني. بالتالي من المهم فهم العمليات الاستشهادية في اعتمادنا على الجسد كوحدة تحليل، ليس فقط من منظور الرؤية الجهادية تجاه الموت الاستشهادي (جسد الشهيد)، بل بالتركيز أيضًا على الرؤية التحررية تجاه (الجسد المستعمَر) التي تعدّ الموت الاستشهادي شكلًا لمقاومة الجسد الفلسطيني في سياق العنف الاستعماري.
(بالعودة مرة أخرى لعماد عقل، ننظر إلى ما خاطب به رابين في أول ظهور له عبر الإعلام (سبق ذكره))
إنّ تاريخ النضال الفلسطيني تاريخ مليء بالعمليات الاستشهادية بتعدد أنماط وأشكال ممارستها. لكن لمقاربة المشهد أكثر سنعتمد على مثال العمليات العسكرية الجارية في قطاع غزّة بين جيش نظامي وقوة فدائية. الجندي في الأول يقاتل من داخل أكثر الآليات العسكرية تحصينًا وحماية له مع إمداد حاضر ومستمر من الجو والأرض والبحر، بينما المقاوم في الثانية يخرج بلباسه العادي، حافي القدمين، عاريًا من أدنى تدابير الحماية والإسناد. كما أنّ القتال في الأول هو وظيفة مؤسساتية مقابل راتب وامتيازات ماديّة، وهو جيش تكثر فيه المرتزقة وترتفع عروض المكافآت والحوافز. بينما يكون القتال في الثانية من أجل هدف جمعي معنوي؛ من أجل الشعب والثأر وإدراك الحق، بالإضافة إلى هدف مادي يتمثل في تحقيق التغيير. فهنا تكون “القيمة الأهمّ بالنسبة إلى الفدائيّ هي كونه واعٍ أنّه غير منكفئ عن القيام بدوره، ولا يهمّه أن تكون احتمالية استشهاده واردة جدّاً، إن لم نقل حتميّةً بحكم دوره، ما يهمّه حقاً هو تغيير الحالة الكائنة لحالة ما ينبغي أن يكون، أي مواجهة الاحتلال بهدف كسره وتحرير الأرض”(1).
ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى إنّ اختيار الموت الاستشهادي يعني أن الفلسطيني-الفدائي يرفض أن يكون هناك أي تمظهرات للسلطة الاستعمارية على جسده؛ فينتج موته الاستشهادي مقابل رفض الترويض في منظومة السجن/المعتقل، وأمام الاحتمالية اللحظية للموت في فضاء الاستعمار المغلف كليًّا بآلة القتل الإسرائيلية. وبهذا يقهر سياسة الموت الفلسطيني التي ينتهجها الاحتلال/في السياق الاستعماري؛ “لأن تحدي الموت وقهره يحمل في النهاية معنى للانتصار المعنوي على القهر والاضطهاد والاستعمار، لأن العيش تحت الاستعمار عبارة عن موت معنوي ووجودي”(2). كما يتحدّى أيضًا عنف سياسات التأديب والعقاب التي غايتها ترويض الجسد وصهر الوعي؛(بالمعنى الذي استخدمه “وليد دقة” في توصيف وتحليل أساليب التعذيب في السجون الإسرائيلية). بالتالي يترتب على هذه الهيئة للموت (الاستشهادي) إرادة ترفض تطويع الجسد الفلسطيني وتطويع الوعي الثوري الفلسطيني، وفي هذا وما يترتب عليه ويتصل فيه، يبيّن “إسماعيل الناشف” كيف”أن إرادة الخيار الجماعية التي تقف في أساس منظومة الشهيد بحد ذاتها تنفي رمزيًا سلطة النظام الاستعماري على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني”(3).
٢- استعادة الجسد الفردي لجسد الأرض
في إحدى محاور ورقته التي تناولت المشهد الثقافي الفلسطيني، يطرح الناشف ثلاثية (مقدسة ومترابطة ومتماسكة) للأجساد الفلسطينيّة، يقسمّها إلى: (جسد الأرض، الجسد الجمعيّ، الجسد الفرديّ) (4). يبيّن من خلالها جوهر الصراع الاستعماري في فلسطين، وأيديولوجيا الحركة الصهيونيّة التي سعت إلى شراء جسد الأرض بدايةً لتتمكن بعدها من فرض سيطرتها على الجسدين؛ الجمعي والفردي وتفككهما بممارساتها الاستعمارية. فكانت الأرض أساس الصراع حتّى جاءت النكبة؛ “لحظة فقدان جسد الأرض وما تلاها من فقدان للجسد الجمعيّ وتشرُّد ذلك الفرديّ في أصقاع شتّى”(5)، وهي اللحظة التي وضعت الجسد الجمعي في المركز، حتّى مرحلة أوسلو التي جعلت من الجسد الفردي واجهة للصراع والمقاومة معًا. هذا السياق التاريخي هو الذي أنتج الآني الذي “يتميّز بكونه لحظة الجسد بمادّيّته الفرديّة ومَجازيّته الجمعيّة بكلّ ما يحمل هذا التميّز من معانٍ تراجيديّة وتحرّريّة للمجموع الفلسطينيّ، من جانب، ومعانٍ تكثّف ورطة المستعمِر من خلال لولبيّة العودة إلى البدء أي الأرض/الجماعة/الفرد، من جانب آخر.” من هنا، بحسب الناشف، نشأ الفلسطيني الاستشهادي الذي يحاول كفرد أنّ يشتبك بفعله الفردي (الاستشهاد) مع الجماعة الفلسطينيّة.
مما سبق، يتضح كيف أنّ جوهر المنظومة السياسية الاستعمارية يكمُن في الهيمنة على الفضاء الوطني ونفيه من خلال تشظية وشرذمة الحيز الجغرافي لفلسطين التاريخية وفصل السكان عن الأرض لمحو علاقتهم؛ بما يقضي إلى تغييب الطابع الوجودي للسكان الأصلانيين (الفلسطينيين) عنها؛ بهدف موضعة الاحتلال وتصنيع دولة إسرائيلية. بمعنى أنّ هذا المشروع الصهيو-غربي سعى لقيام الكيان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية من خلال العمل وفق سياسة محوريّة تقضي سلب وتقطيع الأرض الفلسطينية أولًا، وتشظية الفلسطينيين مكانيًّا لتفكيك الجماعة الفلسطينية كنتيجة لذلك، والتي ما إن انفكّت حتى عاش الفلسطيني الفرد باغتراب.
هذه النظرية الاستعمارية ما زالت توجّه الفعل الإجرامي لإسرائيل لليوم وفق كل سياساتها الماديّة والرمزية في السلطة والعنف وفي الاستيطان وفي الرقابة والعقاب والتعذيب ومحو العمران وسرقة التراث وغيره. لكن، ها هو الجسد الذي تسعى الصهيونية إلى ضبطه وتطويعه وتصفية وجوده يقاوم من “المسافة صفر”، فَيُفشِل جدوى كل سياسات الهيمنة والبطش، بعد أنّ صار أداةً في الكفاح المسلّح”الذي يقرب المسافة بين الشهيد والوطن وينفي حالة الاغتراب عن جسد الأرض”(6)؛ وعليه تفشل المنظومة الاستعمارية لليوم في تحقيق ذلك لعدة أسباب؛ منها أن الوعي الثوري متجذّر في الثقافة الفلسطينية، وأنّ كل قيم التحرر والقيم التي توضّح علاقة الفلسطيني بالفلسطيني الآخر، وتحدد طبيعة وجوهر وأساس علاقة الفلسطيني بالآخر المحتل لم ينجح الاحتلال في سلخها عن المجتمع الفلسطيني بتعاقب الأجيال وتقادم الأيام، أو باتفاقيات السلام ومخططات التطبيع وسياسات الاحتواء والتنسيق الأمني. ذلك لأن شكل العلاقة مع الاحتلال هو ذاته، ثابت بثبات معنى استعمار الأرض في فضاء المجتمع الفلسطيني، مهما تباينت الأجيال واختلفت السياقات الزمانية والمكانية المتشظية بسياسات الاستعمار. بالتالي ينتج الوعي الثوري جيلًا فجيل؛ فيفشل الاحتلال في تفكيكه، لأن وجوده بالأساس؛ الوجود الاستيطاني والعسكري والسلطوي هو ما يولّد مقاومين ويفرض كل أشكال المقاومة. هذا ما يثبته الفرد الفلسطيني الذي يختار المقاومة عبر فعله الاستشهادي الذي “هو تطوير وبَلْوَرة لنمط مترسّخ بالوعي الجمعيّ الفلسطينيّ الذي يحدّد إمكانيّات عمل الفرد.”(7)
هذا العمل المتمثل بالموت الفردي هو فعل يتراكم على كل موت فردي سابق وينتج لِلاحق؛ كلهم يؤسسون لفعل العبور إلى ما هو جمعي لإعادة تشكيله وترسيخ حضوره لاستعادة ما هو أرضي جغرافي وتاريخي؛ “فالاستشهاديون يقدّمون بأجسادهم الدليل على حقيقة وجود الجماعة “(8)، لا سيما أنّ “الشهيد نفى مفهوم الجسد بادّعاء أنّ الجسد الفلسطينيّ الجمعيّ لن يعود، ولا يمكن له أن يعود إلاّ من خلال نفي جسد الفدائيّ الفلسطينيّ”(9).
ذلك كلّه، ذلك الموت الاستشهادي الذي يكثر في المواجهة من النقطة صفر، نجد معناه وجدواه وغاية فاعله في قول الشاعر الفلسطيني “سعيد المزين” في نشيد “أنا يا أخي”- نشيد الثورة الفلسطينية: “حَملتُ رشاشي لتحمِلَ بعدنا الأجيالُ مِنجلْ”.
ميراث الثأر: “يموت الموت ولا نموت”
مرّ أكثر من سبع عقود ولم يَعِ العقل الاحتلالي الإسرائيلي حدّ اللحظة صورة الموت (الاستشهادي) للفلسطيني المقاوم، والإرادة التي تنتج هذا الموت وتختاره طواعية، ومعناه للفدائي بما هو ممارسته التحرّريّة. كما لا يزال يجهل فهم منظومة الشهيد عند هذا الشعب.هذا الاحتلال الدمويّ، خاسر كان وسيبقى؛ فهو لا يحارب الجسد الفلسطيني. هو في مواجهة مفتوحة ومستمرة مع فكرة فلسطينية أداتها الجسد، ومصدرها عقيدة إيمانية ووطنية واجتماعية، راسخة ومتجذّرة وممتدة ما تعاقبت الأجيال واختلفت السياقات الزمانية والمكانية؛ فالفكرة لا تموت وليست بناءً يقصف أو جسمًا ماديًّا يفجّر أو يعتقل أو يُعدم.
بالتالي، يفشل الاحتلال في نفي الثوريّة عن الشعب الفلسطينيّ واحتواء أي ظاهرة لنشاطٍ مسلّح، وكل محاولاته في فرض الخوف والتراجع تثبت أنها الحافز والباعث للمزيد؛ فيتبين كيف أنّ الكفاح المسلّح هو أداة ذات طبيعة إنتاجية، لا يمكن القضاء عليها أمام كلّ حلول التسوية التي لم تحقق تطلعات الفلسطينيين وأهداف السلام وإقامة دولة فلسطينية. وأنّ كلّ شهيد يسقط عبره يصير رمزًا خالدًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني والحاضنة الفلسطينية؛ مما يجعل الثأر له مقدس ويورث حتّى نحسنه من المسافة صفر.
كلّ ما سبق لا يعني أسطرة الفلسطيني، ولا أسطرة قدرته على التحمل أو نفي جسده. هذا أسطرة لفعل المقاومة وللإيمان بجدواها رغم كل انكشافات اليوم وتعرّي هذا العالم، ورغم فيض الخيانة والتخاذل والحياد. هذا أسطرة للثأر بما هو حق ينتزع ولا يغيّبه زمان ولا سلام ولا تطبيع. وأسطرة للكفاح المسلّح القادر حتّى اليوم على أنّ يعيق جوهر المنظومة الاستعمارية القائم على فرض سيادة ماديّة ورمزيّة من شأنها تفكيك المجتمع الفلسطيني وقيمه الوطنية والاجتماعية ووسائله بالكفاح.
المراجع
-
رياض ملحم، “خطابنا الثوري – نحو فهم وصايا الشهداء”، الأخبار، 24/9/2022، شوهد في12/1/2024، في: https://al-akhbar.com/Albilad/345796
-
بلال عوض سلامة،”العمليات الاستشهادية الفلسطينية: تطور الجسد كأداة مقاومة، المستقبل العربي، مجلد38، عدد441(2015)،ص 68
-
انظر: إسماعيل الناشف، صور موت الفلسطيني، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: الدوحة، 2015)،ص68
-
إسماعيل الناشف، “في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب :إشكاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ”، قَدّيتا.نت،(16 أيلول/سبتمبر 2011)، شوهد في 14/1/2024، في: https://www.qadita.net/featured/esmail/
-
المرجع السابق
-
بلال سلامة، مرجع سابق،75-76
-
الناشف، “في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب :إشكاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ”، مرجع سابق.
-
مي جيوسي، “تشكل الذات وحالة الاستثناء: الجسد كموقع للمقاومة”، في: أليساندرو بيتي [وآخرون]، حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي، تحرير ساري حنفي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص105
-
الناشف، “في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب :إشكاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ”، مرجع سابق.