كتبها نورمان فينكلشتاين ونشرت في جاكوبن في ٥٨٢٠٢٤.
في 21 أبريل/ نيسان 2024، زار عالم الهولوكوست والناشط البارز والمؤيد لفلسطين نورمان فينكلشتاين معسكر التضامن مع غزة في جامعة كولومبيا. وأعرب فينكلشتاين عن دعمه وإعجابه بالطلاب المتظاهرين، وحثهم على التركيز على جذب أكبر عدد ممكن من الجمهور إلى حراك التضامن مع فلسطين، والإصرار على الأهمية الضرورية لحرية التعبير والحرية الأكاديمية لأجل القضية الفلسطينية. نعيد نشر تصريحاته هنا، كما تم تحرير النص لغاية الطول والوضوح.
“جاكوبين”
لا أريد أن أدعي أي نوع من الخبرة، ويجب أن أكون دائمًا حذرًا من الظهور متعاليًا أو وصيًا أو مدعيًا للحكمة في هذه الأمور. أود ببساطة القول بناءً على تجربتي؛ أن أهم الأشياء هي التنظيم والقيادة وامتلاك أهداف واضحة.
الأهداف الواضحة تعني عمليًا أمرين؛ إحداهما هو الشعارات التي ستوحد ولا تفرق. في شبابي عندما كنت في مثل أعماركم، كنت ما كانوا يسمونه في ذلك الوقت “الماوي”؛ أي تابع للزعيم ماو في الصين، وكان أحد الشعارات التي ارتبطت به بشكل معروف “توحيد الكثرة لهزيمة القلة”.
ويعني هذا أنه يتوجب عليك في أي منعطف في النضال السياسي، أن تكتشف كيف يمكنك توحيد الكثيرين وعزل القلة مع هدف واضح في عين الاعتبار. بالطبع أنت لا تريد أن يتوحد الكثيرون حول هدف أو لغاية ليست غايتك، إذًا عليك أن تكتشف واضعًا هدفك في عين الاعتبار؛ ما هو الشعار الذي سيعمل بشكل أفضل لتوحيد الكثيرين وهزيمة القلة؟
لقد سررت لأن الحراك ككل أدرك بشكل عفوي وبديهي في رأيي، وفي وقت قصير بعد 7 أكتوبر الشعار الصحيح؛ وهو “أوقفوا إطلاق النار الآن!”، قد يتساءل البعض منكم في وقت لاحق؛ ما الذي كان ذكيًا للغاية في هذا الشعار؟ ألم يكن واضحًا؟
لكن في الواقع، الشعارات السياسية ليست واضحة أبدًا. يوجد هناك جميع أنواع الطرق والمسارات والطرق الجانبية، والتي يمكن أن يسلكها الناس وتكون مدمرة للحراك. لا أعتقد أنه كان قرارًا قياديًا؛ لكنه كان إدراكًا عفويًا وبديهيًا من قبل المتظاهرين بأن الهتاف الصحيح في هذه اللحظة هو “وقف إطلاق النار الآن”.
وأود القول أيضًا، في رأيي؛ يجب أن تكون الشعارات واضحة قدر الإمكان، دون أن تترك مجالًا للغموض أو التفسير الخاطئ، الذي يمكن استغلاله لتشويه سمعة الحراك. إذا نظرتم إلى تاريخ النضال، ستجد الشعار الشهير الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ “يوم العمل ثماني ساعات”، لقد كان شعارًا واضحًا.
ومؤخرًا في ذاكرتك الحية؛ ترشح بيرني ساندرز للرئاسة، فمع كل خيبات الأمل في ذلك، في رأيي؛ إلا أنه أحد العباقرة في ترشحه، إذ كان يملك أربعين أو خمسين عامًا من الخبرة في اليسار، بينما كان شعاره “الرعاية الطبية للجميع”. قد تفكر؛ ما هو الذكي جدًا في ذلك الشعار؟، إلا أنه كان يعلم أن بإمكانه الوصول إلى ثمانين في المائة من الأمريكيين بهذا الشعار، وكان يعلم أن شعاري “إلغاء ديون الطلاب” و “التعليم الجامعي المجاني”، سيتردد صداهما لدى جزء كبير من جمهوره الانتخابي المتوقع.
إنه لم يذهب إلى أبعد ما كان ممكنًا في تلك اللحظة بالتحديد، وأعتقد أنه وصل إلى ما يمكن أن نسميه “الحد السياسي”. على الأرجح كانت الغاية القصوى من ترشحه في تلك اللحظة تنصب على تحقيق وظائف للجميع، وبرامج أشغال عامة، واتفاقية بيئية جديدة، والرعاية الطبية للجميع، وإلغاء ديون الطلاب، والتعليم الجامعي المجاني،كانت تلك هي الشعارات الصحيحة. قد يبدو الأمر تافهاً، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، إذ يتطلب الأمر الكثير من الاجتهاد والوعي بالقاعدة الانتخابية التي تحاول الوصول إليها لاكتشاف الشعارات الصائبة.
غزة حرة والتعبير حر
من وجهة نظري إن بعض شعارات الحراك الحالي لا تؤدي المطلوب. المستقبل ملككم يا رفاق وليس ملكي، وأنا شديد الإيمان بالديمقراطية، عليكم أن تقرروا بأنفسكم. لكن، من وجهة نظري، يجب عليكم أن تختاروا الشعارات غير الغامضة، بحيث لا تتركوا مجالًا مرنًا للتفسيرات الخاطئة، وإنما تحمل في طياتها الفرصة الأكبر للوصول إلى أكبر عدد من الناس في لحظة سياسية معينة، هذه هي تجربتي السياسية.
وأرى أن شعار “وقف إطلاق النار الآن” هو الأكثر أهمية، ويتعين إقران هذا الشعار مع شعار “حرية التعبير” في الحرم الجامعي. لو كنت مكانكم لقلت “غزة حرة، والتعبير حر”، يجب أن يكون هذا هو الشعار؛ لأنني أعتقد أن في الحرم الجامعي يواجه الناس مشكلة حقيقية في الدفاع عن قمع التعبير.
في السنوات الأخيرة، وبسبب ظهور سياسات الهوية، وأجواء ثقافة الإلغاء في حرم الجامعات، أصبحت قضية حرية التعبير والحرية الأكاديمية برمتها ضبابية بشدة. لقد عارضت أي قيود على حرية التعبير، وأعارض سياسات الهوية وثقافة الإلغاء بذريعة الحفاظ على حرية التعبير.
سأقول ليس من منطلق التفاخر أو الغرور أو لأقول “لقد أخبرتك بذلك”، ولكن كمسألة واقعية تطرقت لها في الكتاب الأخير الذي كتبته؛ لقد قلت صراحة أنه إذا ما استخدمت مقياس مشاعر الألم كأساس لكبت أو قمع التعبير عندما يحتج الفلسطينيون على هذا، أو ذاك، أو تلك، فإن الطلاب الإسرائيليين سيستخدمون ادعاء المشاعر المؤلمة، والعواطف المؤلمة، وتلك اللغة والمفردات بأكملها، ليتم قلبها بسهولة ضد أولئك الذين يستخدمونها باسم قضيتهم.
كانت تلك كارثة تنتظر الحدوث، وكتبت عن هذا لأنني كنت أعرف ما يمكن أن يحدث، بالرغم من الواضح أنني لم أتمكن من التنبؤ بالمعيار بعد 7 أكتوبر، لكنه كان واضحًا للغاية ما كان من المتوقع أن يحدث.
في رأيي أن سلاح الحقيقة والعدالة هو أقوى سلاح تمتلكونه، ويجب ألا توجدوا أبدًا موقفًا يمكن إسكاتكم فيه بذريعة المشاعر والعواطف، إن استمعتم إلى تصريحات رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، ستجدون أنها كانت تدور حول مشاعر الألم والشعور بالخوف، لقد أفسدت هذه اللغة بأكملها مفهوم حرية التعبير والحرية الأكاديمية تمامًا.
لديكم الآن تلك التجربة، على أمل أن نمضي قدمًا نحو التخلص من تلك اللغة والمفاهيم في الحراك الذي يصف نفسه بالانتماء إلى التقليد اليساري. إنها كارثة شاملة عندما تتسلل تلك اللغة إلى الخطاب اليساري، كما ترون الآن.
سأكون صريحًا معكم، ولا أدعي أي عصمة من الخطأ، أنا ببساطة أقول بناءً على تجربتي الخاصة في السياسة أنني لا أتفق مع شعار “من النهر إلى البحر، ستكون فلسطين حرة”، من السهل جدًا التعديل والقول فقط “من النهر إلى البحر، سيكون الفلسطينيون أحرارًا”، هذا التعديل البسيط والصغير يقلل بشكل كبير من احتمالية أن يتم إساءة فهمكم بشكل تلاعبي.
ولكن عندما سمعت أن هذا الشعار يسبب الألم والمعاناة والخوف، وجب أن أسأل نفسي سؤالًا بسيطًا. ماذا يعكس شعار “نحن ندعم جيش الدفاع الإسرائيلي “؟، جيش الدفاع الإسرائيلي هو جيش إبادة جماعية في الوقت الراهن، لكن لماذا يُسمح بالحصول على دعم شعبي لدولة إبادة جماعية وجيش إبادة جماعية في هذه اللحظة؟
لا تبدو اللغة استفزازية في “نحن ندعم جيش الدفاع الإسرائيلي”، لكن المحتوى أكثر عدوانية بعشرة آلاف مرة وأكثر فظاعة لأي عقل وقلب متحضرين، إذا جاز التعبير، من شعار “من النهر إلى البحر”. السبب الوحيد لوجود جدال حول هذا الشعار-على الرغم من أنني كما قلت لا أوافق عليه، ولكن هذه مسألة منفصلة سواء كنت أوافق أو لا أوافق- هو بسبب تشريعنا الفكرة القائلة بأن مشاعر الألم ذريعة لقمع التعبير، هذا بالنسبة لي غير مقبول على الإطلاق؛ إنه مخالف تمامًا لمفهوم الحرية الأكاديمية.
ربما يقول البعض منكم أن هذه فكرة برجوازية و أنها مبنية اجتماعيًا، وكل هراء آخر من هذا القبيل. لا أؤمن بذلك على الإطلاق. تقرأ الدفاعات الأكثر بلاغة لحرية التعبير دون عوائق وقيود من قبل أشخاص مثل روزا لوكسمبورغ، التي كانت بكل الحسابات إنسانة وثائرة استثنائية. أما أنها كانت كلاهما؛ لا يعني أنها كانت لتقبل أي قيود على مبدأ حرية التعبير لسببين.
أولاً، لا يمكن لأي حركة راديكالية أن تحقق أي نوع من التقدم ما لم يكن لديها وضوح حول أهدافها، ووضوح حول ما يمكن أن تقوم به على نحو خاطئ، أنتم دائمًا ما تنخرطوا في تصحيح المسار. الجميع يرتكب أخطاء، وما لم يكن لديك حرية التعبير فأنت لا تعرف ما هو الخطأ الذي قد تفعله.
ثانياً، الحقيقة ليست عدواً للشعوب المضطهدة، وهي بالتأكيد ليست عدواً لشعب غزة، لذلك يجب علينا تعظيم التزامنا بحرية التعبير لنتمكن من تحقيق أقصى قدر من تعميم ما هو حقيقي حول ما يحدث في غزة، وعدم السماح بأي حجة لقمع تلك الحقيقة.
ما الذي نحاول تحقيقه؟
أنتم تفعلون عشرة آلاف أمر بشكل صحيح، وهي مؤثرة للغاية فيما حققتموه وأنجزتموه، وحقيقة أن العديد منكم يضعون مستقبلهم على المحك هو أمر مثير للإعجاب للغاية. أتذكر خلال الحراك المناهض لحرب فيتنام، كان هناك شباب يريدون الالتحاق بكلية الطب، بينما إن تم اعتقالك فلن تتمكن من الذهاب إلى كلية الطب، واجه الكثير من الناس الاختيار بين القبض عليهم بسبب القضية؛ إذ لم يكن السبب عبثيا، فمع نهاية الحرب كان التقدير أن ما بين مليونين وثلاثة ملايين فيتنامي تم قتلهم، كان مشهدًا مرعبًا يتكشف كل يوم.
جاهد الناس مع إذا ما سيخاطرون بكل مستقبلهم. وأنتم جاء العديد منكم من خلفيات حيث كان صراعًا حقيقيًا الوصول إلى حيث أنتم اليوم؛ إلى جامعة كولومبيا. لذلك أنا أحترم بشدة شجاعتكم وقناعتكم، وكل فرصة تتاح لي أقر بالإيمان والإصرار المذهلين لجيلكم، والذي هو من نواحٍ عديدة أكثر إثارة للإعجاب من جيلي؛ لأنه في جيلي لم يكن بإمكانك إنكار أن أحد جوانب الحراك المناهض للحرب هو حقيقة أن التجنيد كان يقع على عاتق الكثير من الناس، كان يمكنك الحصول على تأجيل طالب للأربع سنوات التي تلتزم فيها بالجامعة، ولكن بمجرد مرور التأجيل، يصبح هناك فرصة كبيرة بأن تذهب إلى هناك وتعود بكيس جثث.
لذلك كان عامل القلق الذاتي موجودًا. بينما أنتم أيها الشباب تفعلون ذلك من أجل شعب ضئيل مجرد من دولته في الجهة الأخرى من العالم، وهذا مؤثر ومثير للإعجاب وملهم للغاية.
مع هذا كمقدمة وبالعودة إلى ملاحظاتي الأولية؛ قلت: إن أي حراك يجب أن يسأل نفسه ما هو هدفه؟ وما هو غايته؟ ما الذي يحاول تحقيقه؟ ،قبل بضع سنوات كان شعار الحراك “من النهر إلى البحر”. أتذكر في السبعينيات حين كان أحد الشعارات “يجب أن يعرف الجميع، نحن ندعم منظمة التحرير الفلسطينية”، ولم يكن شعارًا سهلاً للهتاف به في الأفينيو الخامس في السبعينيات، أتذكر بوضوح النظر إلى أسطح المنازل مترقبًا قناصًا ليرسلني إلى الأبد في سن مبكرة.
ومع ذلك، هناك فرق كبير جدًا عندما تكون في الأساس من أتباع مذهب سياسي وتستطيع أن تهتف بأي شعار تريده؛ لأن ليس له تداعيات أو أصداء عامة. جوهريًا، إنك تتحدث إلى نفسك. تقوم بإعداد طاولة في الحرم الجامعي لتوزيع مطبوعات عن فلسطين، ربما تجد خمسة أشخاص مهتمين. هناك فرق كبير بين ذاك الوضع والوضع الذي أنت فيه اليوم، حيث لديك جمهور انتخابي كبير جدًا يمكنك الوصول إليه بشكل ممكن وواقعي.
عليك أن تتكيف مع الواقع السياسي الجديد المتمثل في وجود أعداد كبيرة من الناس، وربما أغلبية، يُحتمل أن يكونوا متجاوبين مع رسالتك. أفهم أن أحيانًا يكون الشعار هو المصدر الذي يعطي الهمّة لأولئك الذين يشاركون في الحراك، ثم عليك أن تكتشف التوازن الصحيح بين الروح التي تريد أن تلهمها في حراكك والجمهور، أو الجمهور الذي لا يمثل جزءًا من الحراك ولكن تريد الوصول إليه.
أعتقد أنه يتعين على المرء في لحظة كهذه أن يمارس، ليس بالمعنى المتحفظ وإنما بالمعنى الثائر، أقصى قدر من المسؤولية للخروج من ذاته والتخلص من الأنا، وأن يضع دائما في اعتباره سؤال؛ ما الذي نحاول إنجازه في هذه اللحظة بالذات؟