للروائي السوري الراحل خالد خليفة

مقطع من رواية: سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون

Maurice Haas für NZZ

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

أحسد عمّتي جورجيت على حماستها اللامحدودة. لم أرها يومًا صامتة. تثرثر دون توقّف مع صديقتها الدكتورة شهناز الرشيدي عن حماية الطحالب والسلاحف البحريّة التي تأسرني برقّتها حين أنظر إليها تتململ على الشاطئ، وعن ضرورة القيام بشيءٍ من أجل القطط الشاردة،

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

09/09/2024

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

تصدر قريبا عن دار نوفل / هاشيت أنطوان رواية “سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون” للروائي السوري الراحل خالد خليفة (2023-1964)، لتكون الرواية الأخيرة التي كتبها خليفة قبل وفاته، وتصدر بعد غيابه بعام. في هذه الرواية، التي تقع في 264 صفحة، يصفي خالد حساباته مع الزمن، لتغدو وكأنها بوح موارب عن أحلامه وإحباطاته، من خلال سرد حكاية شلّة تحاول عبثاّ إعادة بثّ الحياة في مدينة تموت!

فيها يتحدث عن مدينة اللاذقية في سوريا، بشوارعها وأزقتها، ومعالمها التي شوّه معظمها الفساد الإداري وصفقات المقاولين. ينعي المدينة من خلال موت أحلام شبابها. هم شلة موسيقيين وشعراء وراقصة حاولوا إعادة بث الحياة في مدينةٍ تموت لكنّهم كانوا على موعد مع الخيبات القاتلة. فلا أحلامهم الموسيقية تحققت، ولا قصص حبهم عاشت، ولا أفضى مستقبلهم إلى الإنجازات التي تمنوها. لكلٍّ من أبطال الرواية، “المسوخ” كما تطلق عليهم صديقتهم، معاناته، تسلخاته، وخيبته، ولكلٍّ منهم وهمٌ ابتلعه في نهاية الحكاية. 

في ما يلي مقتطف حصري من رواية ” سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون ” ننشرها لكم.
 

 

كلّ من حولي يعتبرني حمقاء، أظنّهم ينتظرون منّي القيام بأفعالٍ خارقة، كالتعرّي في ساحة الشيخ ضاهر احتجاجًا على صيد السمك بالديناميت، وقتل السلاحف البحريّة. الحديث عن موت السمك بكلّ هذه الجدّية يثير حنقي، البشر يموتون أيضًا، لكن لا أحد يتحدّث عن ذلك، ما قيمة الأحصنة والأسماك والنسور والسلاحف البحريّة ما دام البشر يموتون في السجون والحروب، وفي حفلات التصفية والإعدامات الجماعيّة التي لم تعد سرًّا. المدن أيضًا تموت، رغم ذلك لست مستعدّةً للتعرّي احتجاجًا من أجلها.

لم أكن تلك الفتاة التي يتوقّعها الآخرون، في أعماقي كنت قادرة على الحماقة لكن لأهدافٍ شخصيّة وحياةٍ سعيدة لم أستطع تعريفها. أتذكّر دومًا روني الذي يكره العيش في القرن العشرين المذهل كما يسمّيه. مشكلته ليست في المكان الذي حوّلنا إلى خرسان، بل في الزمن، والبشر الذين يمتدحون الصمت والخرس، أدمغتهم كأوعيةٍ مثقوبة معَدّة لزراعة البقدونس. كيف لحياة أن تستقيم مع الصمت، كنت أوافق روني الذي يكمل أنّه لا يمكن التفكير دون اشتباكٍ مع اللغة التي هي أصل العالم، عاش خائبًا من عجزه عن شرح ذاته، عشق الكلام كعمّتي، يثرثر في أيّ لحظةٍ وفي أيّ موضوع، لكنّه نادرًا ما قبض على المعاني التي كان يقصدها والتي بقيت عصيّة. 

حين كان روني طفلًا أصابه خرسٌ مؤقّت، لم يُعرف سببه، ما زالت عمّتي تستعيد لحظة خوفها عليه، وتقلّد ضحكة الخالة شهناز طبيبتنا التي طمأنتها بأنّها حبسةٌ كلاميّة مؤقّتة. ما زلت أتذكّر تلك اللحظات من طفولتنا، حين اكتشفنا خطأ وجودنا في هذا الزمن. فكّرت وقتها ماذا أفعل مع هؤلاء البشر حولي، كانت لحظة الوعي الأولى، حاولت التراجع عن الوجود في هذه الحياة، فكّرت أنّه يحقّ لي تأجيل قدومي إلى العالم، لكنّ الأمر انتهى ولن يحلّ معضلة حياتي سوى الموت الذي حاولت أيضًا معرفة لونه وتخيّل شكله، لا يمكن الاستسلام والذهاب الأبدي مع شيءٍ لا نعرفه، حين يموت البشر يتركون كلّ شيءٍ وراءهم ويرحلون، لا يفكّرون في المستقبل، لكن لا أعرف إن كانوا يفكّرون في الماضي. حين يعودون إلى الجنّة والنار هل يمتلكون ذاكرةً جديدة؟ كثيرًا ما خطرت لي هذه الأفكار الساذجة التي كانت تجذب الفتيات صديقاتي والفتيان أصدقاء روني الذين كنّا نقطع معهم شوارع المدينة متسكّعين دون هدف، نتحدّث في أمورٍ تافهة، لا يمكن للكائن التحدّث في أشياء عميقة مع الغرباء أثناء سيرهم، يجب التوقّف والنظر في العينين إذا رغبت في حديثٍ جادّ، كان روني يخبرني دومًا عن ابتكاره في تصنيف المواضيع، أوافق حين يعيد تكرار الأشياء نفسها، في محاولةٍ لاكتشاف الموضوع المفضّل أثناء تسكّع الظهيرة. 

أثناء محاولة روني شرح حبسته الكلاميّة للخالة شهناز، أخبرها عن وجود أزمنةٍ أخرى من الماضي غير زماننا تجرّه إليها، حدّثها عن الألوان الزاهية التي تراءت له يومها وما زالت، كانت المناديل المنشورة على صواري السفن تمدّ يدها لاصطحابه إلى زمنٍ آخر، صمتت الخالة شهناز وقالت له: تريد اصطحابك إلى مكانٍ لا إلى زمن آخر، تستطيع تغيير المكان إذا أردت، أضافت. في أعماقك ستبقى مشدودًا إلى حبستك الكلاميّة الأولى، حتى لو كنت الرجل الذي لا يتوقّف عن الكلام. ما زلت أذكر نظرة روني. لم نفهم شيئًا ممّا قاله لكنّنا وافقنا عليه. 

 أخبرني روني بأنّه فكّر طويلًا في لحظة وعي كلّ كائنٍ تعرّفنا إليه، كان الوحيد الذي يفكّر في هذا الأمر بجدّية. البشر لا يتذكّرون شيئًا من لحظة وعيهم الأولى. طلب منّي الوقوف أمام نافذة غرفتي المطلّة على الشارع، وإغماض عينَيّ. لا أرفض طلبًا لروني، كنت مؤمنةً بقدراته على إنتاج أفكارٍ جديدة قد تغيّر العالم، وقفت وأغمضت عينيّ، همس لي كما يفعل السحرة بصوتٍ رخيم: عودي إلى الطفولة البعيدة، وأضاف: تخيّلي نفسك تعبرين البرزخ بين الظلمة والنور، بين الجهل والوعي، بين الماضي والحاضر، افتحي عينيك ببطء، ثمّ افتحي النافذة، تخيّلي لو كانت هذه أوّل صورٍ انطبعت في ذاكرتك. فعلت كلّ ما طلبه منّي، تراءت لي عوالم مظلمةٌ مختلطة بصوت حطّابين، لا أذكر أنّني قلت له بصوتٍ خافت: أريد العودة إلى رحم أمّي فورًا، ولا أريد العيش في هذا العالم القبيح، كما أخبرني لاحقًا. 

كرّر التجربة مع يارا وسام وموسى ومنال، مع جدّتي وعمّتي والخالة شهناز. لكن لا أحد يريد التفكير في صورته الأولى. بقي روني مؤمنًا بأنّ أشنع ما يحدث لكائنٍ هو أن يتذكّر تسلسل وعيه بالعالم واكتشافه الأشياء. لكن في النهاية كان يضيف بكلّ جدّية: أعتقد بأنّه حتى تلك الصور البليدة هي أفضل من الحاضر المثقل بالذكريات، عكس عالم الطفولة الأولى المثقل بالطراوة والنسيان. ويكمل: إنّ عدم الوعي هو نسيانٌ كامل، وليس عجزًا عن فعل التذكّر.

كنت أقدّس الصمت، بينما روني وعمّتي يعتبران الكلام والثرثرة سعادة، الصمت يعني الرفض، لا الموافقة كما يقال. تغيّرت دلالاته، كنت أشرح لروني أنّ الكلام تحوّل إلى فعلٍ منافق وليس الصمت، لا يكتفي النظام بتعبيرك عن الرضى إلّا بالصراخ، حول جموع المؤيّدين إلى قطيعٍ هائل متشابه لا يمكن تمييزه، قافلة كلابٍ تنبح بالصوت نفسه، ماتت اللغة ولم يعد الكلام فنًّا.

 في مراهقتي راقبت تحوّل معنى الصمت، لم يؤيّدني روني إلّا متأخّرًا بعد علاقته مع يارا التي تقدّس الصمت أيضًا وتعتبره مرادفًا للاحتقار. فكّرت أنّ الأنظمة تشبه ذاتها، لا يمكن تبرير مجزرتها ولا نسيانها من قبل الضحايا، بعد تهديم وردم الكورنيش الغربي شعر سكّان المدينة بأنّهم يشبهون سكّانًا أصليّين أُبيدوا في أمكنةٍ أخرى، بقيت منهم أشلاءٌ لا تفعل شيئًا سوى التذكير بالجريمة الأولى، تحوّلوا إلى بقايا سكّان أصليّين يعيشون في سجن، وما جرى لا يمكن تعويضه، تحوّل معنى الصمت من الرفض الضمني إلى الكراهية العميقة، واكتسب دلالةً جديدة تشبه الاحتقار العلني كما تؤكّد يارا. 

أحسد عمّتي جورجيت على حماستها اللامحدودة. لم أرها يومًا صامتة. تثرثر دون توقّف مع صديقتها الدكتورة شهناز الرشيدي عن حماية الطحالب والسلاحف البحريّة التي تأسرني برقّتها حين أنظر إليها تتململ على الشاطئ، وعن ضرورة القيام بشيءٍ من أجل القطط الشاردة، ولا تتوقّف الاثنتان عن اختراع مآسٍ ومؤازرة أصحابها. اعتدت حياتها ولم أعد لنقاشها في ما تؤمن به، أفكارها بالنسبة إليها ليست بروفات يمكن تعديلها، بل مسلّماتٌ ذهنيّة غير قابلةٍ للتغيير. تقول لي إنّها تفكّر كثيرًا قبل القيام بأيّ فعل، لكنّي أعتقد أنّها ترتجل كلّ شيءٍ بإتقانٍ إلى حدٍّ مذهل. ليست من الصنف الذي ينتظر ويفكّر في ردّ فعله، هي فيضٌ عاطفي لامتناهٍ، تفتح قنوات قلبها خلال ثوانٍ، ليفيض ذلك النهر بالحنان الذي غمرني طوال عمري، كانت أمّي الثانية، بل الأولى. هي التي علّمتني كلّ شيء، كانت إلى جانبي منذ تلك اللحظة الرهيبة التي حملتني عن صدر أبي المقتول، وأخذتني بعيدًا عن الزحام لتقنعني بأنّ القمر الذي نراه سيغرق بعد قليل ولن نراه أبدًا، سيذهب مع أبي ليرسلا لنا قمرًا ثانيًا سنراه ليلة الغد. 

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع