صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان” كتاب “هيغل وهايتي والتاريخ العالمي” Hegel, Haiti and Universal History، وهو ترجمة لأصل إنكليزي صدر عام 2009 للفيلسوفة الأميركية سوزان باك-مورس Suzan Buck-Morss ضمّنته مقالتَين لها، الأولى في دورية كريتيكال إنكوايري Critical Inquiry الأميركية، والثانية احتوت ردودًا على انتقادات للمقالة الأولى وتوضيحات لمقاصدها، كما وضعت مقدمة للكتاب ومدخلًا توضيحيًّا قبل كل مقالة. ترجم الكتاب إلى العربية علي حاكم صالح، وهو يقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
في صيف عام 2000، نُشِرت مقالة لباك-مورس في دورية كريتيكال إنكوايري بعنوان “هيغل وهايتي” ” “Hegel and Haitiوسرعان ما اعتُبرت حدثًا فكريًّا فريدًا وأثارت ردود أفعال مؤيدة ومناهضة في الوقت نفسه؛ إذ قامت المؤلفة بجولة في الفهارس الفنية، والدوريات السياسية، والترجمات من اللغات الأجنبية، ومدوّنات الإنترنت، والصحف العمالية، وقاعات الدرس. وهي وإن استجابت لتشكيلات الزمان والمكان غير المألوفة التي رسمتها، وتناغمت مع كيفية عيش الغربيين حَيَواتهم تناغمًا أكبر منه مع تواريخ ماضية، فقد أثارت جدلًا بالرغم مما نالته من استحسان غير كلّي من نقاد المركزية الأوروبية، وإطراء على الانزياح الذي أحدثته في مركز تراث الحداثة الغربية، كما انتُقدت لاقتراحها إنقاذ المقصد الكوني للحداثة عوضًا عن الدعوة إلى تعدد حداثات مغايرة، فبدا لبعضهم أن اقتراح بعث مشروع التاريخ الكوني من رماد الميتافيزيقا الحديثة تواطؤ مع الإمبريالية الغربية، أو الأميركية على نحو أدق. وردًّا على هذا النقد كتبت باك-مورس مقالة ثانية بعنوان “التاريخ العالمي” “Universal History”، سعت فيها إلى تطوير القضايا الخلافية في المقالة الأولى وإلى كتابة التاريخ باعتباره فلسفة سياسية، وجمعت المقالتين في الكتاب الذي بين أيدينا وعنونته هيغل وهايتي والتاريخ العالمي.
استراتيجية باك-مورس وهدفها
تدعو المؤلفة إلى استراتيجية جديدة تتمثل في تعديل شعار ”فكِّرْ كونيًّا واعملْ محليًّا”، وفي معرفة معنى ”التفكير كونيًّا”، وتقترح طرائق لتطوير هذه الاستراتيجية، منها، على سبيل المثال، تغيير اتجاه بوصلة المعطيات التاريخية الخاصة إلى حيث التاريخ الكوني، والهدف الأخير ليس التشابه من دون اختلاف، ولكن خوض الصراعات السياسية من دون تصورات مسبقة تكبّل الخيال الأخلاقي.
وتصرِّح باك-مورس بأن مقالتيها تقعان عند الحد الفاصل بين التاريخ والفلسفة، وتقترحان فهمًا للتاريخ الكوني يتميز من فهم هيغل النسقي للماضي، ومن ادعاء هايدغر الأنطولوجي بأن التاريخانية هي جوهر الكينونة، وتجعلان التاريخَ الكوني تفكّرًا فلسفيًّا متجذرًا في الوجود المادي يسلِّط الضوء على الحاضر السياسي.
كما تعتبر الكاتبة أن إحدى خلاصات المقالة الثانية في كتابها هي أن مساهمة التاريخ الأميركي في مشروع التاريخ الكوني اليوم بفكرة استغناء المشاركة السياسية الجماعية عن العادة أو الإثنية أو الدين أو العرق، مستمدة من تجربة العبودية في العالم الجديد وليس من الإمبريالية الأميركية، وهي مقالة، برأيها، تحطم الحواجز بين “الفهم المفاهيمي” والخيال الأخلاقي في الحاضر.
سميث وهيغل وانقلاب الاهتمامات
في كتاب هيغل وهايتي مدخلٌ يتتبع سنوات البحث التي قادت إلى مقالة ”هيغل وهايتي”؛ ما يبيّن أن المؤلفة لم تكن في وارد كتابته، بل كانت في نهاية الحرب الباردة مشغولة بأيديولوجيا النيوليبرالية المهيمنة، وبـ “الاقتصاد” حين كان موضوعًا لتبجيل صنمي، وبنظريات الاقتصاد السياسي الفكرية المثيرة في أوروبا لدى آدم سميث Smith Adam والتنوير الإسكتلندي Scottish Enlightenment، وفي مجادلات الفلاسفة، وخصوصًا كارل ماركس Karl Marx. وقد أحدث السؤال الآتي انقلابًا في اهتماماتها، وهو أنه إذا لم يكن ثمة من يقرأ الدوريات الاقتصادية من أجل التسلية، فكيف نفسر الإثارة الهائلة التي استُقبل بها كتاب آدم سميث ثروة الأمم Wealth of Nations؟ نجد الجواب في كتابات هيغل، فنصوصه تُظهِر تأثره العميق بالكتاب، وخصوصًا دعوة سميث إلى تقسيم العمل إلى مهمات صغيرة، الذي كان هيغل يعتقد أن له القدرة على تبديل شكل الحياة الاجتماعية، وبدأ يشير في كتاباته إلى “الاقتصاد الجديد” أساسًا لفلسفة الدساتير، كما أنه رصد بدقة في الحياة الاجتماعية وقتذاك ما ندعوه اليوم “الحداثة”، ونذر نفسه لفهم الدلالة الفلسفية لهذا التحول.
كان هيغل أولَ فيلسوف يصف السوق العالمي اللاإقليمي للنظام الاستعماري الأوروبي، الذي لم تعد الاعتمادية فيه توفِّر أساسًا لقبول مشترك بقوانين الحكومة، بل لمجتمع اقتصاد سياسي وفق تصوُّر سميث لـ “المجتمع الجديد”، الذي لم يعد جماعة عرقية ولا عشيرة تجمعها القرابة؛ أي إن الاقتصاد والأمة لم يعودا متوافقين، فقد رأى سميث الاقتصادَ الاستعماريَّ مدمرًا للدولة القومية؛ إذ هو توسعي وهي تضع القيود، وفي هذا من التعارض ما يرى هيغل أنه يُنتج مجتمعًا شكْلُ دستوره السياسي مختلف عن الاعتماد المتبادَل، ويوفّر تصحيحًا أخلاقيًّا للّامساواة الاجتماعية يمكِّن من خلاله كلٌّ من المجتمع المدنيِّ والدولةِ، انطلاقًا من تعارضهما المتبادَل، مجتمعًا يتحدى تراث التنوير البريطاني والفرنسي في أكثر أسسه قدسية: حالة الطبيعة. إنه مجتمع يعارض نظرية العقد الاجتماعي لدى توماس هوبز Thomas Hobbes وجون لوك John Lock وجان جاك روسو Jean-Jaques Rousseau، التي تتصور الفرد الحر والمستقل والمتمتع بحريات طبيعية نقطةَ بداية لأي تأمل فلسفي. وانطلاقًا من كلام هيغل عن “المجتمع الجديد”، فإنه يتطرق للمرة الأولى إلى الحديث عن العلاقة بين ”السيد” و”العبد”، فما علاقتهما بالاقتصاد العالمي الجديد؟ وهل يستعين هيغل بأرسطو هنا؟ وما علاقة وصفه الجانبَ المحلي من الثورة الفرنسية مجازيًّا بـ “العبودية” بتجارة السلع؟
يقدِّم هيغل صورة للعبيد يصارعون لإطاحة عبوديتهم وإقامة دولة دستورية في هايتي قبل مئتي سنة من الآن، والتي أسست أول جمهورية مستقلة للسود في العالم، وهنا مفصل يرى فيه هيغل تحققًا للحرية، حين انبثق الاعتراف المتبادَل بين الأكفاء في هايتي، وأظهر العبيد قدرتهم على أن يصبحوا فاعلين نشطين في حركة التاريخ من خلال صراعهم ضد العبودية بعد نسيان استمر قرنين، وهنا تحديدًا يظهر “اللغز” الذي يحفز مقالة ”هيغل وهايتي.”
تقع الثورة الهايتية عند تقاطع قناعاتٍ متنوعة في العالم بوصفها لحظة حاسمة في التاريخ، فبعد قراءة كتب كثيرة عنها سيكون مستنكَرًا اعتبار صامويل هنتنغتون Samuel Huntingtonإياها على هامش تاريخ الحضارة، وأنه لا يجمعها قاسم ثقافي مع المجتمعات الأخرى.
هل كان هيغل يعرف وصَمَتَ؟
يُنسَب الفضل في كشف استلهام هيغل أحداث سان دومانغ Domingue Saint التسمية الفرنسية لهايتي قبل حصول الهايتيين على استقلالهم عام 1804 إلى سلسلة مقالات كتبها بيير فرانكلين تافاريس Pierre Franklin Tavares في تسعينيات القرن العشرين عن تأثر هيغل – ”المنشغل” بقوة بمسألة العبودية – بما كتبه الأباتي رينال Raynal Abbé عن تاريخ جزر الهند وتعرُّفه فيه إلى العبودية في الكاريبي، كما استنتج نيكولاس نسبيت Nicholas Nesbitt من قراءته أصول فلسفة الحقGrundlinien der Philosophie لهيغل أنه نص “تقدّمي” يقدم أول تحليل عظيم للثورة الهايتية من حيث ”تحليله ودفاعه الجذري عن حق العبيد في الثورة”. ويتضح من كلام الكاتبَين اتفاقُهما على وضوح الصلة بين هيغل وهايتي، لكنّ نسبيت تتبّع من خلال أعمال إيميه سيزير Aimé Césaire مفهومَ الزنوجة Negritude القائم على ”تجربة الخضوع والاستعباد”، معتبرًا تحرر عبيد الثورة الهايتية أمرًا ذا رمزية Emblematic.
تنقل باك-مورس قول أحد أساتذة الفلسفة لها إنه لن يغيّر طريقة تدريسه هيغل ولو اقتنع بأن هايتي كانت في ذهنه وهو يكتب، ثم تُعقِّب بالقول إن هذا المنظور بالذات هو ما أرادت زعزعته، معتبرةً أن تعثُّر الباحثين في فلسفات الحرية الحديثة هو بسبب جهلهم تاريخَ هايتي، وأنه لا يمكن فصل فلسفة هيغل عن مكبوتاته.
ولكن لماذا لم يناقش هيغل أحداث هايتي صراحة في نصوصه؟ وهل كان مسؤولًا عن الصمت عن الثورة الهايتية؟
يُرجع نسبيت ذلك إلى أن هيغل كان يُحيل في نصوصه لقرّائه ما يُفهمهم المغزى، أما تافاريس فيزعم – نقلًا عن جاك دونت Jacques D’Hondt – أن صمت هيغل هذا، الذي يجعل قراءة هيغل قراءة باطنية ضروريًّا، ناتج من صلاته بالماسونية، التي كانت تشترط السرية على أعضائها، فقد كان هيغل قارئًا مداومًا لدورية مينرفا الماسونية، كما كانت سيبيل فيشر Sybil Fisher على صواب في قولها إن قطع هيغل مناقشته لجدلية السيد والعبد أدى إلى نشوء أعمق الاختلافات في الكتابة عند هيغل.
ومنهم من أرجع صمت هيغل، كتيري بنكارد Terry Pinkard في السيرة التي خطّها عنه، إلى البؤس الذي عاشه: بلا مال، بلا عمل، مع امرأة هجرها زوجها وطفلها.. ورجل بهذه الحال لم يكن ليضمِّن عمله إشارات إلى هايتي لا تحبّذها السلطات الألمانية ولا نابليون فيعرِّض نفسه للاعتقال؛ ما دفعه إلى قبول وظيفة في صحيفة بامبرغ تسايتونغ Zeitung Bamberger المؤيدة لنابليون.