هو اسم أدبيّ من طراز كنفاني ودرويش وحبيبي، وثّق ويوثّق روائياً القضيّة الفلسطينيّة، ساهم في تعمير حكايتنا وتثبيتها في الذّاكرة، صدرت له مؤخراً رواية «أولاد الغيتو» التي تستكمل ما بدأته «باب الشمس»، سيتبعها كتابان آخران ضمن مشروع روائي واحد. يحكي لنا الروائي اللبناني، الفلسطيني بكل المعاني، عن أفكاره في أن لا يحب فلسطين ويحب الفلسطينيين، وفي يهود اليهود، وفي كتابة النّكبة واستمراريّتها، وفي التفوّق الأخلاقي لأدبنا، وفي الرّاهن الفلسطيني والسوري، ويحكي عن روايته الأخيرة.
أجرى المقابلة: سليم البيك.
قلتَ في أكثر من مكان “أنا لا أحب فلسطين، أنا أحب الفلسطينيين”، هل تأتي المقولة في مواجهة الأنظمة صاحبة الصوت الأعلى في الحديث عن القضية وهي في الوقت نفسه تمارس “كرهاً” تجاه الفلسطينيين؟
يجب قراءة هذه المقولة في مستويين: المستوى الأول الأكثر أهمية هو المستوى الثقافي المرتبط بالفكر الاستشراقي، الذي بدأ عملية نشوئه مع الحروب الافرنجية التي يسميها البعض بالصليبيّة، التي تعتبر فلسطين أرضاً مقدسة. فكرة الأرض المقدسة هي فكرة غريبة جداً على التراث اللاهوتي المسيحي، فلا شيء اسمه أرضاً مقدسة في هذا التراث. فكرة القدس أو أورشليم عند المسيحيّين لاهوتياً انتهت بمجيئ المسيح، وصار هنالك ما يسميه المسيحيون بأورشليم السماوية.. فكرة الأرض المقدسة أتت لتبرير الغزو الصليبي في القرن الحادي عشر، هي فكرة، جوهرياً، تنفي الشعب وتقدّس الأرض، لذلك ترافقت الحملات الصليبية مع مجازر امتدت على طول ساحل بلاد الشام من أنطاكية إلى غزة. هذه الفكرة مرتبطة بالفكر اليهودي الذي كذلك عليه علامات استفهام حتى في التراث الثقافي والديني اليهودي. هل أورشليم، القدس، هي أرض مقدسة أم هي رمز؟ ثمّ أتت الصهيونيّة وقدّست الأرض لتلغي سكان هذه الأرض.
في الإسلام ليس هنالك أرضاً مقدسة، المسلمون لا يسمون مكة بالمقدسة، يسمونها مكة المكرمة، والحرم هو الحرم الشريف وليس المقدّس. فالأرض غير مقدسة. فكرة تقديس الأرض في الثقافة الغربية المعاصرة وفي الثقافة الصهيونية، أنتجها الإنجيليون في القرن التاسع عشر وهي جوهرياً تهدف إلى إلغاء وجود سكّان الأرض وإلى تحويل الأرض نفسها إلى الموضوع، هذا هو التبرير الإيديولوجي الذي اعتمدته الحركة الصهيونية في غزوها لفلسطين، فهذه أرض موعودة لليهود فهي إذن أرض مقدسة، وهي أرض بلا شعب. أنا شخصياً لا أعتبر أن هنالك أي أرض مقدسة في العالم، المقدس هو الناس والشعب، بالتالي فالتأكيد على الشعب وليس الأرض، وهي نقطة جوهرية في الصراع الفكري والثقافي والسياسي مع الحركة الصهيونية والتيارات النابعة من الفكر الاستشراقي المهيمن.
المستوى الثاني هو الذي طرحتَه، وهو أن في السياسة الرسمية العربية تقديس لفلسطين وتهميش لشعب فلسطين ولكن لأسباب أخرى لا علاقة لها بالإيديولوجيا الدينية التي ارتكزت عليها الحركة الصهيونية، لها علاقة برؤية الأنظمة العربية لإمكانية استغلال الموضوع الفلسطيني دون تقديم أي شيء لفلسطين. وأنا أعتقد جازماً أنه لم تجر أي حرب عربية إسرائيلية على الإطلاق باستثناء الأيام الأولى من حرب أكتوبر. حرب ٤٨ لم تكن حرباً بل كانت خدعة، الجيوش العربية لم تدخل إلى فلسطين لتحارب من أجل فلسطين، الجيوش العربية وتحديداً الجيش الأقوى في ذلك الزمن والذي قاد الحملة العربية وكان الجيش العربي بقيادة عبدالله، دخل ليقسّم فلسطين مع الحركة الصهيونية. في المقابل، استُعملت فلسطين كأداة لقمع الفلسطينين، انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام ٦٥ وهوجمت من قبل القوميين، باعتبار أنها توريط للعرب، وحوربت، وهذه أولى ذكرياتي في العلاقة مع النضال الوطني الفلسطيني، كنّا نجمع تبرّعات لحركة فتح بشكل سرّي، والذكرى التي دمغتني أنا شخصياً هو عندما اعتُقل فدائي فلسطيني اسمه جلال كعوش من مخيم عين الحلوة وقُتل في ثكنة الحلو في بيروت وتم سحله. فالفلسطينيون في المشرق العربي مضطهَدون ومقموعون، ولتبرير ذلك خرجت خطابات عنصرية متنوعة الأشكال، ونراها في أكثر من قطر عربي وليس فقط في لبنان كما يظن الكثيرون، تأتي في سياق استخدام الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية ضد فلسطين والشعب الفلسطيني. وبالتالي أنا في هذا المعنى لا أحب فلسطين بل أحب الفلسطينيين، فإن كنّا نحب فلسطين فلا يعني ذلك أن نحب الرمز بل الناس والشعب الذي مازال يعاني منذ عام ٤٨ لأنّ النكبة على عكس ما قالته الأدبيات القومية المهيمنة، النكبة لم تحصل في عام ٤٨، النكبة بدأت في هذا العام وهي مسار لايزال مستمراً إلى اليوم، هي تجري اليوم ليس فقط في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بل كذلك في اليرموك ومخيمات لبنان وجرت أمس في نهر البارد وقبله في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر وقبله في عمّان في أيلول الأسود عام ٧٠، فالنكبة المستمرة تمارسها الدولة الصهيونية وبمشاركة تكون مرّات مباشرة وأخرى غير مباشرة، مع النظام العربي.
النظام العربي يحب فلسطين على طريقته بمعنى إلى أي مدى يستطيع أن يستغلها، والحديث يخصّ أكثر النّظام السوري. هنا، نجد أناساً ومثقفين منحازين للثورات العربية والسورية تحديداً، يأخذون بقول النّظام بأنّه مع القضية، يصدّقونه ويأخذون ذلك كمبرّر ليقيموا تناقضاً بين القضية الفلسطينية والثورة السورية، كيف ذلك؟
هنالك في الحقيقة مسؤوليتان: أولاً مسؤولية القيادات الفلسطينية، يجب أن لا ننسى أنه منذ توقيع اتفاقية أوسلو، وعملياً منذ هزيمة انتفاضة الأقصى، فلسطين محكومة بقيادات تشبه الأنظمة العربية، هنالك كلام عن مقاومة وثورة لكن ليس هنالك لا هذه ولا تلك، هنالك سلطتان قمعيتان، في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا علاقة لهما لا بالشعب ولا بالموضوع الفلسطيني، لا أحد منهما يخبرنا ما هي استراتيجيته لتحرير فلسطين، عملياً لديهما استراتيجية واحدة وهي البقاء في السلطة. فجرى تحويل فلسطين من قضيّة نضال إلى قضية سلطة، لا مانع لديهما من استخدام تحالفات بالغة الانتهازية للبقاء في السلطة، في رام الله وغزة، كلاهما تلاعب بالموضوع.
لكن هذا لا يجب أن ينسينا المستوى الثاني وهو الأكثر خطورة، هو أن هنالك مشكلة في الثورات العربية ويجب أن نواجهها، هي ثورات شعبية انطلقت بلا قيادة، وفشلت فيها القيادات المستنيرة، اليسار تحديداً، لأسباب معقّدة ومتعدّدة، وضع الثورة السورية في غاية الصعوبة الآن، لا أنتقد لمجرد النقد، وقلبي ينزف حباً للشعب السوري ولسوريا ونضال السوريين والسوريات، ولكن لأسباب معقدة الثورة السورية سُرقت، سرقتها الأنظمة العربية من جهة بأموالها النفطية، وسرقتها التيارات الأصولية التكفيرية. ومن ناحية أخرى حوّل النظام سوريا إلى دمار شامل، وأباحها للقوى الأجنبية، حين نحكي عن سوريا اليوم أو عن حل للقضية السورية، لم أعد أعرف من هي القوى السورية التي تستطيع أن تشارك في الحل، لذلك صارت سوريا ملعباً، كما كنا في لبنان في الأيام الأخيرة في الحرب اللبنانية، تحول لبنان إلى ملعب للقوى الإقليمية. أكثر من ذلك، كنا نشعر أننا لسنا حتى ملعباً، بل كرة يتقاذفها الجميع. من الطبيعي أن تخرج من هذا الواقع أفكار مشوّشة وملتبسة وانفعاليّة لأنّه لم يعد هنالك هدف واضح، عندما تحدّد لنفسك كثورة سورية هدفاً واضحاً، لا شك أنك ستلاقي بعد تحرير سوريا من الاستبداد أنّها ستواجه المشكلة الأكبر وهي أنّ أراضيها محتلة من إسرائيل، وأن موقعها الطبيعي هو إلى جانب الشعب الفلسطيني، ولكن هذا الضياع السوري ينعكس على قطاعات واسعة من المثقفين، وخصوصاً الليبراليين منهم، وهذا رد فعل لديهم غير مبرر وغير مفهوم على مثقفي نظام الممانعة الداعمين للنظام السوري وتدخل إيران وحزب الله وروسيا في سوريا.
ذكرتَ في مقالة مؤخّراً عبارة إدوارد سعيد “أنا هو المثقف اليهودي الأخير”، هل نستطيع أن نربط بين ذلك وبين كون الفلسطينيين هم “يهود اليهود” وهو ما ذكرتَه كذلك في مقالة مؤخراً وفي «أولاد الغيتو»، وهنا يخطر لي ما قاله محمود درويش في فيلم «موسيقانا» لجان لوك غودار بأنّنا كفلسطينيين محظوظون بأن يكون اليهود هم من احتلوا أرضنا لأن ذلك يعطي قضيتنا بعداً عالمياً ويسلّط الضوء عليها (وأننا للسبب ذاته غير محظوظين)، فهل نحن فعلا يهود اليهود وهل فعلاً محظوظون؟
فكرة يهود اليهود كتبتُها عملياً في رواية «باب الشمس» في ١٩٩٨. والفكرة طبعاً تطورت عندي كثيراً خصوصاً بعدما قرأت رواية يزهار «خربة خزعة»، وهو كاتب كبير وصهيوني، وكان عضو الكنيست عن حزب العمل. ولكن أدبيّة النص تغلّبت على إيديولوجية كاتبه وجعلته يوصلنا إلى استنتاج في طريقة وصفه للفلسطينيين وهم يُطردون من القرية، من خربة خزعة والتي هي أصلاً خربة الخصاص كما شرحتُ في «أولاد الغيتو». وصفه ينطبق تماماً على كل الخطاب العنصري الذي كان يُطلق في أوروبا على اليهود. فالفكرة هي أن اليهود الإسرائيليين كي يتحولوا إلى شعب طبيعي فهم يحتاجون إلى يهودهم، وبذا جعلوا من الفلسطينيين يهود اليهود.
ثانياً، لا أوافق مع مقولة أستاذي وحبيبي محمود درويش على أننا محظوظون. أحد أكثر أسباب التعقيد الكبير في قضية الشعب الفلسطيني هو أنه يواجه حركة صهيونية استطاعت أن تستغل بشكل ذكي جداً ووحشي المأساة التي مرّ بها اليهود في أوروبا، المحرقة النازية، والحل النهائي للمسألة اليهودية الذي طرحه هتلر. استطاع الصهاينة أن يستغلوا هذه الكارثة الكونية استغلالاً بالغ الذكاء والوحشية. المشروع الصهيوني، وهو كان قبل الهولوكوست بستين أو سبعين سنة، ونشأ كمشروع كولونيالي، هرتزل يسمي مشروعه مشروعاً كولونيالياً، دون أن يخجل لأنه في حينها كان “على الموضة” أن تنشئ مشروعاً كولونيالياً، المشاريع الاستيطانية عمّت العالم من الجزائر إلى جنوب إفريقيا، كان المستوطنون الغربيون البيض يجتاحون العالم الثالث وكان ذلك مبرراً كرسالة تمدينيّة، فنقلوا الموضوع إيديولوجياً من مشروع كولونيالي إلى مشروع أنّ الضحية اليهودية تبحث عن وطن بعد كل هذا الاضطهاد، وهذا برأيي ما عقّد المواجهة مع المشروع الكولونيالي تعقيداً شديداً. وطبعاً ألقى ذلك أضواء علينا، لكني أقرأ هذه الأضواء بشكل غير تفاؤلي أبداً، فالمؤيدون للقضية الفلسطينية في الوسائل الإعلامية المهيمنة في الغرب لا يؤيدونها عملياً، بل يحاولون إنقاذ إسرائيل من نفسها، هذه هي الفكرة، أي الضغط على إسرائيل للانسحاب مثلاً، هي محاولة إنقاذ إسرائيل من نفسها من أن تتحول إلى مجتمع أبارتهايد وتتدمّر فيها الديمقراطيّة وتتحول إلى مجتمع متديّن كما يجري الآن في إسرائيل فعلياً، الآن تتحول إسرائيل من مجتمع غربي أوروبي حديث، وكل أسطورة الكيبوتس التي نشأت عليها الدولة العبرية قبل الـ ٤٨ وبعدها مباشرة تنهار الآن، فلا مبرر إيديولوجي لديهم لأن الفكر الكولونيالي الغربي انهار ولم يعد له معنى، تفكك في كل العالم. فصاروا مشروعاً كولونيالياً لا غنى له عن استخدام المرجع الديني لتبرير كل وجوده، وبالتالي هذه الوجهة التي راحت إليها إسرائيل اليوم هي التي حذّر منها من كانوا يؤيدوننا في الماضي في الغرب لأنهم أرادوا إنقاذ إسرائيل من نفسها، من التحول إلى هذا المنزلق الذي سقطت فيه.
أما التعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني ومع حق اللاجئين وحق العودة وهو حق أساسي، فلا فلسطين من دون حق العودة، هو تعاطف مع مأساة النكبة. النكبة ممحوّة، الاستناد على ذاكرة الضحية عندهم محى صوت الضحية الفلسطينية في العالم، حتى في العالم العربي. عندما صدرت «باب الشمس» الكثير من العرب تساءلوا، مستغربين هل حدث كل هذا؟، فنحن العرب والفلسطينيون لا نعرف ما حصل. انمحت من تاريخنا بسبب قدرة هذه الإيديولوجيا التي استخدمتها الحركة الصهيونية على تصوير نفسها بأنها ضحية، لذلك خرج إدوارد سعيد بمقولته الشهيرة بأنّنا ضحيّة الضحية. أنّهم ضحيّة لا خلاف في ذلك لكنّهم مجبورون على أن يعترفوا بنا كضحيّة لهذه الضحية، وهنا الصراع الكبير على المستوى الفكري والثقافي بيننا وبين الحركة الصهيونية، وإسرائيل تتقصّد أن تمنع ذاكرة النكبة، ويعرفون ما يفعلونه جيداً، إن كان هناك نكبة فهذا يعني أن إسرائيل غير شرعية وهم يعرفون ذلك، ولذلك يمحون الذاكرة ويمحون الحقيقة والتجربة المعاشة للفلسطينيين، مهمتنا نحن كمثقفين وككتّاب وكمواطنين وكمناضلين، ليس أن نعبد الذاكرة بل أن نحميها و نضعها في الحاضر، فعندما أكتب عن النكبة في ٤٨ أكتب عن الآن، في «باب الشمس» و «أولاد الغيتو» وهذ ثلاثية صدر منها كتاب واحد فقط وستستكمل الموضوع. «باب الشمس» كُتبت عام ٩٨، عن النكبة عام ٩٠ وليست نكبة ٤٨، وطبعاً استعادت ذاكرة النكبة في ٤٨، النكبة ليست ذاكرة تُستعاد، هي ذاكرة الحاضر، وهذه الأهمية التي يُعوَّل عليها كثيراً من أجل بناء وعي فلسطيني وعربي وعالمي أمام مأساة الشعب الفلسطيني.
هذه الذاكرة التي يحاول الإسرائيليون محوها وتأسيس غيرها، وأكثر ما يؤثّر في بناء الذاكرة هو الأدب، عندنا «باب الشمس» و «أولاد الغيتو» وهي بمثابة تكملة لـ «باب الشمس»، وكلاهما محاولة لإعادة بناء الذاكرة الفلسطينية أدبياً، فإلى أي درجة نحن قادرون على أن نصل أدبياً، وقادرون على تشكيل الوعي أو الذاكرة المستقلبية، لنقل، في الرأي العام العالمي فيما يخص النكبة المستمرة إلى اليوم؟
ليس هدفنا الرأي العام العالمي، وشخصياً لا أكتب أدباً لا للرأي العام العربي ولا العالمي، بل من أجل نفسي وضميري وروحي وقيَمي، ولأنّ الكتابة أمرٌ جميل. إن كان الأدب جيّداً، سيشكّل ذلك وعياً، فهو أولاً سيُقرأ. «باب الشمس» ساهمت في إعادة إيقاظ الوعي للنكبة ولما جرى في ٤٨ ولواقع أن الفلسطينيين شعب عادي وتعرّض إلى كارثة، وهم ليسوا أبطالاً بل بشر. أعرف أنّه بالنسبة لي أنّ مصير النص لا يقرّره الكاتب بل القارئ وكذلك الزّمن، وبالتالي وظيفة الكاتب تنتهي حين ينهي كتابة النّص. لكن المفاجأة هي، وأنا فوجئت حين كتبت «باب الشمس» وكذلك بعدها «أولاد الغيتو»، أنّه لاتزال النكبة غير مكتوبة، لم تُكتب، المفاجأة الكبرى في «باب الشمس» وقد ناقشتها في المخيمات الفلسطينية وكانت مفاجِئة لي أنا، أنّها لم تُكتب وأنّها خضعت إلى شطب فظيع، لأن الناس عاشت النكبة، وهي كأي كارثة تؤدي إلى تروما وهي كذلك عار، والناس لا تخبّر عن العار، لن تجد أمّاً تقول أنّها كبّت طفلها، لكن النّاس في حينها كبّوا أبناءهم، هذا لم يُكتب، وأنا فوجئت وحتى الآن مازلت مفاجَأً، حين أعدت قراءة كل الأدب الفلسطيني، وهم أساتذتي، غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش، هؤلاء أكثر من أساتذتي، هؤلاء من علّموني الكتابة، فوجئت أنّهم لم يكتبوها ولم أفهم لماذا. المهم أن نكسر الصمت وبكل الوسائل. الآن الصمت طبعاً يتم كسره ليس بالأدب للأسف الشديد ولكن على المواقع الإلكترونية، حتى عند بعض رفاقنا اليهود والإسرائيليين القائمين على موقع «ذكروت-ذاكرات» بمجهود هائل، إضافة إلى أعمال كبرى لمؤرخين فلسطينيين أولاً على رأسهم وليد الخالدي ثم لبعض المؤرخين الإسرائيليين على رأسهم ايلان بابيه، وكتابه الهام «التطهير العرقي في فلسطين»، ووليد الخالدي الذي أنجز كتاباً مع باحثين آخرين اسمه «كي لا ننسى» الذي يثبّت كل القرى الفلسطينية التي دُمّرت عام ٤٨.
الأدب ليس لجلب الرأي العام إلينا إنما هو حلبة صراع، الشعوب المقهورة والمهزومة لا تكتب التاريخ، الذي يكتب التاريخ هو المنتصر أمّا نحن فنكتب الأدب. نحن نكتب القصّة وهناك صراع بين القصّة والتاريخ. القصة برأيي قادرة على أن تنتصر على النص التاريخي إذا أُحسنت كتابتها وإذا فعلاً أعطيناها ما تستحقه من جهد وعمل وتوفّرت الموارد، ففي هذا الميدان قضيّتنا لن تموت أبداً وإن كنا الآن نعيش هزيمة مروّعة، ونحن في أسوأ لحظة منذ ٤٨، قد لا يشبه ٤٨ إلا هذه اللحظة في التاريخ الفلسطيني المعاصر. لكن رغم ذلك أنا متيقّن من قدرة الفلسطينيين الهائلة على البقاء والتمسك بالحياة وبالأرض وبوجودهم عليها من جهة لأن لا خيار آخر لهم، وأنّه في الصراع الثقافي نحن قادرون على الانتصار، وإدوارد سعيد قدّم نموذجاً لهذه القدرة، وهو كاتب واحد، قلب الحياة الأكاديميّة الأميركية والغربية رأساً على عقب. لذلك الحملة عليه مستمرة حتى الآن، بعد ١٣ سنة على موته، لأنه خلخل كل هذا المبنى الإيديولوجي الكاذب الذي استندت عليه الحركة الصهيونية.
أدبياً، هل نحن قادرون على خلخلة الرّواية الصهيونية في كل ما يخص فلسطين، منذ ما قبل النكبة إلى يومنا هذا؟
أنا آخر من يمكنه الحديث عن نفسه لأني لا أعرف، لكن برأيي في النتاج الأدبي الفلسطيني من غسان كنفاني إلى محمود درويش إلى إميل حبيبي إلى جبرا إبراهيم جبرا وآخرين، وهنالك أسماء كثيرة أخرى، فقط ذكرت هذه الأسماء لأني أحبها وهم أصدقائي الشخصيين، إن قارنّا الأدبين الفلسطيني والإسرائيلي نجد هنالك تفوقاً أخلاقياً في الأدب الفلسطيني، وهذا الذي جعل إدوار سعيد يقول أن المثقفين الإسرائيليين هم مجرد مثقفي ضواحي. مثلاً كنفاني عندما كتب «عائد إلى حيفا» عام ٦٩ كان قومياً عربياً، وذلك قبل أن تتمركس تماماً حركة القوميين العرب. وهو قومي عربي قدر أن يقدّم شخصية ميريام في الرواية، وهي شخصية ناجية من الهولوكست، قدّمها بشكل إنساني وأعطاها الكلام. درويش الذي حوّل ريتا إلى قصيدة حب أسطورية في الأدب العربي المعاصر، الجميع يغنّي مع مارسيل خليفة “بين ريتا وعيوني…” ولم يستوعب أحد أنّها، ريتا، إسرائيلية ويهودية. أجريتُ دراسة مرّة ونشرت في مجلة «الطريق» وفيها تحليل لشخصية ريتا من خلال وصف درويش لها، واستنتجت بأنها إسرائيلية، وأشكيناز، من خلال وصفه.
يستطيع شاعر المأساة الفلسطينية أن يتعالى ويرى في اليهودي إنساناً وليس آلة قمع فقط، وهذا مستحيل في الأدب الإسرائيلي. لدى عاموس عوز ويهوشواع ويزهار وغروسمان، الفلسطيني غير موجود وإن وجد يكون إما أخرس أو أهبل أو ولداً صغيراً أو مجنوناً، لأنه في اللحظة التي يتواجد فيها الفلسطيني في الأدب الإسرائيلي فإن كل الافتراض الإسرائيلي في الحق اليهودي يقابله التفوّق الأخلاقي لدينا، يجب أن نبني على هذا التفوّق. قدرة الضحية على أن ترى الآخر بينما القامع والمحتل لا يستطيع أن يرى الضحية لأن في اللحظة التي يرى فيها الضحية في أدبه يتفكّك منطقه كلّه، لأنّ المنطق هذا قائم على عدم وجود الفلسطينيين، وهذا الفرق بيننا وبينهم. وهذا الذي للأسف تريد اليوم التيارات القومجيّة والأصوليّة أن تدمّره، أكبر حماقة هي أن نتخلى عن تفوّقنا الأخلاقي.
لقراءة الجزء الثاني من المقابلة