نصوص من “حبر الشمس”.

ملكات الحرير: يشربن ريح الأرض وتشربهن

لأسامة السلوادي

خالد الحروب

كاتب وأكاديمي من فلسطين

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

30/09/2016

تصوير: اسماء الغول

خالد الحروب

كاتب وأكاديمي من فلسطين

خالد الحروب

khaled.hroub@yahoo.com

“أنيل” الجولان: دبكات في عين الشمس

(١٧) … منصة المسرح الكبير وخلفياته أقيمت من صناديق التفاح الخضراء البلاستيكية المُستخدمة. فيها يتكدس تفاح الجولان المقدس ويسافر إلى كل الإتجاهات. يُفاخر الجولانيون بأن تفاحهم هو الأشهى في العالم. كأن هذا الغناء الدافىء يطلع بطعم التفاح، تحتضنه الصناديق العالية ويسيل منها الآن ويختلط في مسرحها عرق الفلاحين والفلاحات مع عرق الدابكين والدابكات المترقرق في جباههم تحت نور نجوم صارت هي الآخرى ترقص ترنماً. أفراد الفرق والضيوف القادمون من فلسطين لا تستقبلهم فنادق، تستقبلهم بيوت بسيطة لناس يعشقون الشرفات. في المساء يؤدون صلاة السهر عليها مع ضيوفهم فيطلون على غموض ساحر في وديان نهاياتها بطن التاريخ. يُدهشون زائريهم بحكايا جدلتهم مع المكان ألوف السنين. من الشرفة العالية يشير ياسر بيده إلى إتجاه قلعة النمرود: هي هناك. بناها النمرود متحدياً ما في الغيب يوم قال له أتباعه إن هناك من هو أعظم منه. أعلن التحدي وبنى القلعة ليبارز ذلك العظيم بالسيف وفي منتصف المسافة. لما أنهى القلعة وصعد إلى أعلاها شاهراً سيفه دخلت أنفه حشرة صغيرة طائرة وقضت عليه. يحب الجولانيون قصة النمرود. غرور جبروته هزمته حشرة. لا تهم صلابة القلاع. تتهاوى كبقايا قشة. كل جيوش الغزاة تزلزلها أساطير الفلاحين ومحاريثهم. يتندر لاقطو التفاح على العابرين الظانين بأنهم باقون.

(١٨) “أنيل”؟ إسم غريب من أين جئت به، سألته؟ فرد علي بأسطورة. قال: “أنيل” إسم الملاك الذي كان موكلاً بحراسة آدم وحواء في الجنة قبل أن يهبطا إلى الأرض. تراءى لي إستكمال الأسطورة وتأمل رؤية أبي البشر وأمهم يهبطان إلى الجولان أرض التفاح. يغرقان في تفاح جنة الأرض بعد أن أطاحت بهما شهوة تفاحة واحدة في جنة السماء. يجولان في جنة الأرض ويتحممان هنا في بانياس. “أنيل” سحرته صبايا رام الله وكان قد تجند لخدمة الضيوف ونقلهم. بين المسرح وبيوت الإقامة “يخطف” أنيل الصبايا ويحيد عن الطريق، يأخذهن إلى نقطة عالية يرين منها مدى عميقاً ويقول لهن هناك يُصنع الشفق الأحمر. يأخذهن إلى بساتين طويلة يدغدغ قلوبهن بتفاح أخضر، يظل نبيلاً، ويأتي بهن فارساً يحفظ تقاليد المكان.

(١٩) صعد ياسر إلى المسرح بعد أن تلألأ الجبل بالإغنيات ولمعت سماؤه بحبات العرق في وجوه شباب وصبايا “السرية”، وقال لهم: الجولان صار بكم أحلى، ومجدل شمس صارت بكم أحلى. كان شوق التواصل من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب نهراً حب رائق. مازح الفرقة وأعتذر لهم بسبب “ندى الجولان” الذي رطب أرضية المسرح فتزحلق واحد من الراقصين فصفق له الجميع تضامناً. قال لهم نعتذر لكم بإسم الندى الذي أحبكم. كانت “حنين” قد أخضوضرت عيناها بخطي دمع لحظة وصل الباص إلى الجولان في الليلة السابقة للعرض. قالوا إنها عاشت في “الشام” فتدفق بردى من عينيها لما رأت أنها هنا: لم تصدق. ناس مجدل شمس تبرق من عيونهم على مدى يومين إندهاشة فرح طفولي يتلقفون القادمين من الجنوب بكل الإشتياق والإحتضان والبساطة. ما أروع العودة إلى الطفولة في عيون الكبار. يصفقون، يترنمون، يدندنون، يتمايلون مع النشيد، ثم يقومون مصفقين لجفرا وشابكين الأيدي في حلقة الدبكة الكبيرة. 

   

ملكات الحرير: يشربن ريح الارض وتشربهن

(٢٠) من قال ان ساقيّ هذا المصور المبدع وقد تعرضتا للشلل اثر رصاصة طائشة سنة 2006 في رام الله اقعدتا روحه أو شلتا التقاطات الصقر العاشقة في عين كاميرته اللعوب؟ أسامة السلوداي الذي شربت عيناه قوة ساقيه، جُبلت روحه في سفوح قرية سلواد، واختزنت ريحا حنونا لا تعصف بالناس والأرض، وإنما تحضن وجوه الفلاحين في الصباح، وتقبل أياديهم في المساء. الريح الحنون صارت تهب من صدور الناس وعيونهم بإتجاه الأرض. يهيم عشقا على كرسي متحرك في حقول الحصاد يصور الثوب الفلسطيني منزرعا في الشجر، والتراب، والهواء، صالبا حفيدات مريم ومصلوبا بهن، ناقلا عناد الثوب وانشداده إلى عين الشمس جيلا بعد جيل، وكبرياء إثر اعتداد، من ملكات كنعان ووصولا الى ستي “هادية” ابنة وادي فوكين والمتيمة بزيتون بيت لحم.

كنتُ واثقا من أن الذي جندل الموت في “الجدارية” وهتف “يا موت هزمتك الفنون جميعها” هو الذي سينتصر على عملية القلب المفتوح، وأن “لاعب النرد” المستسلم مؤقتا أمام الموت: “من أنا لأخيب ظن العدم”، لن يكون سوى جملة معترضة في حياة الشاعر المتشبث بالحياة … لكن رمية النرد كانت مميتة!

صبايا الارض الطيبة يتضاحكن ويتطايرن في طول وعرض صور السلوداي ويلقين بأرواحهن واجسادهن في حضن الريح وكأنها صارت سجادة سندبادية تتلوى فوق الحقول وتطير إلى ما لا نهايات الأشياء، ترصع في الهواء أثوابا تطرزت طوال ثلاثة الآف سنة من الحب والبقاء. ريح القرية الحاضن، ولدنات الصبايا، وجوه الاجداد المحفورة بأخاديد بساتينهم وشجرهم، ابتسامات الامهات الكبار … أمهات الكون، والعيون السود التي يتهاوى القمر في هواها، كل ذلك تلتقطه عيون السلوداي وتنشره في “ملكات الحرير”. ترسم كاميرا المصور المبدع مئات اللوحات محورها الثوب الفلسطيني التقليدي وتطريزاته الحريرية الاليفة مُحتضَنا بروح محلقة في أفق الناس وريحهم وجذوع شجرهم العتيق.

(٢١) برع الإنسان الفلسطيني منذ العصور القديمة في تخليد سيرته على شكل رسومات حيكت بشكل رائع على أثواب النساء، ظلت الجدات الفلسطينيات يتناقلنها حتى وصلت إلى الحفيدات”. نلاحق هؤلاء الحفيدات من جليل فلسطين وحتى نقبها، نراهن يوزعن ابتسامات الملكات مطرزة بكل تفصيلة من تفاصيل التاريخ منسوجة بالعنب ومنداة برذاذ قادم من البحر. هذا ثوب الشمال، وهذا حرير الوسط، وهذا طرز الجنوب. كأنما كل منطقة كانت قد ارتخت بتكاسل بين ماء المتوسط وماء الأردن أملت قصة محاريثها على التاريخ عبر تفاصيل الحرير على قامات نسائها الواثبة. ثمة شيء ما غامض ولذيذ في هذا الكتاب. زوايا التصوير وأمكنته: “زووم إن” على تفصيل تطريزة مبهرة الدقة في كتف صبية خلفها باب مصنوع من سنديانة وادعة … “زووم آوت” على ملكة تطير فوق سنابل بيدر تدغدغها ونسمع صدى الضحكات في مدى لا مدى له. ابتسامات الصبايا، عري أقدامهن على السلاسل الحجرية، هبوب الريح يمسد شعور الملكات وحفيف أوراق الشجر يتراقص حولهن، ضحكات الحجات الكبار في شارع قديم في بير زيت مطرزات بالجمال والصليب الذي يرصع الصدر، اعتلاء “الصمدة” فوق الروؤس المتبخترة، احتضان الزنار الوردي للخصر، الأهزوجة التي تلعلع بين الصور ونسمع رنينها، حفيف بيادر القمح التي تركض فيها مجموعة ملكات، إكليل الزنبق يتوج جبهة القمر، دبكات الجدات في الساحة، الطرحات البيض تجلل قوس الباب الحجري المتخمر، والأمل الكستنائي المنثور في كل طية لدلال خصر. هذا ما يجعل “ملكات الحرير” مميزات، ينزعن وشاح الإضافة والإبهار.

 

اسرار الحجارة وبوحها

(٢٢) … عند جذور جدران الحجارة في طول وعرض قرى وحواضر بلاد قداسة ما بين المائين هناك شهادة الكون الفائضة: تَخوْضُرُ الحجرِ واستنبات الزهر بين الشقوق يقول أن الناس هنا كانوا هنا قبل ضربة شق النهر وقبل صرخة وليد المهد. تغيّرُ لون الحجر وانحلاله مع بُنيّ الأرض وتماهيه فيه يقول أن نبع الماء سقى الشجر والحجر هنا، وظل يفور بالليمون، فيطلع فوق الأسطح وعلى الجباه. كلما اخضّرت الحجارة وتلاحمت أساساتها مع البني كلما هزِئت أسقفها وأقواسها بالغزاة … وتعالت واستطالت على قرميدهم الغريب النازل على الأرض بستعلاء وفوقية. لطالما تحسر الغزاة على مشهد قرى فلسطينية بسيطة وفقيرة تطرز أفق البلاد، لكن غفوتها على ساعد سلاسل الحجر المُعتق، تزدري مستوطنات متوحشة البناء، فولاذية الجدران وصلبة الاسطح، متوترة لا روح فيها. روح السارق في أسقف قرميد الغزاة جففت أرواح ساكنيها. 

(٢٣) كل هذه “الأبواب” تتوسط جدران حجارتنا ونمر عليها ولا نراها؟ يلتقي جداران حجريان في زاوية وادعة وكل منهما يتوسده باب بني محفور في خشبه العتيق خطوط سوداء مائلة. يتجاور البابان ويتقابلان كفلاحتين تثني كل منهما طرف ثوبها تحت الزنار وتتهامسان بتبسم حول عروس الحارة التي احمرت خجلا عندما مر الزين … نترك ال “أبواب” خلفنا لندخل إلى ال “أقواس” …. هنا تتحول الأقواس كلها إلى أمهات من روح وحجارة لينة تحضن كل ما تحتها. من جوانب طيات ثوبها نرى أفقا ثريا لا نهاية له. نرى بيوتا ونوافذ وأبوابا وبرتقالا وأشواكا وخيولا وعصافير تتدفق من أسفل الأقواس. أطياف لأمواج من الناس عطروها بالحكايا ورائحة التبغ، ودفعوها إلى أعلى بأكتافهم يوم عبروا من تحتها.

 

قديس زهر اللوز

أشكوك إلى “ساحرة الشعر” يا ملك الشعر

(٢٥) “هدْدتهُ” في مكتبه في مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله وقلت: “على كل حال بعد أن تعود من السفر سأقرأ عليك قصيدتي المتمردة عليك وشكواي ضدك أمام “ساحرة الشعر”، فإن كانت رائقة على مسامعك أكون سعيداً وإن كانت رديئة فليكن أستماعك لها عقاباً لك على ما فعلت من وئد لم تقصده لشعراء كثيرين هنا وهناك ربما كانوا سيكونون لو لم يكن قد شلهم سحر شعرك”. فضحك وقال أتقفنا. سعدت بالإتفاق وصرت أنتظر. كنتُ واثقا من أن الذي جندل الموت في “الجدارية” وهتف “يا موت هزمتك الفنون جميعها” هو الذي سينتصر على عملية القلب المفتوح، وأن “لاعب النرد” المستسلم مؤقتا أمام الموت: “من أنا لأخيب ظن العدم”، لن يكون سوى جملة معترضة في حياة الشاعر المتشبث بالحياة … لكن رمية النرد كانت مميتة!

 

إمتداد الصوت … علو النبر

ساق نابلسية وساق غزاوية فوق كليمنجارو

(٢٨) … ساق واحدة فقط تبقت لياسمين ابنة نابلس، وساق واحدة فقط تبقت لمعتصم ابن غزة، هما ما ورثاه من الانتفاضة الثانية في عمرهما القصير. كانت السنوات تركض متباهية لتكسو حياة الولدين، وكانت قنابلُ وحياةُ قاسية تسابق العمر لتبتر الساقين. اليوم ياسمين ومعتصم في عمر اليفاعة والمراهقة يجري كل منهما بساق بقيت وأخرى صناعية استنبتت. بعد أسبوعين من الآن وأكثر قليلا، في السابع عشر من يناير (2013)، سيكون الإثنان قد شرعا تسلق جبل كليمنجارو، رابع قمم العالم ارتفاعاً. سيتعقبان هاري بطل قصة أرنست همنجواي “ثلوج كليمنجارو” الهائم على وجهه بلا بوصلة وقد فقد معنى الحياة، وصار بلا هدف، فيمسحان بأيديهما الصغيرة عرق جبينه ويهدهدان قلقه ويقدمان له على طبق من أمل حجرا مقدسا وغَرفة ماء، وبوصلة معنى… 

 

آشلينغ، أسرى فلسطين وفقراء المغرب

(٣٢) … جاءت قروش الدعم البسيطة من المغرب … وتحديداً من فقراء المغرب. نقلت له قصة أبو زيد الادريسي يوم سمعني في محاضرة في الدار البيضاء أتحدث عن “آشلينغ” وعملها من أجل اسرى فلسطين، وبخل الأغنياء العرب وعدم دعمهم لما تفعله. يومها سالت منه دمعه، وطارت منه صيحة: قال أتبرع بإسم فقراء المغرب بعشرة آلاف دولار لجميعة آشلينغ! يومها نقلت الخبر بحبور طفل إلى آشلينغ مثل ندى صباحي في فجر يوم حار. ويوم مر أبو زيد “الطائي” بلندن وتوقف ليسلم التبرع سألته آشلينغ باسم من تكتب قيد الإيصال. رد أبو زيد: بإسم الشعب المغربي. قالت له كيف؟ قال هذه الأموال نجمعها درهما درهما من ريف وقرى ومدن المغرب دعما لفلسطين وأهلها. وأنا لست إلا وسيط الخير بين أولئك الكرماء وأنت. كل ما أطلبه هو أن تنفقوا كل درهم من هذه الدراهم بحسب ما يأمل ويحلم من تبرعوا بها. لحظتها رأيت في دموع آشلينغ المعلقة في مقلتيها وجوه تسعة آلاف أسير. ورأيت في بهاء وجه أبو زيد وجوه الملايين من أنقياء المغرب وبسطائه.
وصفت للغني العربي يا صديقتي كيف اجتمعت أنت مع أبو زيد الطيب في ذلك المقهى اللندني وتوسطت بين شعب أبو زيد الكريم وأسرى عظماء ما كسرهم قيد السجن، لكن هدهم تخاذل الأشقاء والأقرباء. على تلك الطاولة التي لن أنساها رجوت الإثنين أن ألتقط صورة، لا أعرف لماذا، لكن ثمة شيء في داخلي هتف في بأن ألتقط تلك اللحظة الصغيرة الساحرة: لو سمحت، أكتبي الإيصال كالتالي: من الشعب المغربي إلى سجناء فلسطين، مع وعد ودعاء بالحرية.
شرحت له كيف أن أبو زيد إلتقط لواء حاتم الطائي في اللحظة الأخيرة … والكسيفة، وكنت قد ظننت أن حاتم الطائي ولواءه يسقطان ويسقطان ويكادان يرتطمان بالأرض محدثين وجعا عميقا في دواخلنا. قلت له أشياء كثيرة يا آشلينغ، وللحظة ما أصدقك القول ظننت أنني لن أخرج من عنده إلا ونفقات الوفد الأوروبي قد تأمنت. كم كنت ساذجا يا صديقتي. فلحظة سكت وأنا أنتظر كلماته بلهفة محملقا في وجهه البارد ببلاهة، جاءتني الحروف تصفعني على وجهي حرفا حرفا، كلمة كلمة. لن أنسى ما تلفظ به على تعاسة ذاكرتي. قال إنه حريص على أن يأخذ مسافة واضحة من كل عمل سياسي، وأنه لا يخلط “البزنس” بالسياسة … خرجت مهزوماً حتى النخاع يا صديقتي. لم أشعر بهزيمة مريرة كتلك. أرتميت في قطار الأنفاق ساهماً، غاضباً، ناقماً، شاتماً، …، وقريباً من البكاء.

 

الكاتب: خالد الحروب

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
عن السيرورة والصيرورة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع