أجرى المقابلة جمال خليل صبح
أنت من عائلة لها جذور في الشجرة، قضاء طبريا، وفي مخيّم العائدين الفلسطيني، وفي مخيّم اليرموك وغيره من مخيمات الشتات. ماذا يعني حقّا أن تكون “لاجئاً فلسطينياً” بهذا الزّخم من الأمكنة العزيزة؟
المخيّم بالنسبّة لنا نحن الذين ولدنا فيه مكان لا يشبه ولا يشبهه أيّ مكان آخر في العالم، بالتأكيد ليس الأجمل ولا الأفضل ولا الأكثر راحة للسكن، ولكنّنا وخصوصاً نحن الذين عشنا فيه فقر وعوز البدايات وهو لمّا يزل حديث العهد بالنكبة نحبّه بعجره وبجره، ببرده ودفئه، بنظامه وفوضاه، خذ مخيّم اليرموك مثلاً الذي أصبح في أيّام عزّه ينافس أرقى الأسواق والأحياء الدمشقيّة، ولكنّه في نظرنا ظلّ ذلك المخيّم البسيط الدافئ بأهله الجليليين، فلسطين المصغّرة بأسماء البلدات والقرى والشهداء على الشوارع والمدارس، منبع الأبطال ومصنع الفدائيّين وجنّة الشهداء، المحطّة الأولى للجوء والأخيرة قبل العودة، وكذلك مخيّمات العائدين والرمل ودرعا وخان الشيح والنيرب والوحدات وعين الحلوة والدهيشة وجباليا، حتّى وإن اختلفت في بعض مظاهرها ولكنّها تتشابه في القلب، قلب اللاجئ الذي لا ينفكّ يحلم بالعودة والذي يعرف أنّ سكنه في هذه المخيّمات مؤقّت، وأنّ له بيت وأرض ينتظرونه هناك.
المخيّم يا عزيزي حالة عصّية على الفهم ترافقني في حلّي وترحالي، ولا أعتقد أنّني الوحيد في ذلك، فلا شكّ أنّ كثيرين مثلي، بإمكانك القول أنّني مهووس بالمخيّم، أو مريضٌ به رغم الظرف الذي دفعني لمغادرته قبل سنوات، وعندما حصلت على الجواز الأجنبي الذي يفتح كلّ مطارات العالم أمامي فإنّني ولمدّة خمس سنوات لم أسافر إلاّ إلى المخيّم، المخيّم الذي كنت أحلم بفلسطين وأنا نائمٌ في بيتي فيه، والذي صرت في غربتي أحلم أنّني نائمٌ في بيتي فيه أحلم بفلسطين، أنا مدمن المخيّم الذي قلت مرّة: إنّنا سنحمل مخيّماتنا معنا عندما نرجع إلى فلسطين.
أمّا الشجرّة فتلك حكاية أخرى، بل تكاد تكون أمّ الحكايا التي بقيت سرّاً في حياتي لم أفهم كنهه إلّا عندما دست على ترابها بقدميّ الحافيتين ورحت أتبع آثار خطوات أسلافي على دروبها وألتقط ما علق من أنفاسهم بين أطلالها.
معروف عنك مناصرتك للثورة السورية منذ انطلاقتها، هل تجد هناك نقلة نوعية في مفهوم “الهوية” لدى اللاجئين الفلسطينيين في سورية؟
نعم أنا أعتقد ذلك وبشدّة، وربّما كنت من الأوائل الذين انتبهوا لهذه المسألة وكتبوا عنها، فقد كتبت مقالة مطوّلة باللهجة العاميّة في الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة السوريّة بعنوان (أنا فلسطيني سوري) بدأتها بالقول “أنا فلسطيني سوري، مش فلسطيني مقيم أو عايش بسوريا” وبيّنت فيها الكثير من الأسباب والمعطيات التي دفعتني لقول ذلك والاعتقاد به، من أمور مشتركة عشتها مع السوري كإبن بلد تماماً، بدءاً بالهموم المعيشيّة الصغيرة وليس انتهاءً بظلم النظام الذي توزّع بعدالة منقطعة النظير علينا نحن الإثنين. وبالمناسبة هذا الإحساس بالانتماء وتبنّي تلك الهويّة الجديدة برز لدى الفلسطينيّين المؤيّدين للثورة قبل مؤيّدي النظام بفترة لا بأس بها، قبل أن يتنبّهوا هم إلى حاجتهم لمرتكز أخلاقي يبرّرون فيه موقفهم غير الأخلاقي، فوجدوا في هذا الشعار ضالّتهم مستخدمين نفس أسبابنا بعد تحويرها إلى صالح النظام وليس الشعب، متباهين مثلاً بالقانون 60 الذي يمنح الفلسطينيّين السوريّين حقوقاً كثيرة، ومتناسين في نفس الوقت أنّ هذا القانون يسبق الحكم الأسدي بعقد ونصف من الزمن وهو ليس من منجزات بشّار الأسد أو والده، يعني يصحّ فيهم القول أنّهم فلسطينيّو النظام السوري بينما نُعتبر نحن الذين وقفنا مع ثورة الشعب السوري الفلسطينيّون السوريّون الحقيقيّون.
وبرأيي أنّ هذه المسألة في الإنتقال التدريجي لمفهوم الهويّة له إرهاصاته التي بدأت مع اتفّاقيّة أوسلو وتخلّي منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة عن لاجئي الشتات، ولكنّها بقيت ملتبسة وغامضة بعض الشيء لتفرض حالها بقوّة شديدة مع انطلاقة الثورة السوريّة، وتزداد تكريساً مع تجاهل المنظّمة والسلطة المستمرّين للكارثة التي حلّت بالفلسطينيّين السوريّين والتعامل المتعالي واللامبالي مع مأساتهم.
كما أحبّ أن أضيف هنا بأنّ وضوح الهويّة هذا لم يصل إلى نفس الدرجة عند بقيّة اللاجئين الفلسطينيين، لا في الأردن ولا في لبنان ولا في مصر أو العراق، ولا حتّى للأسف لدى أهلنا في مخيّمات الضفّة الغربيّة وغزّة الذين لا يزال يُنظر لهم على أنّهم لاجئون وليسوا أبناء بلد من قبل قطاعات لا بأس بها من فلسطينيّي تلك المناطق الأصليّين على مستوى العلاقات الاجتماعية والطبقيّة، ناهيك عن بعض الأمور الأخرى.
لو تتبّعنا ما يحصل للمخيمات، لوجدنا المصير ذاته الذي لاقته البلدات والمدن السورية الثائرة ضد النظام. ماذا يعني هذا المصير بالنسبة إلى الواقع الفلسطيني في سورية؟
بغضّ النظر عمّا عُرف عن النظام الأسدي من ديتكاتوريّة واستبداد وقمع للشعب السوري وحريّاته على حساب المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة وإرجاء كلّ ما يتعلّق بالتطوّر الاجتماعي والاقتصادي للبلد بحجّة تأمين التوازن الاستراتيجي والتجهيز للمعركة الكبرى مع العدوّ الإسرائيلي المفترض والاحتفاظ بحقّ الردّ في المكان والزمان المناسبين، فقد بدا جليّاً للجميع أنّ هذا النظام لا يفعل شيئاً عن عبث ودون حسابات وفواتير مدفوعة مسبقاً يقوم بتقديمها لأسياده حامين وجوده في المنطقة محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، وقد ظهر ذلك واضحاً لكلّ من يريد أن يرى الأمور بعينيه الإثنتين منذ تآمره المبكّر على منظمّة التحرير الفلسطينيّة ومحاولات شقّ فصائلها وتدخّله في لبنان ضدّ الفلسطينيين والحركة الوطنيّة وما نجم عن ذلك من مجازر، ثمّ تقلّب تحالفاته هناك حسب ما تقتضيه مصلحة وجوده كنظام لا كدولة، ومن ثمّ انضوائه تحت لواء القيادة الأمريكيّة في معركة تحرير الكويت ومحاربة العراق.
إنّ قمعه للثورة السوريّة وتدمير سورية يدخل ضمن هذا المفهوم، وقد استغلّ هذا النظام تلك الثورة لتنفيذ مخطّط تدمير المخيمات الفلسطينيّة في سورية، وتهجير سكّانها وتشتيتهم بما يتلائم مع رؤيا الدول الكبرى وإسرائيل للحلّ النهائي للقضيّة الفلسطينيّة الذي يتطلّب إقصاء اللاجئين الفلسطينيّين وتمييع حقّ عودتهم وإبعادهم عن أيّ فائدة حلم بها حاملو وهم السلام، وهذا هو بيت القصيد تماماً في كلّ ما فعله ويفعله مع الفلسطينيّين السوريّين من تدمير وتهجير مخيّماتهم وتشتيت ثقلهم المجتمعي والثوري في سورية، فقد كان واضحاً منذ الأيّام الأولى لانطلاقة الثورة السوريّة أنّ النظام سعى للتأليب ضدّ الفلسطينيّين في مخيّمات الرمل ودرعا وبعد ذلك مخيّم اليرموك الذي عمل على تفريغه من سكّانه وتدميره قطعة قطعة ومن ثمّ تسهيل دخول داعش إليه والعمل على إفشال أيّ حلّ كان من الممكن أن يلوح في الأفق كما حصل في مناطق عدّة في دمشق وسورية.
كيف تفسر الموقف الفلسطيني الرسمي مما يحدث في سورية عموما ومما يلاقيه الفلسطينيون هناك خصوصا؟
والله إنّني أخجل من نفسي وينتابني القرف عندما أتحدّث عن هذه الهياكل الساقطة مثل منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة وفتح وباقي الفصائل، فالمنظّمة ماتت منذ وقت طويل بعد أن تمّ تفريغها من مهامها وأهدافها وسحب البساط من تحت أرجلها (التي لم تكن في أحسن أحوالها) لصالح السلطة الفلسطينيّة ومن ورائها حركة فتح بعد اتفاقيّة أوسلو، وهذه السلطة بدورها ليست أكثر من نظام قمعي يشبه بقيّة الأنظمة العربيّة ويتماهى معهم في كلّ شيء، بدءاً من التنسيق الأمني مع إسرائيل وتسليم وتصفية المطلوبين أمنيّاً، وليس انتهاءً بقمع أيّة حركة مطلبيّة في الضفة الغربيّة كما جرى مع إضراب المعلّمين العام الماضي، فليس غريباً ولا مستهجناً أن تقف الأنظمة مع بعضها البعض في مواجهة شعوبها، وليس من المألوف في شيء أن تتجاوز تلك الأنظمة خلافاتها السابقة من أجل تدعيم المحافظة على كراسي الحكم أو المصالح الماديّة فيما بينها، كما جرى إرضاء حركة فتح بإعادة بعض العقارات لها في دمشق مقابل تمييع موقفها من مأساة الفلسطينيّين السوريّين، وبرأيي أنّ الحركة والسلطة من خلفها حتّى لم تكن تحتاج لذلك، فهي تخلّت عن اللاجئين منذ زمن طويل ودون مقابل، مع أنّ الكثيرين من ناشطي المخيّمات وشهداء التعذيب في المعتقلات على أيدي النظام الأسدي كانوا ممّن ينتمون إلى حركة فتح وفصائل أخرى بالطبع، ولم تجرؤ تلك الفصائل على المطالبة بهم أحياءً أو أمواتاً للأسف، وهذا ما يدعونا لتسميتهم بشهداء المخيّمات أو شهداء الثورة السوريّة لا شهداء تلك الفصائل البائسة.
أعود إلى زيارتك الى فلسطين. اصطحبت معك أولادك الثلاثة وكان أصغرهم يبلغ 10 سنوات من العمر وهو من مواليد غلاسكو. ما الذي يربط الشجرة في فلسطين، بمخيم اليرموك في سورية بغلاسكو في سكوتلاندا؟
أخي جمال هذا موضوع يطول ويطول وشجونه كثيرة، فقد دأب أهلنا في الشتات على تلقيننا أسماء قرانا ومدننا التي انحدرنا منها في فلسطين منذ ما قبل تفتّح وعينا وتشكّل ذاكرتنا بطرق مباشرة وغير مباشرة، وذلك في محاولة لإبقاء تلك الأماكن حيّة في أرواحنا وقلوبنا مهما طال الزمن وابتعدت المسافات، بل أستطيع القول جازماً إنّنا شعب يمتلك ذاكرة تراكميّة نرثها عن أهلنا ونورّثها لأولادنا، بمعنى أنّ ذكريات أسلافنا التي لم نعشها فعليّاً تصبح جزءاً عزيزاً وحميماً من ذكرياتنا نحن كذلك وأولادنا من بعدنا وكأنّنا كنّا حاضرين فيها فعلاً، وهنا سأقول لك شيئاً قد يبدو غريباً: في اليوم التالي لوصولنا إلى فلسطين أخذني صديقي الذي كان يستضيفني وأولادي إلى قريتنا الشجرة في زيارة سريعة مخبراً إيّاي بأنّه لا يعرف معالم القرية على أن نعود لاحقاً بصحبة أحد من أقاربنا هناك الذين يعرفون تلك المعالم، وبعد أن اجتزنا المستعمرة الإسرائيليّة ووصلنا إلى أطلال قريتنا، وبعد أن دخلناها بأمتار قليلة طلبت منه أن يتوقّف لأنّني رأيت منظراً أعرفه وقلت له هنا عين بلدنا، وفعلاً توقّف وكانت عين الماء التي نزلنا إليها بدرج طويل، طبعاً صديقي استغرب جدّاً وسألني كيف عرفت ذلك، فقلت له إنّ المنظر الذي رأيناه محفور في ذهني منذ سنين بكلّ تفاصيله الصغيرة، ورغم أنّها زيارتي الأولى للشجرة فقد رأيت عين الماء تلك مراراً في كلّ حكاية كنت أسمعها من جدّي وجدّتي ووالدي ووالدتي.
أيضاً عندما هاجرت وأولادي إلى هذه البلاد التقينا بأناس من أبناء شعبنا في فلسطين الداخل والضفّة الغربيّة يعيشون هنا وكانوا يستغربون كيف أنّ أولادنا الصغار يعرفون عن قرى وبلدات فلسطين مثلهم وأكثر منهم أحياناً رغم ولادتهم في المخيّمات، وفي لحظة ولادة فارس هنا لم أستطع منع نفسي من البكاء لأنّنا كنّا ثلاثتنا غريبين في مشفى غريب في بلاد غريبة، فاحتضنته ولميس وأذّنت في أذنه اليمنى ناقلاً إليه بشغف ووجدٍ شديدين كلّ ما تراكم لديّ عن الشجرة ومخيّمي العائدين واليرموك، وعندما أخذته معي في زيارتين إلى دمشق وهو بعمر ست وسبع سنوات لم يكن يتكلّم العربيّة جيّداً وأخذ يرطن بالإنكليزيّة ذات اللهجة الغلاسكويّة بين أبناء عمومته ليوم أو يومين قبل أن ينطلق لسانه بالمفردات المخيّمجيّة ويبدأ بالتصرّف وكأنّه ابن مخيّم ولد في أزقّته وبين جدرانه، وأستطيع القول أنّ أولادي الثلاثة عرفوا عن الشجرة وفلسطين خلال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها هناك ما يعادل ما احتجت أنا لسنوات طوال لمعرفته، فارس الذي ولد بعيداً آلاف الأميال عن فلسطين بكى مرّتين هناك، مرّة عندما وقفنا فوق عين الشجرة حين قال: “يا ريت إمّي بعدها طيّبة وإجت معنا لهون”، والمرّة الثانية عندما رأى جدار الفصل العنصري قريباً من القدس، وكذلك أنا في كلّ القصائد التي كتبتها عن أحاسيسي أثناء تلك الزيارة كنت أستحضر مخيّمي العائدين واليرموك رابطاً إيّاهما مكانيّاً وزمانيّاً بالشجرة بالإضافة طبعاً لأماكن كثيرة عزيزة في سورية، وكذلك ببقعة غالية على قلبي في اسكوتلندا ألا وهي قبر لميس التي ولدت في مخيّم العائدين وعاشت في مخيّم اليرموك وأسلمت روحها في غلاسكو وهي تحلم بالعودة إلى الشجرة، فالخيوط الخفيّة والظاهرة التي تربط كلّ تلك الأماكن ببعضها كثيرة ووثيقة، أعرف بعضها وأتعرّف يوميّاً على بعضها الآخر.
هل كان هناك نوعا من التواصل المكثّف مع أهل فلسطين التاريخية سواء داخل الخط الأخضر أو في الضفة الغربية؟ كيف ينظرون إلى أحوال فلسطينيي المهجر وإليكم، أنتم القادمين بجوازات سفر أجنبية تحملون الكاميرات وذاكرة الأهل والأجداد وخرائط اللجوء؟
نعم أخي جمال، فقد كانت زيارتي أساساً بتشجيع من أصدقاء في فلسطين تعرّفت عليهم عن طريق النت والفيسبوك، وقد رحّبوا بي وبأولادي أجمل ترحيب واستضافونا بين أهلهم وفي بيوتهم بالإضافة إلى بعض أقاربي وأبناء قريتي الشجرة هناك، وهم جميعاً وبصراحة تدعو إلى الفخر في شوق شديد للتواصل معنا نحن لاجئي الشتات، ويرون فينا نصفهم الثاني المكمّل لوجودهم وصمودهم في الأرض المحتلّة، ولم ينظروا لنا أبداً كسيّاح عابرين، بل كأهل عائدين لاكتشاف أرضنا وبيوتنا المدمّرة وإعادة ما انقطع من روابط مع من بقي من أهلنا هناك، إضافة إلى أنّهم يتعاطفون ويتضامنون بشدّة مع مآسينا التي حصلت لنا بسبب الطغاة العرب وخصوصاً في مخيّمات سورية، وهذا نابع أساساً من مفهومهم العالي لوجودنا وكينونتنا كشعب واحد موزّع تحت احتلالات متنوّعة.
وأحبّ أن أضيف هنا بأنّني سعيد جدّا بما نقلته عن تلك الزيارة من معلومات وصور على صفحات الفيسبوك، وسعيد أكثر بطريقة تلّقي ذلك من قبل معظم الأصدقاء بشغفٍ كبير، ممّا شجّع بعضهم لزيارة فلسطين مؤخّرا، وأنا هنا أدعو كلّ الفلسطينيّين حاملي جوازات السفر الأجنبيّة ألاّ يتوانوا عن القيام بزيارات مماثلة لزيارتي، وقد أبلغني معظم من التقيت بهم هناك من أهلنا استعدادهم التام لاستقبال من يرغب من الإصدقاء وأخذهم بجولات إلى قراهم التي هجّر أهلهم منها، بالإضافة إلى كلّ مدن فلسطين.
لك كتاب مشترك نشر مع شاعرة اسكوتلندية بعنوان لافت “سجّادة من ألف لون” وهو عبارة عن قصائد مستوحاة من أركان الإسلام الخمسة. هذه فكرة غريبة بقدر ماهي مثيرة. حدّثنا بعض الشيء عن فكرة ومحتوى هذا الكتاب.
للحقيقة فإنّ صاحبة الفكرة هي الشاعرة الإسكوتلنديّة تيسا رانسفورد رحمها الله (توفّيت العام الماضي، وهي شاعرة كبيرة ومعروفة هنا ولها إسهامات عديدة ومشهودة في المشهد الثقافي في سكوتلندا، فهي مؤسّسة مكتبة الشعر الإسكوتلندي في إدنبرة وقد ترأّست لسنوات طويلة عدّة روابط وتجمّعات ثقافيّة وشعريّة هنا، وقد كانت منفتحة جدّاً على الثقافات الأخرى وخصوصاً الثقافة الإسلاميّة بسبب إقامتها لأعوام عديدة وهي طفلة في الهند (الباكستان لاحقاً) وكذلك بعد زواجها وهي شابّة في الباكستان
فكرة الكتاب كانت تتمحور حول إكتشاف المفاهيم المشتركة للعبادات في الديانتين الإسلاميّة والمسيحيّة وإسقاط ذلك على الممارسات اليوميّة والأخلاقيّة لأصحاب الديانتين، فالكتاب ليس دعوياً من ناحية ولم تكن من غاياته تفضيل إحدى الديانتين على الأخرى أو التقليل من شأن إحداهما على حساب الثانية، ويهدف أيضاً إلى جسر الهوّة وتدعيم العلاقات الإنسانيّة بين أصحاب الديانتين من خلال كتابة قصائد عن الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحجّ من وجهتي النظر الدينيّة المرتكزة على الفهم الشخصي مع التركيز على طبع تلك القصائد بالطابع الفردي لكل من الشاعرين، وإعطاء الحريّة للتعبير بشكل أوسع للمفهوم الشخصي والتجربة المعاشة لكلّ شاعر من خلال دينه لكلّ تلك الأركان أكثر من المفهوم الديني، فأنا مثلاً كتبت قصائدي على خلفيّة كوني مسلماً مرتكزاً بذلك على وجودي كلاجئ في هذه الحياة منذ ولدت، مسافراً في كلّ قصيدة بين مكاني لجوئي الأوّل والأخير واختلاف ممارساتي الدينيّة بين المخيّم وغلاسكو
فقد كتبنا القصائد بشكل منفصل ولم تكن كردود فعل على بعضها البعض، وترجمنا القصائد العربيّة إلى الإنكليزيّة وبالعكس، وكتبت تيسا مقدّمة عن رؤيتها للكتاب وعمليّة ترجمة القصائد وكذلك الترجمة بشكل عام، وأيضاً فعلت أنا الشيء نفسه، وقد ضمّنا الكتاب مقدّمة كتبها بروفيسور في الإعلام وخاتمة كتبتها بروفيسورة في الدراسات الإسلاميّة وكلاهما أسكوتلنديّان، ونشرناه كاملاً عن طريق دار نشر في إدنبرة بصفحات متقابلة باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة، بعنوان “سجّادة من ألف لون” “Rug of A Thousand Colour”، وبالمنسبة هذا العنوان هو مقطع من إحى قصائدي، وقد وجدت الفكرة والمجموعة صدىً طيّباً لدى القرّاء هنا من جميع الأطياف، وكُتبت عنه مراجعات نقديّة من قبل بعض المهتمّين تشيد بفكرته وتجربتينا معاً، وقمنا بعد ذلك بتنظيم أمسيات شعريّة لنشر الكتاب وتسويقه قرأنا فيها بعض القصائد أمام الجمهور الذي كان في معظمه اسكوتلنديّاً وخضنا معهم نقاشات مثمرة كان لها وقع جميل عند الجميع
أمّا عن العلاقة بين المهاجرين المسلمين والمجتمع الإسكوتلندي بمختلف أطيافه فهي علاقة طيّبة يسودها الودّ والإحترام، فالمجتمع الشعبي والرسمي هنا منفتح على الآخرين وثقافاتهم بشكل كبير ولا يتوانى أبداً عن مدّ يد المساعدة والتسهيلات للمهاجرين على إختلاف ثقافاتهم ودياناتهم، وأنا أرى أنّ من شأن تجربة كهذه أن تقرّب وجهات النظر بين الشرق والغرب من جهة، وكذلك بين أبناء البلد الواحد المنتمين إلى ثقافات متعدّدة أكثر بكثير ممّا يمكن أن تفعله الندوات السياسيّة ومؤتمرات حوار الأديان، ولذلك كنت أقدّم الكتاب إلى الجمهور بأنّه كتاب إنساني سياسي وليس كتاباً دينيّاً، ولست أبالغ في القول إذا أضفت أنّنا نحن الشعراء الأحقّ والأجدر بحكم هذا العالم
شاركت بنص مهم وطويل في كتاب “أوراق الزّعتر: شؤون فلسطينية في الثورة السورية” وتناولت فيه تجارب شعرية مختلفة لشعراء فلسطينيين شباب. كيف ترى الحركة الشعرية الشبابية الفلسطينية والسورية اليوم؟
نعم كان ذلك بعنوان (الشعر في مواجهة الموت – الثورة السوريّة في عيون شعراء فلسطينيّين سوريّين)، وهي مساهمة حاولت فيها استحضار نماذج من بعض النصوص لشعراء فلسطينيين سوريين من أجيال وتجارب مختلفة، لكلٍّ لغته الخاصّة وأسلوبه المميّز وطريقة مقاربته المتفرّدة شعريّاً للثورة بشكل عام، أو لبعض مفاصلها المحدّدة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، ملقياً الضوء على تلك المختارات بشكل توصيفي تعريفي شبه توثيقي لا علاقة له بالنقد أو التقييم، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّها كُتبت في ربيع العام 2014.
وأنا أرى أنّ الحركة الشعريّة الشبابيّة الفلسطينيّة والسوريّة تعيش مخاضاً جميلاً أسفر عن ولادة وتطوير أصوات جيّدة ما زالت تشتغل على أنفسها بدأب مستمر، وما كان ذلك ليحصل لو بقي المشهد السياسي راكداً في الوطن العربي، فالربيع العربي وما استتبعه من حرب على الثورات وخصوصاً الحرب الشرسة في سورية ومحنة التهجير واللجوء للكثيرين من الشعراء والانتشار في أوروبّا ودول العالم، كلّ ذلك سيبلور تلك التجارب ويفتح أمامها آفاقاً جديدة في النشر والترجمة إلى اللغات الأخرى ونقل الصورة الحقيقيّة لما حصل ويحصل في سورية، وهذا ما بدأنا نشهده فعلاً، وسوف أترك للنقّاد (الموضوعيّين) تقييم أي تجربة بعين الأدب فقط دون عين الثورة والسياسة، أمّا أنا فلا أستطيع الفصل بين الأدب والموقف السياسي، هكذا علّمني المخيّم يا عزيزي.
هذا ربما يحيلني الى سؤال قلق: هل تعتقد بوجود “لعنة محمود درويش” في الأعمال الشعرية الفلسطينية وغيرها؟ هل نحن بحاجة إلى عملية انعتاق من “السحر الدرويشي” في التراث الشعري الفلسطيني المعاصر؟
نعم أعتقد ذلك وبشدّة، فتجربة محمود درويش الشعريّة بكلّ أطوارها ما تزال تسيطر بشكل كبير على المشهد الشعري العربي والفلسطيني، وخصوصاً على عدد لا بأس به من الشعراء الفلسطينيّين بمختلف أجيالهم في نموذجين: الأوّل لم يستطع تطوير أدواته الشعريّة واكتساب لغته الخاصّة وبالتالي فإنّه ما زال يدور ضمن الحالة الدرويشيّة رغم إنكاره ذلك ومحاولاته الحثيثة للخروج منها، والثاني يتعمّد تقليد درويش والمبالغة في استحضار لغته وصوره لإثبات أنّه لا يقلّ شعريّة عنه، وفي الحالتين مقتل للشاعر، ولكن في المقابل لدينا أسماء في الشعر الفلسطيني تجاوزت الهالة الدرويشيّة وكوّنت أسلوبها الشعري الخاص والمتميّز بها كغسّان زقطان مثلاً، ولا شكّ أنّ ذلك الانعتاق جيّد ومطلوب لتطوير وتثبيت رؤى مختلفة وخطوط متنوّعة تضمن فرض الشعر الفلسطيني في المشهد الشعري العربي العام.
هناك فروق كبيرة وواضحة بين المخيّمات والتجمّعات الفلسطينية في سورية فيما يخص الثورة وكذلك التدمير. كيف يمكن فهم هذه الفروق بين “مخيم النيرب” و”مخيم خان الشيح”، بين تجربة “مخيّم الرمل” في اللاذقية ومخيّم درعا جنوباً؟ هل بتنا أمام لوحات فلسطينية متنوّعة أو أن هذا يعكس اللوحة السورية الأعم؟
هي لا شكّ لوحات فلسطينيّة متنوّعة تتداخل فيها انعكاسات اللوحة السوريّة بشكل عام، فزخم الثورة السوريّة وتفاعلات المخيّمات الفلسطينيّة معه وقع تحت عوامل كثيرة من جهة الروح الثوريّة الملتهبة فيها أو من جهة شراسة القمع ضدّها والدمار الذي لحقها، أهمّها قرب تلك المخيّمات من المناطق الثائرة تباعاً، بالإضافة إلى مدى تصالح تلك المخيّمات مع محيطها السوري، علاوةً على التداخل الديموغرافي والجغرافي بينها وبين جوارها، فنجد أنّ أوّل المخيّمات التي تأثّرت بالثورة كانت مخيّم درعا ومخيّم الرمل في اللاذقية، ففي حين تمّ إخماد الحالة الثوريّة في اللاذقية بخسائر قليلة نسبيّاً في بداية الثورة إلاّ أن مخيّم درعا شهد وما زال يشهد تدميراً كبيراً متساوقاً في الوقت ذاته مع محيطه. أيضاً مخيّم العائدين في حمص شهد مدّاً ثوريّاً في البداية تمّ قمعه وتجاوزه ببعض التفاهمات غير المعلنة مع النظام ولكن للآن يوجد معتقلون من المخيّم ولا تزال حركة الاعتقالات المتفرّقة مستمرّة بين أبنائه رغم هدوء المناطق المجاورة له، كذلك مخيّم اليرموك، أمّا مخيّم خان الشيح وهو المخيّم الأقرب إلى فلسطين فما زال يشهد قصفاً وتدميراً وقتلاً لأبنائه بواسطة الصواريخ والطائرات الروسيّة، وقد يكون مخيّم النيرب في حلب هو المخيّم الوحيد الذي يشهد سطوةً لشبّيحة لواء القدس فيه، وأعتقد أنّ ذلك يعود لتمكّنهم من ترتيب نفوذهم في المخيّم بسبب تأخّر انتقال اللهيب الثوري إلى مدينة حلب، وبالآخر لا يمكن فصل حال المخيّمات الفلسطينيّة في سورية عن الحالة السوريّة كلّها بكلّ توافقاتها وتبايناتها.
هذه المقابلة سوف تنشر في مجلة “رمان” الصادرة عن “بوّابة اللّاجئين الفلسطينيين”. هل تعتقد بأن مشروع إعادة إحياء “قضية اللاجئين” بنفس شبابي مختلف جدير بالإهتمام؟
نعم بالتأكيد، أعتقد أنّ الأوان قد آن ليتصدّر اللاجئون الشباب الذين رضعوا حقّ العودة من أسلافهم الذين رحلوا وعيونهم على فلسطين، أو الذين ما زالوا يصارعون هذه الحياة وقد أنهكتهم الخيبات المتلاحقة في المشهد السياسي الفلسطيني، وأرى أنّ الشباب الآن يجب أن يتصدّوا لكلّ محاولات شطبهم البعيدة والقريبة بما فيها تلك التي عملت عليها بدأب الفصائل الفلسطينيّة الهرمة، لمعاودة إحياء القضيّة بنفس شبابي جديد لا يكلّ ولا يمل.
ولا شكّ أنّ للشتات الفلسطيني المتواصل بزخمه الجديد في أوروبّا وبقيّة دول العالم دوره الكبير في ذلك، إذ تعدّت فلسطين وأحلام العودة إليها كلّ الحدود والعقبات الجغرافيّة بتوزّع مزيد من اللاجئين في العالم حاملين معهم أدبهم وفنّهم وإصرارهم على البقاء، وأعتقد أنّ هذا الموقع والمواقع المماثلة سوف تلعب دوراً مشهوداً بذلك، استناداً على ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي التي سوف تزيد من التحام الفلسطينيّين المؤمنين بكامل فلسطين في مجتمعاتهم الجديدة، معوّلين في الأوّل والآخر على إيمانهم الثابت بحقّ العودة الذي لا حياد عنه أبداً مهما تكالبت علينا الظروف.