أجرت رمّان هذه المقابلة مع الكاتبة وطبيبة العيون السورية هيفاء بيطار، والتي تناولت المسألة السورية ثورةً ومجتمعاً وأدباً وثقافة. أخبرتنا فيها، من مكان إقامتها المؤقت في باريس، عن تجربتها الشخصية في كل ذلك.
إلى أي مدى ساعدك عملك كطبيبة عيون في مجال الكتابة؟
حين قررت أن أكون كاتبة شعرت بشيء من الحسرة والخيبة إذ اعتقدت أنني لو كنت قد درست الفلسفة أو الأدب لكان أفضل لي ككاتبة، لكنني سرعان ما نقضت هذا المفهوم، وبلا مبالغة، أنجح تزاوج في العالم هو زواج الطب والكتابة، فكليهما موضوعهما الإنسان، المريض يحكي وجع روحه للطبيب وأسراره، كان هؤلاء المرضى أو العاملون في المجال الطبي يدخلون إلى معملي الداخلي ويخرجون قصصًا، ولا أنسى قصة الطفل المُعاق الذي ألهمني كتابة قصة “يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش” والذي صار عنوان جمعية المعاقين في دمشق، كذلك قصة “دموع الشيطان”، وقصة “حبيبي المُعاق” إلى ما هنالك، كل هؤلاء قدموا لي قصصهم لتتحول إلى كتابة وأنا مدينة لهم، وفعلًا صرت أمارس الطب بعين كاتبة وأمارس الكتابة بموضوعية طبيب، ولم أجد نفسي على الإطلاق أبحث عن موضوع للكتابة، فكل هؤلاء الناس الأحباء حولي كانوا من حيث لا يدرون منابعاً لكتاباتي. وخاصة أنني كنت أعمل صباحًا في المشفى الوطني في اللاذقية أي أنني على تماس مع قاع المدينة ومع طبقة الفقراء والبسطاء عامة.
“نسر بجناح وحيد” و”هوى” روايتان من وحي عملك كطبيبة. إلى أي مدى تشعرين، بعد سنوات طويلة من الكتابة، بانسجام بين حياتك المهنية وكتاباتك؟
لقد عملت حوالي ربع قرن طبيبة عيون في المشفى الوطني وفي عيادتي الخاصة، وكما سبق أن ذكرت كنت أمارس الطب بعين كاتبة وأمارس الكتابة بموضوعية طبيب، وطوال ربع القرن هذا كانت روحي مسرحًا لشتى أنواع المشاعر والأحاسيس وكان عقلي بدوره يرصد أشكال الفساد الفظيع في المشفى وخاصة لدى المسؤولين ولجان الشراء إلخ، والمشفى عينة مُصغرة من سوريا، وكانت شلة من الفاسدين تسرق المال العام، لدرجة أن لا أحد يخفى عليه أن إثنين من مدراء الصحة انتهى أمر أحدهما بالهرب من البلاد والثاني بالسجن، الأول ظل مديرًا حوالي 23 سنة! (أي إلى الأبد تقريبًا) وخرج بفضيحة فساد لكن للأسف لم تتم محاسبته بل فر إلى لندن. أما الآخر الذي أتى بعده فقد بلغت سرقاته من المال العام للمشفى (أي أدوية الفقراء والأجهزة الطبية) حوالي المليار ليرة سورية، وسُجن بضعة أشهر دفع خلالها رشوة بضعة ملايين وخرج من السجن. كتبت عن هؤلاء في روايتي “نسر بجناح وحيد” و “هوى” وأظن أن الروايتين وخاصة بعد زمن يُمكن إعتبارهما روايتين توثيقيتين ليس لما يحصل في المشفى الوطني في اللاذقية بل في سوريا كلها. ولا أخفيكم أنني أحمل دومًا في حقيبتي دفترًا وقلمًا لأسجل معلومات ومواقف تحصل أمامي في المشفى أخاف أن أنساها. لقد عشت قمة الانسجام بين الطبيبة والكاتبة، واحترمت كل منهما الأخرى لأن لهما الهدف نفسه وهو التعبير عن الإنسان. ولأنني ككاتبة وكطبيبة أؤمن أن الكلمة شرف ويجب أن أمتلك شجاعة البوح وشجاعة المواقف الحرة والكريمة وأنا جاهزة لدفع الثمن.
كتابك “وجوه من الثورة السورية” الذي وثقتِ فيه شهادات سوريين بالأسماء الحقيقية، والصادر مؤخرًا عن “دار الساقي”، كيف تقدمينه للقارئ؟
“وجوه من الثورة السورية” كتاب يمكن اعتباره قصصًا توثيقية لأشخاص التقيتهم بعد بداية الثورة السورية، ولأول مرة أترك أسماء الأشخاص كما هي، من (اسماعيل زرطيط) الذي مات تحت التعذيب في معتقلات النظام إلى (إياد) المهندس الذي ألحقوه عنوة عنه بالجيش السوري فقتلته العصابات الإرهابية، إلى (أم كفاح) الخادمة في البيوت والتي مات إبنها الجندي السوري ذبحًا من قبل جماعات إرهابية، إلى (هلال) الشابة النازحة من حلب… إلخ. “وجوه من الثورة السورية” كتاب مهم جدًا بالنسبة لي لأنني أرفض –وبألم شديد– أن يتحول القتلى السوريون إلى أرقام.
الكتابة التوثيقية مهمة جدًا في زمن الحروب شرط ألا تفقد جماليتها وحسها الأدبي وإلا تحولت إلى مقال صحفي أو تقرير صحفي.
كيف يمكن للكاتب أن يوفر لنصه مساحة الحرية اللازمة لإنتاج نص ينتصر لثقافة الحياة والحرية، في الزمن السوري الجديد حيث الاستبداد السياسي من ناحية والديني من ناحية أخرى؟
لا يمكن تجزئة الاستبداد برأيي فالاستبداد الديني يترافق عادة مع الإستبداد السياسي ومصالحهما مشتركة، وأعتقد أنني نجحت في التوفيق بنقدهما ليس فقط من خلال القصص والروايات التي كتبتها بل من خلال عشرات المقالات التي نشرتها في صحف عديدة، ولا مجال لذكرها الآن إذ يستطيع أي راغب أن يجدها على غوغل. مثلًا مقالي “الشاحنة” الذي أحكي فيه عن شاحنة طافحة بجثث شبان قتلى (رأيتها بعيني في اللاذقية) والجثث مكشوفة جابت شوارع اللاذقية وجمهور من الكبار وخاصة الصغار يتفرجون عليها وكان المنظر رهيبًا ومُقززًا ويتفوق على أفظع أفلام الرعب، هذه الشاحنة كتبت عنها وكانت غاية الدولة ترهيب الناس من مصير من يقف ضدها. لا يمكن اعتبار هذا المقال سياسيًا فقط بل يتخذ أبعادًا طائفية أيضًا، وكذلك مقالي مثلًا “من يمثل الشعب السوري؟” بينت فيه أن لا النظام يمثله ولا هكذا معارضة، خاصة المعارضة الأصولية المتشددة، تمثله، وبأن الشعب السوري أعزل في ثورته ولا أحد يمثله. وبرأيي كل كتابة صادقة في تحليل الوضع الذي نعيشه هي كتابة شمولية أي تجمع بين السياسي والإجتماعي والديني والفكري إلخ. لأن الحياة لا تتجزأ.
كشف المستور والحديث عن المسكوت عنه أو كسر ما عرف بـ”التابوهات”، هل هي ثيمات (موضوعات) فكرية تتوارى خلف بنائك الروائي؟
يقول ألبير كامو: “الكتابة شرف”، وأنا أؤمن تمامًا بهذه الكلمة، فالكتابة رسالة واستقراء للمستقبل، والكتابة الحقة هي الكتابة الشجاعة التي تعري حياتنا وتقلقل البحيرة الراكدة من الأفكار والقناعات التي نعيش ضمنها، لا معنى لأي كتابة إن لم تحرض الأسئلة والقلق لدى القارئ، إن لم تجعل القارئ شريكًا للكاتب في طرح الأسئلة وتغيير ما بنفسه نحو الأفضل طبعًا، أعترف أنني تلميذة دوستويفسكي وبأنه أثر بي كثيرًا وأعتبره مؤسس علم النفس. بالتاكيد ليست وظيفة الكتابة التغني بالربيع، بل تعرية حياة الناس، وثمة مصطلح طبي أترجمه (بالرؤية المُسبقة) أي على الكاتب أن يتمتع بالقدرة على استقراء الواقع وتحليله ليساعد القارئ كي يفكر ويغير حياته نحو الأفضل. الكتابة برأيي عمل شجاع حتى حدود المخاطرة والتضحية بالحياة من أجل كلمة الحق.
كيف استقبلت ثورة شعبك في منتصف آذار/مارس 2011؟
بدون مبالغة وإدعاء شعرت في منتصف آذار/ مارس 2011 بأنني أولد من جديد، كانت سوريا فعلًا أشبه بجثة، الكل مذعور وخائف ويتحدث همسًا ويخاف من ظله وكان شعار تربية الأهل لأولادهم (الحيط الحيط ويا رب السترة) معمماً، حين وجدت شريحة من الشباب السوريين يكتبون على لافتات قماشية عبارات رائعة تجسد الكرامة والحرية أحسست أن حلمي يتحقق، كانوا بسيطين ورائعين والأهم غير خائفين، وحين سمعت هتافاتهم كان قلبي يختلج فرحًا، لم أتوقع أن أرى هذا المشهد في اللاذقية ولا أن أتفرج على ما تعرضه الفضائيات من مظاهرات سلمية ترفع شعارات (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد). في سورية نملك كل مقومات الثورة: من استبداد الأجهزة الأمنية إلى مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين اعتُقل بعضهم لأنه صور مظاهرة سلمية بالموبايل، إلى فساد القضاء المخزي، والفساد بكل أنواعه، إذن كل مقومات الثورة موجودة في سوريا، فلم لا ينتفض الشعب! لكن للأسف تم سرقة هذه الثورة وتشويهها وحرفها عن مسارها الأصلي. وهذا موضوع آخر. لكنني وبكل صدق وبراءة أقول بأن الثورة السورية خلقتني من جديد وعلمتني الكتابة الحقة واحتقار الخوف والقرف منه.
ما الذي كسر لديكِ جدار الصمت والخوف؟ وماذا تعني لك لحظة الكتابة تحت وطأة الزلزال الذي يعصف بسوريا؟
لا أدعي البطولة أبدًا فأنا بالنتيجة إنسانة سورية أعيش في سوريا التي تحكم أجهزة الأمن فيها قبضتها على كل الناس، لدرجة أشعر وأنا أكتب أن ثمة عنصر مخابرات صغير مزروعًا في دماغي، لكنني وبكل نزاهة (وخاصة بعد أن سافرت إبنتي الوحيدة خارج سوريا) أصابتني حالة من القرف من الخوف، الموت السهل لدرجة فظيعة حولي، الشبان يموتون كفراشات تحترق بالنور، فكرت أنني لا أريد أن أموت وأنا خائفة من الأمن رغم إزعاجاتهم لي ومنعي من السفر، ولا أخفيكم أنني طالما كتبت مقالات وما أن كبست على زر إرسال حتى سالت دموعي خوفًا، أخصّ منها مقالي “مؤامرة بندر بن سلطان” إذ أقامت إدارة المشفى الوطني بمسرحية هزلية بحرق أكوام من حبوب الهلوسة أرسلتها لها قناة الجزيرة! وتمت المسرحية بحضور كل العاملين والمرضى في المشفى، ووجدنا أكياسًا كبيرة مكتوب عليها بالأحمر العريض قناة الجزيرة، بقيت ألجم نفسي من كتابة تلك الحادثة المروعة سنتين حتى كتبتها ونشرتها وراهن الكثير من أصدقائي أنني لن أعود إلى سوريا بعد كتابة هذا المقال. ثم أتبعته بمقال “مُتهم حتى يثبت العكس” الذي نشر في صحيفة “الحياة” وفيه حكيت عن نفسية المواطن السوري المُروع سلفًا من الأجهزة الأمنية، والذي يشعر بأن عليه أن يقدم براءة ذمة يومية بأنه غير متهم.
صارت حياتي ويومياتي عبارة عن لعبة لَي ذراع الخوف كل يوم وها أنا مستمرة ولا أعرف إلى أين أصل. لكنني سعيدة أنني إنتصرت على الخوف أو على الأقل قرفت منه.. الكتابة هي الجرأة على قول “لا” حين ينتظر منك الجميع أن تقول “نعم”.
نعود للحديث عن روايتك “هوى”، فرغم أنها حُولت إلى فيلم من إنتاج “المؤسسة العامة للسينما” التابعة للقطاع العام، وعُرض في مهرجانات عدة، إلا أن عرضه عُّلق في سوريا دون إبداء أسباب ذلك من قبل وزارة الثقافة. ما الأسباب برأيك؟
هذا هو اللغز المُحير! لماذا لم يُعرض فيلم «هوى» في سوريا مع أنه عرض في دول عديدة ونال تقديرًا عاليًا، وخاصة أن المؤسسة العامة للسينما هي من اشترت مني حقوق الفيلم بهدف إنشاء أفلام سورية جيدة مثل القفزة الرائعة التي حققتها المسلسلات السورية، كان السيد محمد الأحمد مديرًا للمؤسسة العامة للسينما وأظن أنه اختار أيضًا رواية “موزاييك” لفواز حداد لتصير فيلمًا أيضًا.
في سوريا لا يمكنك أن تفهم شيئًا ولا أن تعرف شيئًا، تصور أنا نفسي كاتبة الرواية لم أر روايتي فيلمًا وحين اتصلت بالسيد محمد الأحمد (وزير الثقافة في سورية اليوم) وطلبت منه نسخة من الفيلم لأحضره، قال لي: “غير مسموح إرسال نسخة لي إلا بعد العرض الأول للفيلم”، فسألته: ولم لا يُعرض في سوريا فقال بأن الجواب ليس عنده! فسألته: عند من الجواب قال “لا أعرف، ربما عند وزير الإعلام”، فاتصلت بوزير الإعلام الذي كرر العبارة ذاتها بأن الجواب ليس عنده، وهكذا فالحياة في سوريا تشبه قصة إبريق الزيت، وأخذ المقربون مني يخمنون بأن السبب قد يكون بأن المخرجة واحة الراهب مُعارضة وبأن كاتب السيناريو هو رياض نعسان آغا الذي ظل أربعين عامًا المستشار السياسي للرئيس حافظ الأسد ثم وزيرًا للثقافة إلى أن انقلب ضد النظام! ولكن بعض المقربين لم يعجبهم هذا التحليل فقالوا بأن “بطلة الفيلم موالية حتى العظم للنظام” وهي سلاف فواخرجي. وهكذا كما يُقال ضاعت الطاسة. وقد كتبت مقالات عديدة في الصحف كـ «السفير» و «العربي الجديد» أتساءل فيها لماذا لم يُعرض فيلمي «هوى» لكن لم تؤثر كتاباتي بشيء. هذه هي سوريا بلاد الصمت والمواربة وعدم احترام الإنسان.
في سورية نملك كل مقومات الثورة: من استبداد الأجهزة الأمنية إلى مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين اعتُقل بعضهم لأنه صور مظاهرة سلمية بالموبايل، إلى فساد القضاء المخزي، والفساد بكل أنواعه، إذن كل مقومات الثورة موجودة في سوريا، فلم لا ينتفض الشعب! لكن للأسف تم سرقة هذه الثورة وتشويهها وحرفها عن مسارها الأصلي. وهذا موضوع آخر. لكنني وبكل صدق وبراءة أقول بأن الثورة السورية خلقتني من جديد وعلمتني الكتابة الحقة واحتقار الخوف والقرف منه.
هل ارتقى الأدب السوري إلى مستوى هذه الكارثة الإنسانية والاجتماعية والعمرانية في سوريا؟
لم يرتق الأدب السوري على الإطلاق إلى مستوى الكارثة الإنسانية، ربما لأنها مُروعة ويصعب إحاطة كل جوانبها وربما لأننا لا نزال في قلبها ولم تنته بعد، لكنني أثمن جهود الصديقين خالد خليفة وفواز حداد في الكتابة عن معاناة السوريين والحرب السورية القذرة رغم عدم اتفاقي معهما في كثير من الأمور. لكن العار الأكبر هو هؤلاء الكتاب المُقاولون والمحتالون والذين أرادوا أن يبنوا شهرة على حساب الدم السوري بالأعمال التافهة الرديئة التي كتبوها والتي طبعتها لهم بعض المجلات الثقافية بحكم علاقات شخصية، هؤلاء الكتاب الذين لم أجد تسمية تليق بهم أكثر من الكتاب المُقاولين الذين اعتقدوا أنهم قد يخدعوا شعبًا عظيمًا كشعب سوريا بكتاباتهم المنافقة، ولكنهم للأسف حلقة من حلقات الفساد الثقافي، ثمة عهر وفساد ثقافي مرعب في الوسط الأدبي العربي، من الترويج لكتّاب وكتب لا يستحقون واحد بالمئة من تلك الحفاوة وتكريسهم إعلاميًا لأسباب لا أعرف تحديدًا ما هي، والسخاء عليهم بالجوائز. بينما شريحة موهوبة وعظيمة من الكتّاب يتم التعتيم عليها. وأتمنى لو يكون هناك قضاءً نزيهًا مُختصًا في مساءلة ومحاربة هذا الفساد الثقافي. أحد هؤلاء الكتّاب السوريين طبعت له إحدى الدوريات الثقافية (والتي أقفلت الآن والحمد لله) ثلاث روايات كل رواية هزيلة أكثر من التي قبلها ومع ذلك ثمة من يصفق له ويطبل ويزمر له ولا توجد دعوة أدبية إلا ويتصدرها! وهذا مجرد مثال، فهل هذا المقاول اللاأخلاقي يحس بالشعب السوري وقادرًا على التعبير عنه! وعلى فكرة يُحكى عنه قصة موثقة أنه ذات يوم وقبل بداية الثورة السورية بسنوات تغدى في منزل المعارض رياض الترك وتعشى في فرع أمن الدولة. هذه الطفيليات يجب إبادتها أي إخراسها ومحاكمتها ومحاكمة من يروج لها.
كيف ترين كروائية مستقبل بلدكِ بعد كل هذه الدماء والمآسي اليومية؟ وإلى أين نحن ماضون برأيك؟
ليتني أستطيع أن أستقرئ مستقبل وطني الحبيب سورية وأحبائي السوريين الذين صاروا كالغجر، منتشرين في كل أصقاع العالم، كلما فكرت بمستقبل بلدي على ضوء هذا الحاضر الوحشي في الإجرام أحس بطعنة في قلبي. لم تبق دولة عظمى أو غير عظمى أو خادمة لمصالح الدول العظمى، ولم تبق جماعة إرهابية ومتطرفة ومرتزقة إلا وتدخلوا في سوريا والكل يساهم في تدمير سوريا وقتل السوريين ونزوحهم، أمام هذا الواقع يصعب التفاؤل، والبعض يحكي عن التقسيم كما حدث في دول عربية عديدة كالسودان مثلًا والعراق حيث أصبحت أربيل كدولة مستقلة، منذ أيام كنت مع شلة من الأصدقاء في باريس وأكد أحدهم وهو كاتب ومحلل سياسي معروف أن أميركا وموسكو متفقتان تمامًا من ناحية سوريا وبأن أميركا قررت إعطاء حلب لروسيا! حين أسمع هكذا حديث أتساءل أين هم السوريون من تقرير مصيرهم، ومع ذلك أنتظر معجزة ما، عسى موازين القوى تنقلب، عسى يستيقظ ضمير العالم ويُنصف السوريين. لكنني بكل أسف لا أرى أي سبب يدعو حاليًا للتفاؤل وإنهاء الأزمة.
كيف ترين واقع الرواية العربية اليوم. وماذا عن واقع الرواية السورية بعد ما يقارب الست سنوات من المقتلة الكبرى التي يعيشها السوري؟
من خلال الروايات التي قرأتها -وطبعًا لا يتسع وقتي لقراءة كل الروايات- أجد بحياد تام أن مستوى تلك الروايات متوسط، لم أجد رواية أدهشتني، ثمة الكثير من الحشو الكلامي والإغراق في التفاصيل الذي لا يخدم النص، كما لو أن الغاية تطويل العمل، لا يمكنني مثلًا أن أقبل أن تصف روائية قبلة بست صفحات! هذا ليس إبداعًا بل سقوط متعمد في غواية اللغة، لأن الكاتب الذكي الذي يحترم كتابته يكون حريصًا ألا يسقط في غواية اللغة والاسترسال، كما أنني أتعجب من سطوة الإعلام والمسؤولين عن الجوائز الأدبية وترويج بعض الكتاب، وصدقًا لا أظن هؤلاء الكتاب يستحقون كل تلك الحفاوة والتقدير وبعضهم حصل على أكثر من جائزة يسيل لها اللعاب في السنة ذاتها! وأقول بصراحة إنني أجد كتابته مملة ولم أستطع أن أكمل له عملًا واحدًا، كما ألاحظ أن هناك تكريساً للوسط أي لهؤلاء الكتّاب أصحاب الموهبة المتوسطة، أما المبدعون جدًا فثمة تغييب عنهم وأظنه تغييب مقصود، ثمة أسماء تُكرس وتُفرض على القارئ، وتُحاط بهالة أقرب إلى القدسية وهؤلاء هم أصحاب الموهبة المتوسطة، لماذا هذا الفساد واللؤم الثقافي؟ لا أعلم، لكن كما لو أن هنالك إرادة خفية بأن لا يصل الأدب العربي بوجهه المشرف المشرق إلى العالمية التي يستحقها وأن تظل الأعمال المدهشة عالية الإبداع في الظل. ربما هنالك نوعاً من الغيرة الأدبية. أو مصالح متشابكة لا أستبعد أن تدخل فيها السياسة.
أخيرًا، ما هي مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
أكتب حاليًا رواية عن المأساة السورية لم أنجزها بعد. لكنني أفضل عدم التحدث عنها. يكفي أن أقول بأنني راضية عنها وبأنها مختلفة عن كل ما كُتب عن الثورة السورية.