بين مخيم خان الشيح في دمشق ومدينة هامبورغ الألمانية، يقف الشاعر الفلسطيني رائد وحش حاملاً نصوصاً يملؤها الغياب. تقفُ متأملةً ذاكرة عنيفة تعبق بالموت. تنتقل وصاحبها القلق في رحلة مكوكية لا تستكين إلى مكان أو زمان. وتلتقي بقارئها ماشيةً وتفترق عنه كذلك. عن المخيم والشعر وديوانه الأخير كان لرمان هذا الحوار معه:
يحضر دائمًا في نصك مُخاطَب مغيَّب، في السجن، أو في الحرب، أو ميّت، بمَ تفسر هذا الحضور الدائم لشخصيات كهذه في ديوانك الأخير؟
كنتُ أتمنّى لو أنّ الغيابَ لعبة أدبيّة، يصنعها الخيال ويمنحها ما تحتاجه من دلالاتٍ، لكنّه، مع الأسف، مصيرٌ لشعبٍ كامل، فقد حكمت علينا مآلات الوضع السوري بأن ننتهي إلى غائبين يحملون أسماءً متعدّدة؛ مقتولين ومفقودين ومعتقلين ومخطوفين ومهاجرين… إلخ.
بمعاينةٍ سريعةٍ، تستطيع التأكّد من أننا كلنّا غائبون، ربما حتّى عن أنفسنا، فكمُّ الخسارات التي ترتّبت علينا وضعتنا في مواجهةِ أشكالٍ مضاعفةٍ من الموت. لا أتحدّث عن الموت المادي فقد يكون أهون الشرور. ما نعيشه موتٌ مركّب بشكل سرياليّ، يُصعب فهمه في بعض الأحيان. ماتت الكثير من الأشياء والأحلام والرغبات، منذ انكسار حلم الحرية وصولًا إلى الدمار الذي نزل على رؤوسنا. ماتت شخصياتنا القديمة الحالمة من شدة الخوف من الاعتقال، ومن أهوال الحصار، ومن رحلات اللجوء، التي بدت قياميّة الطابع في بعض الأحيان، كما لو أنها العبور في الموت الذي تحدّثت عنه الأساطير والأديان.
معايشة الموت قتلت الكثير منا، وجعلت الغياب يحتلّ مساحات الحضور كلها. هكذا يمكن أن أقول لك، إنّه من كلّ ما مات فينا، ومن كل من مات منّا، كان الغياب ينمو ويكبر ويزدهر كما لو أنه إنجازٌ يستحق المفاخرة. لعلّ هذا الغائب الذي تخاطبه هذه النصوص هو حصيلة كل هذا.
تلك هي الخلفية العامة لما فكّرت به، ولمِا راودني أثناء كتابة الجزء المعنون بـ”من الغائبين إلى الغائبين”، الذي يحيل إلى غيابٍ مزدوج كما ترى، لكنّ انطلاقتي الأولى بدأتْ بمخاطبة أخي محمّد، الذي فقدتُه في سجون نظام الأسد. إلاّ أن تراكم الأسى والكوابيس جعل محاورة الأخ الغائب تذهب إلى محاورة الغياب ككلّ، كمطلق، وبالتالي البحث عن تجلياته، ورسم مشاهده.
“سأقطع المحيط سباحةً/ وكلي ثقة أن الحب موصلي إليكِ/ وحين أتعب سيمشيني على الماء”، بهذا افتتحت ديوانك الثاني “لا أحد يحلم كأحد” الصادر في 2008. بالنظر إلى رحلة اللجوء، هل استحالت أحلامنا تلك إلى ترف في زمن قطع البحر لجوءًا، لا حبًا؟
لكلّ نصٍّ حياته الخاصّة والمستقلّة عن النصوص الأخرى التي يكتبها الشخص ذاته. يتعلّق الأمر بظرف وسياق الكتابة. على سبيل المثال؛ ابن الروميّ، صاحب إحدى عيون الرثاء في الشعر العربي، لديه قصائد ذات طابع كاريكاتوريّ. لا أرى أن تراجيدية تلك تُنقص من كوميدية هذه.
ثمّ إن الكتابة عن الترف، أو حتى بترف، ليست مذمّة على الإطلاق. لا ينبغي على القصائد الانشغال بمواضيع الجوع والفقر كمواضيع وحيدة لا شريك لها. أظنّ أن الكتابة لا تقوم على موضوع معيّن كالسجون أو الحبّ أو الصداقة، بل هي تركيبٌ من مواضيع وهلوسات وأخيلة وفلسفة. إذا كانت الكتابة موضوعًا فقط فعلى الأرجح أن تقريرًا لمنظمة مثل “هيومن رايتس ووتش” سيكون نموذجًا أدبيًا ساحقًا. ما يهمنا هو ذلك الامتزاج بين اللغة والأسلوب والأفكار والمعاني، سواء كان النص عن العبودية، أم عن نادي أغنياء العالم.
وفيما يخص النقطة المتعلقة بالمقارنة بين قطع البحر لأجل اللجوء والنجاة، وبين قطعه لأجل الحبّ، فأشمّ رائحة كراهية للبحر. كأن البحر بعد غرق اللاجئين فيه فقد مكانته واحترامه وجمالياته! ليست مشكلة البحر أن هناك لاجئين غرقى، كما أنّها ليست مشكلة الغابة أن هناك ضائعين فيها. تلك مشكلة سياسية، المُدان فيها من أوصل الناس إلى الغرق في البحار، وإلى الضياع في الغابات بسبب مافيات التهريب.
كلما جالستُ أحد زملاء اللجوء، ولمستُ لديه عقدة من البحر، أدعوه إلى إعادة بناء علاقته معه من جديد. البحر ليس وحشًا، الوحوش هم من ألقوك إليه. يجدر بالبحر أن يكون سببًا للحياة والمتعة، لا سببًا للكراهية. هل يجب أن نلوم سوريا لأنها شهدت ولادة سلالة الأسد؟ ذلك هو السؤال.
بداية بـ”لا أحد يحلم كأحد”، ونهاية بـ”مشاة نلتقي.. مشاة نفترق”؛ تحتل الكلمات الدخيلة والمعرّبة المرتبطة بالتطور التكنولوجي (الموبايل، فيس بوك، ماسنجر… إلخ) مكانا واسعًا في نص رائد وحش، ألا تخشى من أثر هذه الألفاظ المحدثة على أصالة لغة نصك؟
بالعكس تمامًا، اللغة تغتني بكلِّ جديدٍ يدخلها، لن تؤثر مفردة هنا أو هناك ببنية اللغة ككل. كل لغات العالم لديها كلمات دخيلة، وكل لغة تحاول أن تعطي تلك الكلمات نكهتها. كم أحب الأفعال الجديدة مثل: أفسبك (من ممارسة الفيسبوك)، وأفرود (من إعادة توجيه الرسالة). ربما تصلح ما تسميه بالكلمات الدخيلة أن تكون لغة بحدّ ذاتها، فالبشر في كل لغات العالم يعرفونها، ويمكنك أن تستعملها معهم لتحقيق تواصل بسيط. هل هناك في الكرة الأرضية من لا يفهم كلمات مثل “كمبيوتر” و”موبايل” و”لايك”.. وسواها؟
أعتقد أن الجريمة النكراء التي تُرتكب بحقّ اللغة العربية هي الجهل بقواعدها. يقرأ المرء يوميًا عشرات الأشياء المكتوبة في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الصحافية، بل حتى في الكتب، ويعثر على أخطاء نحوية وإملائية قاتلة. قد نغفر الخطأ الذي يبدو قادمًا من سهو، لكن كيف يمكن القبول بكاتب، عدته وعتادته اللغة، ويكتب نصوصًا توضح أخطاؤها أنّه يجهلها بشكلٍ مريع؟
“أولنا المخيم والخان والشيح. أولنا مخيم خان الشيح اسمًا مقدودًا من وصف المكان. النار وحدها كتبت بداية المخيم، ووحدها ستكتب نهايته أيضًا”. يعيش مخيم خان الشيح حالة حصار خانق وقصف متواصل تشنه القوات الروسية، بالتزامن مع تخاذل مسلحي المعارضة مع سكّان المخيم، كيف تقيّم مسؤوليتك ككاتب ومثقف عن ما يحصل في المخيم وأنت ابنه الذي عبرت عنه بما سلَف؟
نتحدّث عن المخيم في لحظة سقوطه. أجيبك وقد وصلت إليه قبل أيام الباصات الخضراء المشؤومة، ليلاقي المصير الذي انتهت إليه أمكنة سورية أخرى.
أشعر بأسى تراجيدي لما جرى ويجري فيه. أشعر أنني أنا المُغتصَب والمستسلِم والمهان. لدى خان الشيح قدرة عجيبة على جعل أبنائه يتماهون به، لا أقصد الانتماء العادي، بل كونه يأخذهم إلى حالة التوحّد الكلية به. ربما ستمرّ عجلات الباصات على جلودنا، سنشعرها كما شعرنا سقوط البراميل حتى ونحن بعيدون عنه.
لا أدري إن كانت هناك صورة محددة للمرأة في ما كتبته سابقًا. ما أدريه أنني أكتب عن امرأة غير موجودة، لا أعرفها، ولم يسبق لي لقاؤها. ربما تكون الكتابة منامًا وأنا مجرد شخص يحلم بها، لذا صورتها غائمة، قد تشبه بغيًا، وقد تتقاطع مع أم، لكنّ ما فيها من الخيال حتمًا أكثر بكثير مما فيها من الواقعية. ربما تنجلي الصورة مستقبلًا، لا سيما أننا لا نكتشف المرأة بمقدار ما تكون هي نفسها سببًا لنكتشف أنفسنا والعالم
هذا المكان ليس لديه ما يفاخر فيه، لا توجد فيه بحيرة شهيرة تجذب الكاميرات والعشّاق، ولا معالم أثرية ذات دور تاريخيّ حاسم، وليست هناك سوق تخلق حركة اقتصادية مهمة. معالم هذا المخيم الوحيدة هي أبناؤه، ملامحه وعلاماته الفارقة هي وجوههم، سيرته هي اجتماع حكاياتهم مع بعضها البعض. بسقوطه أشعر أن هناك وجوهًا تُنتزع وسيرًا تمحى من هذا العالم.
وقع المخيم ضحية للصراع الدائر فيه بين النظام مدعومًا بالطيران الروسي، وبين الكتائب السلفية المقاتلة، فالنظام ارتكب جرائم حرب بحق المدنيين العزّل المحاصرين، فسوى القصف والتدمير المتواصل، استهدفت مدفعية الجيش سيارات النقل العام، وحوصر المكان حصارًا جزئيًا لمدة طويلة، إلى أن انتهى الأمر في الفترة الأخيرة إلى الحصار الكامل. كذلك سجلت الفصائل الإسلامية انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، فاستقوت على الناس بالسلاح، ومارست الخطف والمحاكمات غير الشرعية والسطو والسرقة.
كتبتُ عن خان الشيح وعن أهله نصوصًا ومقالات. كتابي “قطعة ناقصة من سماء دمشق” يروي قصة المخيم في بدايات الثورة السورية من منظور شخصي. صحيح أن ذلك لا يكفي بالتأكيد، لكنْ هذا ما يمكن للكاتب أن يفعله، أو ما يجب أن يفعله. ولأنني اكتشفت أن حكاية المخيمات الفلسطينية في سوريا لا تزال مجهولة، كجزء من السردية الفلسطينية الكبرى، بدأت بالتفكير بنصّ يحكي حكاية هذا المكان كاملةً. مسؤوليتي باختصار؛ أن أصون هذه الذاكرة.
بينما كانت الأنثى تحتل مكانًا واسعًا في نصوصك الأولى، كعشيقة أو صديقة أو بغيّ، نراها تتجلّى بصورة الأم في نصوص “مشاة نلتقي…”، تاركة مساحة ضئيلة لإناث رائد البارزات في نصوصه السابقة. ما وراء هذا التحول في حضور الأنثى في ديوانك.. من عشيقة.. إلى أم؟
تدفعني إلى إجراء نظرة استرجاعية سريعة لما كتبت. في الحقيقة كتبت عن نساء كثيرات، بينهن أمهات لسجناء رأي يغدو اجتماعهن أمام أبواب السجون فرصة لإطلاق العنان لأخيلتهن عن الأبناء. كما أنّ هناك لاجئات، إحداهن تترك حبات مسبحتها تتساقط منها، لتكون بمثابة الأثر على طريق البيت. وهناك صغيرات مقتولات، واحدة منهنّ تيبّس وجهها تحت الأنقاض حتى صار أنقاضًا، وواحدةٌ أخرى صارت ألعابها مدفنًا لها. وهناك فتياتٌ مشاغبات لا تستطيع الاشتباكات والقذائف والبراميل أن توقف قلوبهن عن الحبّ.
لم أقع في حب هؤلاء، كما لم أولد منهن جميعهن. الأمر بالنسبة لي أن النصوص أمكنة مثل الشوراع والمقاهي والمخيمات والمدن، مهمة الكتابة هي ترحيلهن من أماكن الحياة إلى الأوراق.
النساء مرايا هشّة للحرب والمنفى، وهنا دخلت في محاورة كبيرة مع المرأة، ككلّ، تفرّعت، في بعض الأحيان، إلى أحاديث جانبية مع أمّ، أو أخت، أو صديقة.
لا أدري إن كانت هناك صورة محددة للمرأة في ما كتبته سابقًا. ما أدريه أنني أكتب عن امرأة غير موجودة، لا أعرفها، ولم يسبق لي لقاؤها. ربما تكون الكتابة منامًا وأنا مجرد شخص يحلم بها، لذا صورتها غائمة، قد تشبه بغيًا، وقد تتقاطع مع أم، لكنّ ما فيها من الخيال حتمًا أكثر بكثير مما فيها من الواقعية. ربما تنجلي الصورة مستقبلًا، لا سيما أننا لا نكتشف المرأة بمقدار ما تكون هي نفسها سببًا لنكتشف أنفسنا والعالم.
“ما تظنّه منفى هو وطن لآخرين/ إذاً/ هذه الأرض منافٍ/ ولا سعادة فيها إلا للسياح!”، هكذا حضر مفهوم الوطن في “مشاة نلتقي”، بعد تجربة لجوئك في بلد أوروبي (ألمانيا)، كيف يرى رائد وحش مفهوم الوطن؟
هناك خلط بين الوطن والمكان في الوعي العام، فبينما يجب أن تكون العلاقة مع الوطن علاقة واقعية، وبينما تحتمل العلاقة مع المكان أن تكون أسطورية؛ يحدث أننا نحوّل كلًّا منها إلى أسطورة، فنخسر الاثنين.
الوطن مفهوم سياسي بالدرجة الأولى، يتأسّس على قواعد المواطنة والحقوق والواجبات، وفي جزء كبير منه ثمة علاقة نفعية متبادلة بين الطرفين، ولهذا تبدو علاقة مواطني دول الغرب أكثر وضوحًا مع أوطانهم، ربما يعود ذلك لقابلية رؤيتهم عن الوطن للتطبيق، عبر المشاركة بالانتخابات، والمساهمة في النشاطات المدنية المختلفة. أما نحن الذين لم نكن يومًا مواطنين، رغم أن في بلداننا دساتير وقوانين تنافس الدولة المتقدمة ورقيًّا، فنعوّض غيابَ المواطنة، كممارسة سياسية، برومانسيات فارغة، تجعل من الوطن أغنية حالمةً، مع أنّ سجونه ممتلئة بخيرة أبنائه، ومع أن مفهوم السيادة الوطنية لا يطبّق إلا حين نعلن عن حقنا في أن نعيش في دولة ديموقراطية، تحترم الحريات والحقوق وتصون حياة الإنسان.
علّمتنا الأنظمة الاستبدادية أن نجعل من الوطن أغنية. وأرغمت أجيالًا عديدة على الإقامة الجبرية في تلك الأغنية، وحين جاء من يقول إنّ اللحن نشاز، وإن الكلمات أكاذيب منّمقة، تحرّكت الجيوش التي دفعنا لها أثمانًا توازي أعمارنا، من أجل أن تقصف هذه الأعمار.