صدر مؤخراً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، كتاب شعري جديد للشاعرة السورية رشا عمران، حمل عنوان «التي سكنتْ البيتَ قبلي». وقد صدر الكتاب ضمن مجموعة المتوسط المسماة «براءات» – وهي مجموعة إصدارات خاصة فقط بالشعر، والقصة القصيرة، والنصوص. أطلقتها المتوسط احتفاء بهذه الأجناس الأدبية.
في إجابتها لنا في رمّان عن مدى إمكانية اعتبار النصوص “شخصية” بالمطلق فلا يتم ربطها بالحدث السوري الراهن، قالت عمران بأن النصوص ستبدو لوهلة بالغة الخصوصية، امرأة وحيدة تراقب عزلتها الداخلية وتتأملها وتكتب عنها، هل من خصوصية أكثر من ذلك؟! تتساءل. ولكن ثمة ما هو وراء هذه العزلة: الوحدة، الغربة، الخوف، الغضب، القهر، الموت، التقدم في العمر، الخوف من أن لا تجد هذه المرأة مكاناً لجثتها حين تموت خارج بلدها، الخوف من التقدم بالسن ولا أحد حولها، الخوف من المرض، الخوف من حالة اللانتماء واللامكان بعد ضياع الوطن، الخوف من كل شيء، ليس هذا الخوف شخصياً وخاصاً بي وحدي، تقول، أظنه خوفاً جمعياً تعانيه مئات آلاف السوريات اليوم بسبب ما يحدث في سورية.
وفي سؤالها عمّا إن كان الحدث السوري، بمآسيه وآلامه، قد أثّر على مضامين وربما أشكال القصيدة السورية اليوم، تؤكّد عمران متحدّثة عن تجربتها بأن المأساة السورية تركت أثرا واضحاً على القصيدة السورية، فسابقاً كان من الصعب تمييز الشعرالسوري عن العربي، لم يكن هناك سمات واضحة ومحددة للشعر السوري، اليوم، تقول، حين تقرأ نصاً أو قصيدة ما، حتى دون أن تعرف اسم كاتبها، ستخمن مباشرة أن كاتبها سوري، ثمة هذه الفجوة في الروح التي تظهر كقنبلة من الحزن في النص، قنبلة يشعر القارئ معها أنها ستنفجر في وجهه بأي لحظة. لا يترك النص السوري قارءه حالياً على هامش الحزن، سيدخل في متنه تماماً، تقول، والمدهش أنه من النادر أن تقرأ اليوم شعراً سورياً يتحدث عن كل هذا الخراب والموت والقهر بشكل مباشر، ما تقرأه اليوم هو انعكاس كل ذلك على الشاعر، فيظهر نصه محملاً بدلالات وإشارات خفية تجر القارئ خلفها فيلاحقها ولا يعرف أين سينتهي، دون أن يشعر بالغموض، فاللغة أصبحت أكثر سهولة وتراكيبها تخففت من المحسنات، اللغة أصبحت واضحة وضوح الدم السوري وعارية كحال سورية الآن.
قصائد من المجموعة خصّتها الكاتبة للمجلة
ثمة مرآة كبيرة على باب غرفة النوم
كلما وقفت أمامها
رأيت وجه المرأة التي كانت تسكن في المنزل قبلي
المرأة التي لا أعرفها
لكنني أكتشف تفاصيل أسرارها
حكاية وراء أخرى
كلما وقفت آمام المرآة
المرآة الكبيرة على باب غرفة النوم
التي وضعتها المرأة الوحيدة التي كانت تسكن في المنزل قبلي
***
لو أنني أنا من سكنت في البيت قبلها
لكنت فعلت الشيء ذاته :
أن أنزع العين الساحرة أعلى الباب الخارجي
وأترك مكانها مفتوحا
كي تأتي عين عادية
وتتلصص
على عزلتي
وأنا أفتح باب البيت عائدة من سهرة طويلة ، رأيتها تنتظرني وراء الباب وثمة ابتسامة شامتة على وجهها كما لو كانت تقول لي: كل ما تفعلينه عبث ، خبرته جيدا ،السهر مع الأصدقاء ، كأس آخر الليل ، غزل السكارى في البار الضيق ، رسائل الموبايل التي ترسلينها كل ساعة ، فقط هنا ، حيث تسكنين ، ثمة فسحة رحبة كيما تتأملين جسدك وتتلوين وحيدة كأفعى في سلة عازف ناي بلا ملامح ،قالت هذا ثم اختفت بعد أن تركت آثار ابتساماتها الشامتة من أول البيت حتى السرير في غرفة النوم العاتمة ،كل ما فعلته أنني عبرت بين ابتساماتها الشامتة ثم نمت في سريري حاضنة مخدتي خشية أن يستفرد بي موت أول الصباح .
في منتصف غرفة السفرة ،على البلاط الأبيض ، ثمة بقعة كبيرة بلون الصدأ ،كل يوم أحاول نزعها عن البلاط بلا جدوى ، اليوم ،اليوم فقط فكرت أن أستخدم سكينا حادة لإزالتها ،وانا أحفها بنصل السكين رأيت بقايا خطوط تشبه العين بحدقة واسعة سوداء ينز منها الصدأ ،ربما هي عين المرأة التي سكنت بالمنزل قبلي وربما هي مثلي يوم نزعت عينها ورمتها في منتصف الغرفة كانت تحاول قطع نصف المسافة نحو النسيان ،النسيان الذي عادة ما تبدأه المرأة بعينيها بعد أن تضع قلبها على الطاولة محاطا بالخبز والملح والليمون في عشاء سيكون هو الأخير قبل أن تركن إلى وحدتها في مطفأة السجائر .
***
رأسي مستلق على السرير
قدماي مشدودتان إلى الأعلى
وذراعاي تلامسان السقف
وحده جسدي معلق في الفراغ
في مشهد يشبه أرجوحة النوم
وفوقي تماما ثوب أحمر طويل
كما لو أنه متروك هكذا في هذا الفراغ البهي
ليحلق إليه جسد أنثوي واحد
بينما الرأس المستلقي على السرير يتغير تباعا
كلما تغير انعكاس ضوء الشمعة القليل في الظلام أعلى السقف
تحت طبقة الغبار المتراكمة على النافذة المطلة على الشارع
ثمة بقايا لهاث لامرأة تتقن التدخين
كلما مسحت الغبار عن النافذة
لمحت الثقوب في رئتيها المريضتين
وبدون انتباه
أنقل الفوطة إلى صدري وأبدأ بالمسح
ثم أتنهد من الألم
بينما لهاثي الغامق يعلق على النافذة المطلة على الشارع
كغبار كثيف
نسيته تلك المرأة الوحيدة
المرأة التي كانت تسكن المنزل قبلي
الشاعرات يشبهن القطط الوحيدة، إذا ما وجدن أبوابا مفتوحة يتسللن منها دون أن يراهن أحد، لكنهن سرعان ما يعدن خائبات، ويكتفين بأثر مخالبهن على لحمهن، الأثر الذي سيبقى دائما، كمرآة مصقولة تفضح عيوب الوجوه التي تقف قليلا أمامها، ثم تهرب من الأبواب المفتوحة دون أن تترك أي أثر خلفها .
***
كلما حدقت قليلا في البلاط الأبيض
رأيت آثار أقدامها الصغيرة
يخطر لي أن أضع قدمي اليسرى فوق أثر القدم اليسرى
واليمنى فوق اليمنى
وهكذا
أرى نفسي أمام الباب الخارجي
أفتحه وأغلقه
وأعود بنفس كآبة خطواتها العائدة من وداع الرجل الآخير
ثمة فارق وحيد فقط
لا بقايا لدموع جديدة
في طريق العودة