لعلّها من أكثر المواضيع العربية، في تاريخنا المعاصر، إرباكاً وتعقيداً، المسألة السورية منذ انطلاق الثورة في مارس ٢٠١١ إلى يومنا هذا، وستكون كذلك لسنين قادمة كما يبدو. فأي حديث في أي تفصيل فيها سيجرّ توضيحات واستدراكات تتفرّع منها، ثم نفياً مسبقاً لافتراضات مسبقة مبنيّة على موقف محدّد تجاه تفصيل ما، وهكذا لينتقل “الاستعصاء” في الحالة السورية، والتسمية لـ سلامة كيلة، إلى استعصاء في الحديث (أو التحادث) عن الثورة.
في زيارتي الأخيرة لبيروت التقيت بسلامة كيلة، أمضينا أسبوعاً في بيت صديقيْنا، لم أترك فيه سؤالاً في الفكر والسياسة لم أسأله، أو هذا ما ظننته قبل أن أكتشف أنّي، بعد عودتي إلى فرنسا، نسيت أن أسأل عن كذا وكذا…
هناك، في معرض بيروت للكتاب، في جناح منشورات المتوسط، قدّم لي سلامة كتبه الأربعة الصادرة عن الدار (إضافة إلى كراسات الماركسية التي أشرفَ على إصدارها)، وهي تحكي عن الثورة السورية، كلٌّ من جانب: أولها وأكبرها هو «التراجيديا السورية.. الثورة وأعداؤها» (٢٠١٦)، و«الصراع الطبقي في سورية.. الثورة في صيرورتها (٢٠١٥)، و«صور الجهاد.. من تنظيم القاعدة إلى داعش» (٢٠١٦)، و«اليسار السوري في واقعه الراهن» (ط١: ٢٠٠٧ – ط٢: ٢٠١٦).
أما «الصراع الطبقي..» فيتناول تحليلاً ماركسياً لأساس الصراع في سورية، في سنتيها الأولى والثانية تحديداً، وبعض نصوص الكتاب نُشرت في منشورات “ائتلاف اليسار السوري” التي بسببها اعتُقل كيلة في سوريا وعُذّب ورُحّل، والكتاب يحوي نصوصاً جديدة أُضيفت إلى المنشورة سابقاً تسهب في التحليل الطبقي للحالة السورية الراهنة، وهي نصوص، بخلاف “التنظيرات” الاستسهالية التي نقرأها هنا وهناك، تنتمي للحراك الفعلي على الأرض، تنظيمياً وجماهيرياً، في وقت كانت الثورة تُقاد بحراك سلمي وشعبي قبل أن تنشأ جماعات وتتموّل وتتسلّح…
ولأن المقاربة اليسارية ضرورية في الحالة السورية، أكان تحليلاً ماركسياً للحاصل هناك أو نقداً تفصيلياً لليسار السوري ولحاله وقد وصل، أخيراً، ليكون في صف نظام قاتل بدل أن يكون في موقعه “الطبيعي” مع الشعب، كان من الجيّد أن يُعاد طباعة «اليسار السوري..» الذي يقدّم عرضاً تفصيلياً ونقدياً لا للأحزاب اليسارية السورية وتاريخها فحسب، بل لـ “ماركسية” كل منها، ما يمكن أن يوضّح البؤس المسبق الذي كانت عليه والذي اتّضح أكثر إثر اندلاع الثورة الشعبية في سوريا.
وينتهي الكتاب بملحق هو ورقة استقالة كيلة من “تجمّع اليسار الماركسي” لأسباب مرتبطة بالثورة السورية، وهو مآل كثير من اليساريين الشباب (فلسطينيين وسوريين) ممن انفصلوا عن أحزابهم بعدما انحازوا للثورة محافظين على منطلقاتهم اليسارية في انحيازاتهم، وبعدما انحازت أحزابهم للديكتاتور في سوريا الذي تحوّل، دراماتيكياً، لمجرم حرب.
ولأن الحديث عن المسألة السورية اليوم لا يستقيم دون الحديث، مفصلاً، عن الإسلام السياسي، والجهادي منه تحديداً، فإن كتاب «صور الجهاد..» ضرورة أخرى لفهم جانب أساسي في الحالة العربية اليوم، المشرقية والسورية منها تحديداً. وإن يتخصّص الكتاب في الحديث عن داعش كـ “شركة مساهمة” و “شركة أمنية خاصة” إلا أنه يطرح سؤال تفشّي الأصولية وفيما إن كانت “طبيعية” في بيئتنا.
لكن الكتاب الأكثر شمولاً من بين الأربعة هو «التراجيديا السورية..» الذي يطرح فيه كيلة، في ٣١٩ صفحة، تحليلاً محكَماً مُبسَّطاً (وليس مبسِّطاً) بلغة واقعية كما هي الأفكار التي تنقلها، مزيلاً، بالإقناع، الإرباك والتعقيد الذين ذكرتهما في السطر الأول أعلاه. وهو تحليل مكمّل لما وُرد في «الصراع الطبقي..» إذ تثبت مآلات الثورة ما بدأ به كيلة وكتبه آنذاك، وما سيتوصّل إليه في الكتاب بخصوص الصراع، وجذريته، فيأتي الاقتصاد أولاً (نسبة البطالة، الحد الأدنى للأجور الضروري للعيش، انهيار الزراعة مع الانفتاح الاقتصادي، الاقتصاد الريعي، تمركز الثروة بيد أقلية…)، إن كان كمفسّر لانتفاضة الشعب أو كمفسّر لسلوك المتدخّلين في الشأن السوري.
يبدأ الكتاب بعرض للحالة الاقتصادية للسوريين ما قبل الثورة، وحالة القمع السياسي كذلك، ماراً باليسار السوري، والمعارضة السورية تاريخياً، إلى سؤال “طائفية” النظام، ينفيه موضحاً بأنّ النظام “استخدم الطائفة”، وهذا غير” التكوين الطائفي” المأسَّس على “ادّعاء تمثيل طائفة، ورفض الطوائف الأخرى” باستخدام أيديولوجية هي “اتكاء على موروث الطائفة”، ما لم يكنه النظام، فهو “نظام فئة عائلية مافياوية تمثّل “رجال الأعمال الجدد” المتحالفين مع البرجوازية التقليدية” (ص١٤١)، وغالبية هؤلاء من السنّة.
فالثورة كانت بحاجة، من البداية ولتجنّب الخطاب الطائفي من قبل النظام كما المعارضة، إلى “برنامج يتضمن مطالب الطبقات الشعبية، ويدعو لتأسيس دولة علمانية ديمقراطية ووطنية، فإن هذا الأمر كان أكثر تأثيراً في الساحل، بالضبط لأنه يكشف خطاب السلطة ويضع الصراع في سياقه الحقيقي.” (١٧١ص)، وذلك بخلاف الخطاب الطائفي الشائع لدى ليبراليي المعارضة المحكومين أو المتأثرين بـ “الإخوان المسلمين”، وهو ما أخاف أهالي الساحل (و”الأقليات” والعلمانيين) وما أدى إلى تكتّل عدد كبير منهم خلف النظام ومكّن من “البنية الصلبة” له كما أسماها كيلة، فكان للنظام ما أراد، وهو صبغ الثورة بصبغة إسلامية/سنّية ستصير متطرفة وستتسلّح وستشكّل، بذلك، طوق النجاة له من ثورة شعبية تتخطى الطوائف والمناطق.
يتناول كيلة الثورة من كافة جوانبها، داخلياً وخارجياً، فيوضّح كيف أن “أصدقاء الشعب السوري” كانوا يعملون على تخريب الثورة و “أعداء الشعب السوري” على دعم السلطة بكل القدرة التي يستطيعونها، “وكان مركز الفعل “المشترك” (أو المتكامل) هو أسلمة الثورة، وتوسيع دور وفاعلية “الجهاديين”، وتدمير القاعدة التحتية للثورة” (ص٢٤٠).
من هنا ينتقل كيلة إلى الحديث عن أسلمة الثورة، كمصلحة سعودية/قطرية دولية من جهة، ونظام-سورية من جهة أخرى، رابطاً بين الأسلمة والتسليح في الشكل الذي اتّخذه، فكان لا بد كي تتسلح أي مجموعة من أن تحمل صبغة إسلامية، ما زاد المغالاة في ذلك لنيل رضى الممول، ما زاد الفوضى في كل البلد، ما صبّ في المصلحة الدولية والإقليمية في تدمير سورية وجعلها فرجة للشعوب الأخرى لما يمكن أن تؤدي إليه الثورة الشعبية. فـ “الإمبريالية بكل بلدانها، والقوى الإقليمية التي كانت تطمح للسيطرة، والنظم العربية التي كانت ترتعب من الثورات، عملت من أجل التشويه وتدمير الثورة. وكانت الأسلمة العنصر الأول، لأنها كانت تخيف “الأقليات” وقطاعاً من الشعب عموماً. ومن ثم، عبر التسليح الذي ارتبط بأسلمة أشد قادت إلى تسريب “الجهاديين” بدعم من كل هذه الأطراف، وبمساعدة من السلطة ذاتها. وكان ارتباط المعارضة بالقوى الإمبريالية يسهّل هذه العملية: حيث ظهرت كتابع لهذه القوى، كـ “عميلة” لها” (ص ٢٤٢).
في الكتاب عناوين فرعيّة عدّة تخص الثورة السورية، ما أشرت إليه أعلاه يتم ربطه ببعضه وبعناوين أخرى تجعل الموقف من الثورة والنظام جذرياً، دون إرباكات وتعقيدات أدخلتها المعارضة السورية إلى الثورة، وبالتالي إلى “جمهورها” من مؤيدي الثورة، من بينها تحالف مسارات الليبراليين والإسلاميين (الإخوان تحديداً) في “قيادة” الوضع الحالي للثورة إلى “الاستعصاء” الذي وصلته، فالأساس في ذلك هو نداؤهم الباكر جداً والملح للتدخل الخارجي، والأساس في هذا النداء هو عدم ثقة كل من الليبراليين والإسلاميين بالشعب وبإمكانية أن تُسقط ثورته النظام، فكانت الأسلمة وكان التسليح والتخريب وأخيراً قتل الشعب وتهجيره، وبقاء الأسد في قصره بمصلحة إقليمية ودولية.