عندما يثار جدل ونقاش واسع حول مسائل كبيرة، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي ليست أهلًا لهكذا نقاشات، فهي تبقى قاصرة بنيويًا عن أن تكون حلبة نقاش جدّية في مسائل لم تهيّأ وسائل التواصل الاجتماعي لمعالجتها. وفي هذا السياق، تُظلّم المسائل والمواضيع محطّ النقاش أيّما ظُلم، لأن حجمها أكبر من أن يُموضع في مكان صغير ليس مخصّصًا لها. هذا ما يحصل بالضبط مع رواية “جريمة في رام الله” التي باتت نبوءة تحقّق ذاتها، وأبت إلا أن تغدو ضحيّة جديدة لسرب الجرائم المستمرّة التي تُرتكب يوميًا في رام الله.
ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الوسيلة الأكثر نجاعة في تعميم الذم والقدح والتشهير، دورًا فظًّا أجهض إمكانيات بناء نقاش جدّي يحترم حرّية التعبير ويستند إلى معايير نقد أدبية لا أيديولوجية. فالإشكالية ليست بالخلاف ذاته، وإنما بطريقة الخلاف حول المسألة، فالخلاف ثروة حيوية جدًّا على النطاق الثقافي والمعرفي، وإنما الإشكالية تكمن في أسلوب التعاطي المنحطّ المخالف لحقّ الإنسان في التعبير من خلال توظيف مقاطع مجتزأة بقصد، تحت غطاء شعارات غوغائية مهترئة تسقط أمام أبسط المفاهيم مثل حقّ حرّية التعبير.
يحصل كل ذلك في سياق سياسي أوسع فشلت به الأطراف السياسية على وضع أسس لبناء دولة ومجتمع ديمقراطي يستند إلى حقوق فردية غير قابلة للتصرّف وأسس شراكة سياسية واجتماعية تعدّ المجال العام ليكون فوق الخلاف حول الحقوق، بل وتجعل حقوق الإنسان، تحديدًا الحرّيات، خارج نطاق الجدل والنقاش.
فقد كشفت السجالات الحادّة الدائرة حول قرار النيابة العامة بسحب جميع النسخ واعتقال المؤلف والناشر والموزع عن مدى عمق أزمة مسألة الحرّية في فلسطين، كما في العالم العربي إجمالًا. هكذا هي حال الدول التي لم تحسم فيها “المسألة الديمقراطية” بعد ولم تترسّخ فيها قيم المواطنة من حقوق وواجبات لا يمكن المساس بها إطلاقًا. وفيما يفشل نظام الحكم الدكتاتوري في خلق إجماع قومي حول سلوكياته وممارساته السلطوية، فإنّه ينجح في توظيف قضايا الرأي العام بدهاء شعبوي شديد خصوصًا عند إثارة مسائل تتعلق بالمحرّمات، كالدين والجنس، في أي قالبٍ كانت سواء علمي أو أدبي أو غيره، في مجتمع متفتت يفتقر إلى أدنى حدود التوافق حول الحقوق الأساسية، مثل حرّية التعبير، التي لا بد أن تتبوأ منزلةً فوق المساومات والسجالات السياسية والاجتماعية والشعبوية وأن تكون قادرة على صد طغيان الأغلبية.
ومن خلال هذه الثغرات تتمكّن السلطة السياسية اللاديمقراطية من بناء شرعية هشّة لوجودها، شرعية قوامها تحطيم ما تبقّى من هوامش حرّية لم يتمكن النظام من حسمها بعد، فيحاول لعب ورقتها في ذروة أزمة الشرعية. هكذا توظّف السلطة السجالات النزقة على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل مجابهة أزمات الشرعية المتلاحقة بسبب فشلها على كافة الصعد النضالية والاجتماعية والسياسية.
الجريمة توالدت وباتت جرائم، ليس بحق شخوص ومواد عينيّة، وإنما بحق مبادئ وقيم وحرّيات غير قابلة للتصرّف، وبات لدينا جريمة الاعتداء على الحق في التعبير، وجريمة تناول عمل أدبي بالتشهير والتهجّم والفظاظة المفرطة، وجريمة المصادرة والاعتقال، وجريمة عدم حماية حقوق المؤلفين والناشرين، والقائمة تطول كلّما طالت القضيّة.