بات النقاش مؤخرًا حول التطبيع ملحًا، على وقع إشارات التقارب بين الأنظمة الخليجية وإسرائيل، وهرولة مزيد من الدول العربية إلى توطيد علاقاتها العلنية والسرّية مع الكيان الاستعماري الإسرائيلي. ولم يقتصر هذا الزخم حول التطبيع على صعيد الأنظمة العربية مع إسرائيل، بل على الصعيد الفردي كذلك، ويتجلّى ذلك في مسألة عرض فيلم “قضية 23” للمخرج زياد دويري، المتهم بالتطبيع مسبقًا.
من المهم بمكان، عند نقاش هكذا مسائل مشحونة عاطفيًا وسياسيًا بكثافة، أن يُدفع باتجاه بناء نقاش عقلاني واعٍ، بخلاف الجدل الشعبوي الدائر حول مسألة التطبيع تحديدًا. والنقاش المنهجي لمسألة التطبيع يبدأ بالضرورة من محاولة صياغة تعريف مُحدد للتطبيع، خصوصًا وأن جزءاً مُعتبراً من النقاشات يدور في فلك تعريفات فضفاضة جدًا للتطبيع، وأحيانًا ضيّقة جدًا، بحيث تقتل أي فرصة نقاش جدّية حول المسألة. لذلك سنحاول معالجة دلالات التطبيع اللغوية أولًا، ثُم وضع هذه المعاني اللغوية في سياقها السياسي لاحقًا، بعد أن نكون قد حدّدنا أهم محددات التطبيع موضوعيًا، حتى نخرج بتعريف اصطلاحي للتطبيع، مع الإدراك تمامًا لأهمّية السياق للخروج بتعريف سليم للتطبيع.
يُقصد بكلمة “طبّع”، في معجم اللغة العربية المعاصرة، جعل الأمور طبيعية. ويعرّف قاموس أكسفورد التطبيع/Normalization، على أنّه جعل الشيء مناسبًا للظروف وأنماط الفعل الطبيعية، ويطبّع/Normalize الشيء تعني أن تجعله طبيعيًا، عاديًا، وذلك من خلال تكييفه مع الشروط الطبيعية. بعباراتٍ أخرى، إن التطبيع هو عملية تبديل حالة ما هو شاذ، غير مألوف، أو غير طبيعي، حتى يصبح طبيعيًا ومألوفًا وعاديًا.
تُحيلنا هذه المواد اللغوية إلى المقصود بالعادي والطبيعي المجبولة عليه النفس الإنسانية، لأن غاية التطبيع هي تحويل كيان أو جسم إلى الحالة الطبيعية. نجد أن تعريف “الطبع” و”الطبيعة” في مادة “طبع”، في لسان العرب، تعني “الخليقة والسجيّة التي جُبل عليها الإنسان.” ويكمل لسان العرب تفصيلًا: “وهو ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه وسهولة أخلاقه وعسرها ويسرها وشدّته ورخاوته وبخله وسخائه.” ولا تختلف عن تلك الدلالات كثيرًا مفردة “العادي”، التي تعني حسب لسان العرب، نسبة إلى العادة. فالعادة تستخدم في لسان العرب في بعض المواضع بنفس معنى “طبيعة”، ويتضح ذلك من خلال بعض الأمثلة التي يطرحها المعجم، وثانيًا تُعرّف العادة على أنها: ” كلّ ما اعتيد حتى صار يفعل من غير جهد.” وهذا التعريف يقترب كثيرًا من تعريف الطبيعة، إلا أن الطبيعة تُمنح إلهيًا، فهي مسألة بنيوية في تكوين الإنسان لا يقوى على تغييرها، ويعمل وفقها بكل سهولة ويسر، في حين أن العادة على شيء تحصل بالتمرّس عليها حتى تصبح النفس مجبولةً عليها.
وفي كلا المعنيين، فإن الدلالة الأبرز، للطبيعة والعادة، هي غياب التوتّر، والغرابة، والكُلفة، ولربما الشعور بالذنب، ووخز الضمير، وكذلك الجهد، والإرهاق، عند فعل شيء باعتباره فعلًا طبيعيًا لا يستدعي انفعالات تعبّر عن عدم الاتزان. هذا هدف التطبيع، قد ينجح وقد لا ينجح، لكن أي ممارسة بهذا الاتجاه في تطبيع أي فعل أو سلوك كان، هي جزء من عملية التطبيع.
وتطبيق هذا المعنى الأولي للتطبيع على العلاقات بين الدول، ينتج أن تطبيع العلاقات بين دولة ما ودولة أخرى، يتمثّل في الخطوات الواعية المقصودة باتجاه إقامة علاقات طبيعية، عادية، وهو بالفعل ما يُشير إليه معجم اللغة العربية المعاصرة في مادة “طبع” فيقول: “طبّع العلاقاتِ بين البلدين: جعلها طبيعيّة عاديّة.” وفي هذا السياق الدولي، فإن الطبيعي العادي، في الحد الأدنى، هو تبادل السفارات، ووجود علاقات دبلوماسية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وعسكرية، حتى لو كانت في حُدودها الدنيا. ويقف على نقيض تطبيع العلاقات، ما يُطلق عليه “المقاطعة”، بمعنى الامتناع عن إقامة أي نوع من أنواع العلاقات والتواصل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والعسكري.
بمجرّد بدء المشاورات، والاتصالات، والجهود التي تهدف بشكلٍ واعٍ إلى تحويل العلاقات إلى علاقات طبيعية، فقد بدأت عملية التطبيع، وقد تحتاج سنوات طويلة. ومن الجدير بالذكر أن التطبيع ليس حدثًا بل سيرورة أو عملية مستمرة، كما أشرنا من قبل، بشكل مخطط وواعٍ بغية الوصول إلى العلاقة الطبيعية. وتطبيع العلاقات لا يعني بالضرورة نجاح العملية في الوصول إلى مستوىً عالٍ من التنسيق والتعاون، بل مُجرد امتناع المقاطعة، من خلال بداية الاتصالات بين البلدين، تنطلق عملية ما يُسمى بالتطبيع التي تهدف الوصول إلى حالة طبيعية. فانتهاء مرحلة القطيعة، هي عمليًا بداية مرحلة التطبيع. وإن كانت المقاطعة تحمل ما يدل على رفض نظام أو دولة لدولة أو نظام آخر بتاتًا، فإن التطبيع يحمل حد أدنى من قبول وجود النظام أو الدولة الأخرى، ودورها، وإيديولوجيتها، وعقليتها، وسلوكها السياسي والدبلوماسي.
يُستنتج مما سبق، أن التطبيع هو جهود اتصال، وتواصل، وبناء، وتطوير، علاقات بين دولة وأخرى، كانتا في حالة قطيعة، بشكلٍ واعٍ ومقصود، بغيةَ الوصول إلى علاقة طبيعية لا يشوبها التوتّر، أو التوتّر المفرط. وتنتج سيرورة التطبيع هذه على الأرجح من خلال وصول كل الأطراف إلى حالة قبول للنظام الآخر بصيغته وإيديولوجيته وشكله وسلوكياته الراهنة.
التطبيع مع إسرائيل بهذا المعنى، يعني الدخول في اتصالات وعلاقات مخططة تهدف إلى جعل العلاقة معها علاقات طبيعية مناقضة للمقاطعة تمامًا. ويحمل التطبيع دلالة القبول بوجود إسرائيل بشكلها ونظامها وصيغتها الحالية الكولونيالية الاستيطانية العرقية، وكذلك القبول بدورها، وإيديولوجيتها، ومشروعها الاستيطاني الإحلالي، وكذلك الحال القبول بواقع الفلسطينيين وحالتهم الشاذة تحت الاحتلال. وقد تفترض بعض الدول أن هذه العلاقات تهدف إلى إحداث حالة يمكن من خلالها التأثير في الدولة الأخرى، والضغط عليها لإجبارها على القبول بتقديم تنازلات معيّنة، كما تدعي بعض الأطراف التي تدافع عن التطبيع مع إسرائيل، مع أن التجربة التاريخية أثبتت خلاف ذلك.
فعلى العكس، نجد أن الأطراف التي طبّعت العلاقات مع إسرائيل ووقّعت اتفاقات معها، مثل منظّمة التحرير والأردن ومصر، تحت ذرائع البراغماتية، قد انزلقت إلى منزلق القبول الفعلي بوجود إسرائيل الكولونيالية، ولربما القناعة بأهمّية وجودها، وقد خسرت قدرتها على المناورة والضغط على إسرائيل، وذلك بسبب نشوء مصالح مشتركة لكل طرف من هذه الأطراف مع إسرائيل.
يعزّز التطبيع مع إسرائيل من قوّتها، وشرعية مبررات وجودها الكولونيالي، ويدعم مشروعها بطريقة أو بأخرى، بل ويحفّزها للمضي قدمًا بهذا المشروع الكولونيالي. ويُمكن طرح بعض المجادلات التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشك، أن التطبيع مهما كانت النوايا التي تقف وراءه، يدعم أركان الوجود الكولونيالي الإسرائيلي. أولًا، تزايد وتيرة وكثافة الفعل الاستيطاني والاستعماري والعنصري في السنوات الأخيرة، وهي السنوات التي تميّزت بتعزيز عملية التطبيع مع بعض الدول العربية المطبّعة وغير المطبّعة. وليس آخرًا، ما يردده نتنياهو مرارًا وتكرارًا، من أن العالم يهرول إلى إسرائيل، وهذا يثبت، على حد تعبيره، أن القوّة بكافة أشكالها تجعل العالم يحترمك وليس التنازل. وقد وصلت إسرائيل إلى هذه النتيجة من خلال تجربتها في أن صلابة مواقفها، وبطشها الاستعماري، وتعزيز فائض القوّة لديها عسكريًا واقتصاديًا وعلميًا، جعل العالم يسعى للتطبيع معها بدلًا من مقاطعتها.
وهذا النقاش يفضي بنا إلى التطرق إلى التطبيع الفردي، الذي له معاييره المختلفة قليلًا عن التطبيع على صعيد الدول. عندما تطبّع دولة مع دولة أخرى علاقاتها، فإنها تطبّع مع المؤسسة صاحبة المشروع، وفي حالة إسرائيل، فإن الدولة وأجهزتها وأذرعها المختلفة، هي نفسها حاملة المشروع الكولونيالي الاستيطاني على كافة أراضي فلسطين وسكانها. في حين قد يوجد أفراد ومؤسسات مجتمع مدني تعارض العنصرية والكولونيالية والاستيطان وكذلك الانغلاق الاثني، وليس بالضرورة أن تكون كل مؤسسات المجتمع المدني، وأفراد المجتمع، داعمين لهذا المشروع الكولونيالي.
بناءً على ذلك، فإن بناء علاقات مع جمعيات، ومؤسسات، وأفراد يناصرون الحقوق الفلسطينية، ويعارضون الطابع الاستعماري الاستيطاني العنصري الغربي للدولة العبرية هو تعزيز للنضال وتقوية شوكته في وجه المؤسسة الإسرائيلية الاستعمارية. لأن هذا النوع من العلاقات يستند إلى مبادئ وغايات وآليات عمل تعمد إلى مقاطعة المؤسسة الإسرائيلية الاستعمارية الرسمية، وكذلك كافة المؤسسات المجتمعية الرديفة، والأفراد والشخصيات العامة التي تعمل على تعميق المشروع الكولونيالي العنصري. ومن ناحية أخرى، فإن هذه العلاقة لا تقوم مع أطراف تدعم الحالة الراهنة، بل مع أطراف تقف موقف الفلسطيني وتناضل إلى جانبه، بل وتعمل على إعاقة تقدّم المشروع الاستعماري الاستيطاني.
ولا يعني ذلك ألا يحاول الفلسطينيون التواصل مع المجتمع الإسرائيلي بشكل مستمر، في محاولة لإيضاح موقفهم ورؤيتهم للحل، بل ومحاولة جذب أكبر قدر ممكن من المناصرين للمشروع المناهض للكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية. لكن الأهم في هذا النوع من العلاقات، أن يستند إلى مواقف سياسية واضحة وبالغة الصراحة تجاه النظام والمشروع الاستعماري الاستيطاني، وألا تكون العلاقة قائمة على التزلّف والانبطاح السياسي والأخلاقي، والتنازل عن المبادئ المتعلقة بتقويض الوجود الكولونيالي الإثني.
على الصعيد الفردي، لا يجوز أن تختزل مسألة التطبيع الفردي في الحصول على تصريح وزيارة المدن الفلسطينية في الداخل المحتل، أو مجرد إجراء مقابلة مع جهة إعلامية إسرائيلية، بل إنّه عملية واعية ومقصودة طويلة المدى، مع مؤسسات أ أفراد أو جهات رسمية، أو غير رسمية إسرائيلية، تؤمن بإسرائيل بشكلها الكولونيالي الإثني، وتناصرها، أو تشكّل جزءًا من هذا المشروع، بغية إقامة علاقات طبيعية معها في تنازل عن المبادئ السياسية والأخلاقية العادلة للفلسطينيين. لكن من ناحية أخرى، يجب أن تكون هذه الحساسية المفرطة في التعامل مع أي تواصل أو علاقة مع إسرائيل موجّهة للأنظمة العربية والمؤسسات الرسمية التي لا يجوز أن تنخرط بأي نشاط تطبيعي مع الكيان الاستعماري الاستيطاني.