“يجب أن يدرك الإسرائيليون اليهود أن إسرائيل تجبرهم على شكل وجود غير محتمل. يجب أن يدركوا أن طرق الحياة الموصوفة كإسرائيلية تحطم حياتهم عبثًا، فى الوقت الذى يدركون أن الأمر انتهى، نكون كلنا قد تحررنا من مشكلة تثبيت النظام المضاد للحياة الذى يُدعى إسرائيل”.
جاء هذا الطرح اللافت في كتاب “ما بعد إسرائيل – نحو تحوّل ثقافي” لـ مارسيليو سفيرسكي* الذي نقله إلى العربية هذا العام، المترجم سمير عزت نصار وقام بمراجعته حسام موصللي، والصادر عن “منشورات المتوسط” (2016) بميلانو، تزامنًا مع ذكرى النكبة الفلسطينية.
كتب “سفيرسكي” في الصفحات الأولى من الكتاب تحت عنوان “بيان” أن إسرائيل “كانت فكرة سيئة منذ بدايتها. في الوقت الذي تجاهل فيه الصهاينة الأوروبيين حياة اليهود المندمجين جيدًا في المجتمعات المسلمة تجاهلًا كاملًا. تحطّمت النوايا الطيبة لتأمين وطن في فلسطين لليهود المضطهدين، بضربة واحدة، في اللحظة التي فرضت الصهيونية طرد الفلسطينيين من وطن أجدادهم. “وطنًا قوميًا يُؤسَّس بدلًا من وطن قومي آخر، يكون -دائمًا- فكرة سيئة”، هكذا يرى سفيرسكي، ومن ثم يأخذنا للحظة الحالية حيث لا حل سياسي مطروح في الأفق.
ينفى سيفرسكى وجود مجتمع إسرائيلى موحد، يرى إن هذا من قبيل الخرافة، ولكن هناك إجراءات يومية لتثبيت هذه الخرافة؛ فحتى اليهود الأثيوبيون الذين يعانون من تفرقة عنصرية مرعبة، يجد قادة إسرائيل الوسائل لإقناعهم بأنهم جزء من هذا المشروع.
وهكذا فالصهيونية ليست مشروعًا تاريخيًا أُنجزت فكرته فى الماضى فحسب، بل هو كذلك تلك الممارسات اليومية، التى تستند إلى تعاليم التوراة (الطاعة الإبراهيمية المطلقة مثلاً) لكى تضع تقاليد الحياة الإسرائيلية.
ومن خلال حديثه عن الحياة اليومية التي تشكل “الروح والمادة”، لممارسة أعمال الاضطهاد اليومية، يبرز لنا ما تعتمده المؤسسات الصهيونية، للحفاظ على المجتمع الإسرائيلي، من نماذج لخصها سڤيرسكي في أربع أوجه: “المنتزِّه، المدرس، الوالد، الناخب”، منطلقًا في دراستهم من سوسيولوجيا عملية الإخضاع، أي “نوع المواطنة التي
كما ينتقد سفيرسكي في كتابه، ذاكرة الهولوكوست التي يستند إليها المجتمع الإسرائيلي، في تبرير العنف الممارس ضد المجتمع الفلسطيني، مدعمًا حديثه بالاستعانة برفض المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد فكرة “أن الهولوكوست
ليس هذا وفقط، بل يبدو المجتمع الإسرائيلي يستخدم “الهولوكوست” لممارسة عنصرية جلية ضد اليهود الأثيوبيين والسود بشكل عام. وأيضًا أشكال “الغيتو” التي يعيش عليها اليهود في أوروبا وفي بعض المدن العربية، نجدها تظهر في إسرائيل ذاتها وهو ما يجعله يتسائل عن معنى البحث عن وطن منغلق داخل الوطن. يقول سفيرسكي: “من المعترف به على نطاق واسع بأن الصهاينة البيض أظهروا مواهبهم الاضطهادية، ليس فقط ضد غيرهم الخارجيين، بل ضد غيرهم الداخليين أيضًا، إذ لم تخلق الصهيونية ضحايا خارجيين فقط، بل ضحايا يهود أيضاً، اليهود الشرقيين”.
يقر سفيرسكي بأن المجتمع الإسرائيلي اليهودي قد لقّح نفسه بنجاح ضد التفكير الأخلاقي والسياسي، لذا فإن صناعة المعرفة عن الاضطهاد الإسرائيلي تدور دون أن تثير اهتمامًا أخلاقيًا في المجتمع. مؤكدًا أن هذا اللقاح ضد التفكير القيمي والأخلاقي والإنساني أصبح نموذجًا ذهنيًا كاملًا يطبع الإسرائيليين.”
ما نملكه إذن حسب سفيرسكي هو تجريد المجتمع الإسرائيلي من الهويات الصهيونية، وتكثيف حضور المؤسسات المنشقة عن ممارسة هذه الهويات. هذا إذن ما يمكنه أن يُحدث موقفًا معاكسًا داخل المجتمع نفسه، إضافة إلى أن السياسات الصهيونية التي ترتبط بإعادة إنتاج الذوات الصهيونية، على كافة جوانب الحياة العسكرية والسياسية والاجتماعية وغيرها، عند التغلب عليها يمكن الوصول للمرحلة التي تشكل “ما بعد إسرائيل”.
في الفصل الأخير من الكتاب بعنوان “ألف انتهاك”، يؤكد المفكر سفيرسكي أن “التحوّل الثقافي هو ما نفتقده حين نفكر في المستقبل، المستقبل الذي استُعمر بالفعل، وقُلَّصت فداحته بمفردات مثل “المناطق المحتلة”، بدلًا من الحديث بوضوح عن الهيمنة الكاملة لإسرائيل على الأراضي الفلسطينية. فهكذا يتفادى المجتمع الإسرائيلي اليهودي إلقاء اللوم على نفسه.
* يركّز سفيرسكي (Marcelo Svirsky) في أعماله على ممارسة النشاط السياسي والعمل الثوري والتحوّل الإجتماعي. وهو يحاول في مواضيعه الربط بين الفلسفة الأوروبية وبشكل خاص أعمال جيّل دولوز وفيلكس غواتاري؛ والنظرية السياسية النقدية؛ ونظريات ما بعد الاستعمار.