تستعيد مخيلة الكاتب اللبناني فوزي ذبيان في روايته “أورويل في الضاحية الجنوبية” (دار الآداب، 2017) رواية “1984” لجورج أورويل، حيث يجد نفسه أمام مشهد الناس في مقاهي الضاحية الجنوبية لبيروت، وهم يحدقون في أمين عام حزب الله حسن نصرالله أثناء ظهوره على شاشات التلفزيون. وهي التي دائماً ما أشعر بعلاقة بينها وبين مفهوم الأخ الكبير الذي تدور حوله رواية أورويل الشهيرة.
يلتقط ذبيان في روايته تفاصيل من حياة شرائح المهمّشين في الضاحية الجنوبية. بحيث نرى مجموعة من المشاهد لفقراء يعملون في مهن بسيطة مثل بيع المياه الصالحة للشـرب، أو تأجير الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البيرة الحلال، ومن يديرون هذه الأعمال. يختار الكاتب لحظات زمنية من حياة هؤلاء وما يتخلله من هروب بعضهم إلى الحشيش والمخدرات. أيضًا يظهر الملل الذي يصيبهم من خطابات حسن نصرالله وصور الشهداء التي تحتل كل زوايا الضاحية.
لا يحاول الكاتب رسم تاريخاً لشخصياته سواء من ناحية التطور النفسي أو السياق الاجتماعي مكتفيًا بالتقاطاته من الحياة اليومية. وبعد إيغال في النص، يظهر الخيط المشترك بين الشخصيات كلها، فهم بلا طموح أو أمل في شيء حتى عند “حمّودي”، الشخصية الأساسية في العمل. تظهر اللهجة المحكية بشكل لافت في لغة الكاتب. لغة المنطقة والشارع بلا أي تغييرات كبيرة. اختار ذبيان أن يكتب بلغة تُلام دائمًا من قبل النقّاد. ربما من خلال استخدامه هذا أراد أن يعطي عمله بعدًا أكثر التصاقًا بالواقع الذي يحكي عنه.
ملفت أيضًا كون الرواية لا تـقوم على حِبكة تقطع النص أثناء عملية قراءته. وإنـما هي بـنية مـفـتوحة ترغب في هذه الإطلالة السريعة على الشرائح التي تقصّدتها. وهذه الفـئـة من الشباب المهمشين، لا توفـر لهم وظائفهم أي ضمان اجتماعي أو دخل ثابت.
الشخصية الرئيسية في النص “حمودي” يعيش مع أمه العجوز بعد أن ماتت أخته التي كانت تمثل له الكثير. يسعى حمودي لأن يجد عملاً يخرجه من حالة الحزن هذه، لكن وبسبب بعض الأشخاص ذوي النفوذ، أرغم على تـرك عمله في توزيع المياه الصالحة للشرب، فاضطرّ حينها إلى الالتحاق بالعمل عند الحاجّ رضا صاحب مقهى تُـؤجّـر الأراكيل وتقدم خدمات أخرى سرية.
وفي الفضاء المكاني لعمله الجديد، يلتقي حمودي بزملاء لهم ملامح مختلفة، وممارسات تتوخى نسيان الوضع الصعب الذي يعيشون فيه. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البنزاكسول المشـرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتلقّي طلبات الزبائن. ومن حين لآخـر، يتجمع الشباب العاملون في سهرة يستهلكون فيها الحكي عن أسرار جنسية، ويبلعون الأقراص المخدرة التي اخترعها حسن النووي
وفي فضاء يطل عليه سماحة السيد وخُطبه الحماسية، وصور شهداء المقاومة: “بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيّد، والممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدّت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمـدة الكهرباء. فهو حفِظ تقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى أنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته”.
هذا العنصر في تكوين النص الروائي من ناحية الفضاء الذي يشير إلى أجواء إيديولوجية بعينها في لبنان، هو ما يعطي للعمل أبعاداً ذات دلالات قائمة على المفارقة والتناقض، من ناحية تناول بيروت المدينة من جانب تم تجاهله في أغلب الأحيان.
كما أن طريقة السرد السينمائي والمشهدية والشـخوص بحالتها الاجتماعية وانتمائها الأيديولوجي، وتناقض سلوكِها مع الأخلاقيات العامة لهذه الأيديولوجية هو ما يجعلنا نفهم على نحو أكثر جلاءً رمزية العنوان من حيث فكرة المجتمع ذو الشكل الواحد، الذي يخل بنسيجه هؤلاء الشوارد.
استطاع الكاتب أن يظهر حيواتِ مهمشين منغمسين حد الدوار في تناقضات الواقع والأيديولوجيا، في شكل روائي ينشغل تجريبيًا من ناحية اللغة والبنية. فقدم النص بجمالياته على اختلافاتها ما يقرّب من شهادة أو عدسة أظهرت فئات ليست بقلية في المجتمع اللبناني. وهي فئات ليس لها صوت ولا حقوق. ومن خلال لغة هؤلاء، وقاموسهم الذي يمزج بين المحكية والفصحى والانجليزية والفرنسية أراد ذبيان صقل الأبعاد الفكرية والشعورية لشخوصه، كجزء من نسيج واقعهم المصبوغ بالعنف والصخب الأيديولوجي، في حين أنهم كأفراد يكاد أحدهم يكون منسيًا.