كواحد من عشاق شنقيط وكنواكشوطي مخضرم عشت في المدينة قبل حوالي ربع قرن، علي القول بأن نشوة صوفية محلقة تغمرني كلما أجد نفسي هنا. أحس بأنني عدت ذلك الشاب الذي يحج كل صباح إلى شاطئ المدينة الرملي، قبيل التوجه للعمل، يحفه شدو فيروز للمدائن كلها، وما أن يحضنه هواء البحر حتى يشرع بالركض بلا هوادة على طول الرمل المشبع بماء البحر الجازر. كنت أركض بفرح غامض وعشق عذري مُبهم، وهأنذا أعود راكضاً نحو ذات العشق. التأملات والملاحظات التي أتداولها معكم الآن حول الكتاب والقراءة والوعي لم أرد أن تكون جافة وأكاديمية وتنظيرية، بقدر محاولتها مزواجة مقاربة ذاتية وجدانية بتجربة ترحالية ما مع الكتب والوعي.
سألني أصدقاء كثر ما الذي جاء بي إلى موريتانيا وكنت انهيتُ دراسة الهندسة المدنية حديثاً وأصدقائي في جلهم توجهوا إلى الخليج حيث العمل الواعد بمال ومستقبل. في أوراقي القديمة إجابة من كلمة واحدة على هذا السؤال الذي سألته أيضا لنفسي قبيل قبولي بعرض العمل المتواضع آنذاك. يومها كتبت في منتصف ورقة دفتر ملاحظاتي تلك الكلمة وأحطتها بدائرة كبيرة، أذهب من أجل “المعرفة”. أذهب لأتعرف على الغرب العربي، على بلد ربما لن تتاح لي فرصة الذهاب إليه مرة ثانية. يا لروعة الأقدار على ذلك القرار، ولكم أعتز بتلك الإجابة الآن، وأبدأ بها ملاحظاتي اليوم. المعرفة هي الكنز المجاني المنثور حولنا في الكتب وفي تجارب الحياة. هي الأغلى لكنها الأكثر وفرة والأكثر كرماً بذاتها، تمنح نفسها لروادها، بواباتها واسعة باتساع الفضاء بين أوغاريت وشنقيط.
كلما أبحرنا في المعرفة، وركضنا في فضائها الوسيع اشتد وعينا وصار أكثر عمقاً وحدة، واقتربنا مما يمكن وصفه بـ “الوعي الواعي”. لا ضرورة للتبجح بمحاولة تعريف “الوعي الواعي” لكن يمكن التأمل في بعض تمثلاته، ويمكن لنا أن نعيه أكثر لدى مقارنته بضده، أو ما يمكن وصفه بـ “الوعي الناقص”. “الوعي الواعي” هو الوعي الواعي بنقصه والذي لا يرى اكتمالاً في ذاته بل يواصل رحلة المعرفة الأبدية، أما “الوعي الناقص” فهو الوعي الموهوم باكتماله، والذي لا يرى نقصاً في ذاته ويقفل باب المعرفة، أو يكاد. لنتأمل معاً تسعة تمثلات وتقابلات بين “الوعي الواعي والوعي الناقص”، وهي ليست حصرية مطلقاً بل إنتقائية، واختيار “تسعة” على وجه التحديد وليس “عشرة” مثلاً قصدت منه الابتعاد عن “الإقفال” الذي توحي به الأعداد المدورة، عشرة، عشرين، ثلاثين، وهكذا. “تسعة” عدد غير مُكتمل… يقف على عتبة اكتمال عشرية لكنه لا يصلها، وهو بالضبط جوهر الوعي الواعي، أي البحث الدائم.
التمثل الأول في التناظر بين نوعي الوعي المتقابلين والذي نبدأ به هنا ليكن “وعي الرحلة مقابل وعي الوصول”. هو المدخل الأولي للتفريق بين وعي يرى المعرفة والحياة والعلم والتعلم رحلة لا تنتهي، ووعي ناقص منهمك بـ “الوصول”. الوعي الواعي ينتقل من مرحلة وعي إلى أخرى في رحلة لا تنتهي، أما الوعي الناقص فيظن أنه “وصل” وأنه يمتلك الوعي المطلق والمغلق. التمثل الثاني للوعيين هو “وعي السندباد مقابل وعي السكون”، وهو امتداد لوعي الرحلة مقابل وعي الوصول، أو هو رؤية له من زاوية مغايرة. السندباد هو الباحث المستديم عن الجديد، الشغوف بمعرفة الناس والجهات، المنطلق بلا بوصلة، يتلذذ بالاكتشافات الجديدة. وعلى الضد منه وعي السكون، المُتجمد، المتشكك من الآخرين، المُكتفي بالوعي الموروث والمنقول في مكان سكونه. التمثل الثالث هو “وعي الحرية مقابل وعي القسرية”: في الوعي الواعي الحرية هي قلب الحياة والكون وهي الاختيار، ولا مهادنة في ذلك. أما في الوعي الناقص فالقسرية جزء منه، والاستسلام لها والانقياد وراءها لا حيدة عنه، وهذه القسرية هي التي تقود في نهاية المطاف إلى إغلاق الوعي وإنهاء الرحلة باكراً بزعم الوصول.
التمثل الرابع هو “وعي الماضي والتواريخ المتعددة مقابل وعي التاريخ الواحد”، وهذا في غاية الأهمية لأنه يفرق بين الماضي والتاريخ. الماضي هو ما حدث فعلاً وواقعاً في الماضي، أما التاريخ فهو ما كتبه أشخاص عن الماضي، وتضمن انتقائيتهم، وتفسيرهم، واختياراتهم، وانحيازاتهم. نحن لا نعرف الماضي نعرف فقط التاريخ أو بالأحرى التواريخ. لهذا كل أمة وجماعة لها تاريخها الخاص، أو قولبتها الخاصة للماضي التي تدعم حاضرها. وعي الماضي والتاريخ مركزي لأنه يفتح بوابات الأسئلة العريضة والشك الإيجابي في كل ما وصلنا، ويسهل علينا الولوج للأنسنة. وهذه الأخيرة، هي جوهر التمثل الخامس وهو “وعي الأنسنة مقابل وعي الانغلاق”، وهنا يتمدد الوعي الواعي إلى ما بعد الذات، إلى الآخر، ويستكشف فيه الجدة ومساحات التشارك الإنساني، بعيداً عن التراتبية الثقافية أو الإثنية أو الدينية. مقابل ذلك يتكلس الوعي الناقص عند حدود الانغلاق، ولا يعني ذلك عدم التواصل مع الآخرين، بل يحدث رغم التواصل. الانغلاق هو حالة ذهنية تفترض الفوقية والتفوق على الآخرين سواء صراحة أو استبطاناً.
التمثل السادس هو “وعي الجمال مقابل وعي الحكم المسبق” وفيه يتبدى الوعي الواعي منحازاً للغوص في الجمال الكامن في الأشياء والناس والحياة، على الضد من شهوة الوعي الناقص بإطلاق الأحكام وفق معياريات مُسبقة الصنع ومتحفزة للتقييم. وعي الجمال يوسع أيضاً نطاق الأنسنة ويخفف من صدام المعياريات والثقافات المغلقة على ذاتها. امتداداً من وعي الجمال يأتي التمثل السابع وهو “وعي التموج مقابل الوعي الخطي”، وهو التمرد على الأفكار الخطية الحاسمة، والحتميات، والسرديات “التاريخية” المتبجحة بامتلاك أسرار الماضي وحسم خيارات المستقبل. وعي التموج هو السير “نحو المُستقبل” في منحنيات ودوائر تستكشف الجوار وتبدع في كل الإتجاهات، ولا تقع فريسة الوهم الخطي (الغيبي منه والحداثي).
التمثل الثامن هو “وعي الرمادي مقابل وعي الأبيض والأسود” وهو تمثل لئن كان وضوحه يوفر شرحه، فإن تجسده في الواقع والممارسة يظل الأصعب، نظراً لإغواء ثنائية الأسود والأبيض: معنا أم ضدنا، أنا الصواب المطلق وأنت الخطأء المطلق، وهكذا. وعي الرمادي هو الإقرار بأن هذا الرمادي هو الأكثر اتساعاً في الحياة والأفكار والممارسات والماضي والحاضر والمستقبلات. اليقين بالرمادي يوفر علينا الكثير من الدم والصراعات ويعلي من نسبية “الحق”.
أختم بالبحر الذي بدأت به، بالتمثل التاسع وأحب أن أسميه “وعي البحر مقابل وعي النهاية”، وهو تعبير إضافي وإسهاب في التمثلات السابقة ليس إلا. إنه التأمل في البحر، في أسراره، في كينونته، في صوته، في لونه، في أمواجه التي تتلاحق وراء بعضها وتنهي رحلتها الميؤوس منها على الشاطئ حيث تنتحر بفرح هناك. ذلك يعني الامتداد واللانهاية. وذلك كله يعني التضاد التام مع وعي النهاية، ووعي إغلاق الملف. إنه وعي إبقاء كتاب الحياة الزاخرة مفتوحاً على كل الاتجاهات وكل الاحتمالات.
من محاضرة القيت في “فضاء كمارا الثقافي” في نواكشوط بتنظيم مكتبة الآداب، 2 فبراير 2017