تؤكد التشكيلية السورية ريم يسّوف، أنّ الأعمال الفنّية، هي نوع من مقاومة عنف تشبث بذاكرتنا اليومية. وهي ترى أن الفن هو “فكر أولا وثقافة شعب”.
ريم (1979)، خريجة كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق سنة 2000، وهي تقيم في فرنسا حالياً، ومنذ بداياتها في عالم اللون وهي ترسم كما لو أنها تحلم، إذ يتداخل الواقع والخيال في لحظة هي ذروة الانهماك والحوار بين الفّنانة وقماش اللوحة الأبيض. وفي الحوارية بين أبجدية الألوان والقماش والفرشاة المشحونة بالعاطفة تتخلق لوحاتها بين يديها. ومنذ انطلاق ثورة شعبها في آذار/ مارس 2011 من أجل الحريّة والعدالة والكرامة، بدأت ريم مرحلة جديدة في تجربتها، إذ تبلور أسلوبها، فصارت الألوان أكثر شفافية، كما لو أنها تقول إنها تواجه بالرسم وتلك الألوان الشفيفة آلة الدمار والظلام والموت التي تفتك بالسوريين.
أجرينا معها هذا اللقاء حول معرضها الأخير الذي أقيم في عمّان مؤخرًا.
«حكاية قبلَ النوم»، هو عنوان معرضك الأخير في “غاليري المشرق” في عمّان 2016، ما هي فكرته وهواجس اشتغالك عليه؟
معرض «حكاية قبل النوم»، هو استمرارية لمشروعي الفنّي، ولكن برؤية مختلفة نتيجة لاختلاف مفهوم تفاصيل حياتنا اليومية وانعكاساتها على تجربتي.
اختلفت رؤيتي للتجربة الحالية، انعكاسًا لموقعي الجغرافي الأكثر بعدًا عن وطني، والعودة والانطواء لتفاصيل الذاكرة أكثر ومحاكاتها من خلال اللوحة، وهو نوع من الاستهزاء من محاولة تحويل حكاياتنا المؤلمة إلى حكايات يتناقلها العالم، لمواد توثيقية وتعدادية لما يحصل لنا من تشويه للذاكرة والمستقبل.
حمل معرضك الشخصيّ الأول بعمّان في 2013 عنوان «حوار»، ليحمل الثاني في العام التالي عنوان «رسالة طفل» في بيروت، وحمل الثالث في باريس عنوان «نسائم باردة» نهاية 2014، فيما جاء معرضك الأخير بعنوان «حكاية قبلَ النوم»، سؤالي: كيف تختارين عناوين معارضك؟
بعيدًا عن الحديث عن عملي من الناحيّة الفنّية بالمفهوم التقني والتجربة التي من خلالها يتم عنونة المعرض كمشروع، بحيث هو تاريخ أو توثيق لمرحلة مرت بها لوحتي. فإني أشير إلى أنه مع بداية الثورة أصبح لمنجزي البصري علاقة مباشرة بالواقع الذي نعيشه، إحساسي كسورية جزء من الشارع السوري، يدعوني لترجمة صوتي أولاً، وما لذلك من أثر على إنتاجي كفنانة ثانياً.
المعرض الأول في عمّان «حوار» 2013 هو استمرارية من البحث بعالم الأبيض وتقنياته، فكان المعرض نتيجة مرحلة ردة الفعل في وجه الموت لحياة الكثير من الأطفال نتيجة العنف، ونوع من الثورة الذاتية في عالمهم الخاص ومحاولة البحث عن صوت يسمع لأبعد ما يمكن.
أما معرض «رسالة طفل» 2014 في بيروت، فكان سبب تسميته هو إضافة “تقنية الكولاج” إلى اللوحة خلال مرحلة تطورها بأنواع مختلفة من الورق وتدرجاته البيضاء، والتي كانت نتيجتها تجربة أضفتها لعالم اللوحة تقنياً، واختيار أحد رموز لوحاتي المتكررة بالكثير من أعمالي، وهي طائرة الورق وتصنيعها من الورق المستخدم داخل اللوحات ذاتها إلى طائرات ورقية، وقد اتخذتُ من إحدى صالات الغاليري فضاءًا لتركيب عمل “إنستليشن” بسيط بفراغ الغرفة، يعتمد إلى دخول الزوار إلى القاعة وتفاعلهم مع العمل بتسجيل رسائل وتعليقها على الطائرات الورقية المعلقة، فكانت النتيجة وجود عدد كبير من الرسائل، وهذا مذهل وقد فاجأني جدًا.
أما معرض «نسائم باردة» في باريس في نهاية العام 2014، فقد اشتغلت عليه في وقت كانت الطبيعة تمتاز بنسائم باردة جدًا وأنا أعمل على لوحاته بشكل متواصل، مع تتبعي الألم السوري والقلق والخوف من الخذلان، كل هذا مصطحبًا بصعوبات إجراءات السفر لمواطن سوري يحمل أعماله الفنّية لعرضها في بلد آخر.
وقد جاءت تسمية المعرض كاقتراح من الصديق والشاعر حازم العظمة بعد نقاش دار بيني وبينه بخصوص المعرض، فكانت تسمية المعرض بـ«نسائم باردة»، وصولًا إلى «حكاية قبل النوم» 2016 في عمّان مجددًا، ولكن هذه المرة دون أن أتمكن من حضوره.
ما الذي تغيير في هذه المعارض خلال السنوات الثلاث الماضية، من حيث المضمون والأسلوب والتقنيات؟
بالشكل العام بدأ اهتمامي واشتغالي المستمر منذ سنوات الدراسة بالجسد كحركة وأداة تعبير مع الإطار الخارجي، وبحثي بالتعبير عن المتحرك داخل الشكل الساكن، هذا على صعيد لعبة التكوين ومرورًا بتجارب عديدة للتقنية.
أما في العام 2011 مع النظر لدراسة اللون الأبيض كمفهوم وتقنية وتحويله للون أساسي يتنفس، وتخليصه من وجوده كلون مساعد لإظهار وتثبيت الأشكال والألوان ضمن فراغ العمل، وتخلصه أيضاً من صفة الساكن، كمن يحيي ميت داخل العمل، كان ذلك بالنسبة لي مقاومًا ومرافقًا مراحل الموت والألم اليومي.
الثورة، الحرب، الحصار، الموت جوعًا، التهجير القسري، الهجرة عبر قوارب الموت، اللجوء، المنفى، كيف انعكس كل هذا على إنتاجك الفنّي؟
بالتأكيد كان لكل ما ذكرت الأثر والتأثير الكبير، كان له أولًا تأثير على حياتي الشخصية، تُرجم بتحول همي الشخصي إلى هم عام، تلبية لاستدعاءٍ من الشارع ومن وصول الحراك إلى داخل مراسمي، وانعكاس ذلك على تفاصيل يومياتنا وأعمالنا، كرفع الصوت والكلمة من خلال أداة كل منا، وهذا أخذ بالتطور يومًا بعد يوم لنصل إلى ما حدث لنا الآن.
هذه الأحداث كانت في لحظات كثيرة سببًا لانعزالي لفترات والتوحد مع تفاصيل لوحتي والحوار، فأصبحت في أحيان كثيرة لوحاتي هي دائي بمراحل بنائها ودوائي عند نهايتها.
هل اضطرتك الثورة السورية إلى إعادة النظر في حياتك كفنانة؟
نعم، ويمكنني القول باختصار: أصبحت متعلقة أكثر بحريّة التعبير والمطالبة باحترامها المتبادل، وأؤمن أننا سنصل يومًا للعدالة، وأننا لن نموت بسبب مطالبتنا بالحريّة، ولكن المؤلم أن التاريخ يتكرر بعد كل مرحلة، والموت يتكرر ولكن الولادة أيضًا تتكرر..
تستلهمين أعمالك من الواقع العنيف، لتعبري بلغة فنية ذات شفافية، بجملة لونية تتكون من طيف الرمادي، أي دلالات فنية وشخصية لهذا الاختيار؟
بكل بساطة إنه التأثر وردة الفعل، أكثر منه التعبير عن الإلهام ، ولكن استخدامي للجسد بالتعبير داخل أعمالي خلال السنوات الطويلة، فقد كانت أهم أدواتي ولكنه تحول إلى جسد طفل، كسبب ونوع من الثورة على الموت بحد ذاته، والبقاء في عالم الحريّة الحقيقي، الذي لا يفارق ذاكرة كل منّا بتفاصيلها ورموزها، ولكل منّا له خصوصيته بالتعبير.
ما هي أسباب اختيارك أن تكون مرجعيات موضوعات لوحاتك من عالم الطفولة ووداعته، للتعبير عن احتجاجك وغضبك على المقتلة السورية المستمرة منذ نحو ست سنوات؟
عالم الطفل هو الضحية الأولى والأخيرة، وقتل الأطفال أداة لترهيب نفوسنا، وقد عشنا فصول هذا الرعب منذ البداية وحتى اليوم، والصفعة الأقوى التي جعلت حياتي في منعطف آخر أمام مفهوم الإنسانية عندما تغول القتلة في الفتك بأرواح الجيل القادم، هذا الجيل الذي هو مستقبل سورية. فأعلنت كإنسانة وتشكيلية بمنجزي الفنّي رفضي لهذه المقتلة، وازداد شعوري بالغضب والخذلان بعد استخدام ضحايانا خاصَّة الأطفال منهم كأداة إعلامية، للمتاجرة بشعب عاش الموت خلال ست سنوات، ولازال في كل يوم هناك حكاية مؤلمة وخذلان جديد.
لم تعد اللوحة كبحث فني فقط بالنسبة لي على المستوى الشخصي طبعًا، إنما نمط حياة وصوت وأداة لرفض الموت والعنف والقتل الذي سكن نفوسنا جميعًا، كأحياء، ولكننّا أموات.
في معرضك هذا يلاحظ أن الطفولة -بعوالمها المختلفة- ليست موضوعًا للوحاتك وحسب، بل هي أسلوب في الرسم والتلوين، تبرز من خلال الأشكال والألوان والحركات الطفولية، ما هو تعليقك؟
كان البحث عن عالم السهل الممتنع بالمادة واللون والخط ولكن الأكثر تعبيرًا، بعد العديد من التجارب التي اقتربت فيها من النحت شكلًا والأحبار تقنيًا، فتوصلت من خلال التجربة، بمحاولة البحث عن المتلقي الطفل داخلنا لقراءة العمل الفنّي بالمفهوم العام من خلال الشكل والمضمون كجملة متواصلة، رغم خلوها من ألوان الطيف والألوان المركبة.
وماذا عن رأيك فيما ذهب إليه النقاد من أنّ “الفضاءً التشكيليّ لريم يسّوف غارق في ما يشبه الكوابيس والأحلام والأمل”؟
لم أكن يومًا أؤمن بتسمية عناوين لكل عمل فني لتحديد الرؤية، ولكن تسمية تجربة كاملة أو مرحلة أعيشها مع اللوحة منذ بداية عملي وتجربتي، وهذا يسعدني ويغنيني بتلقي جميع القراءات المختلفة والمتناقضة. فكما أؤمن بحريّة الفنّ أؤمن أيضًا بحريّة التلقي وقراءة العمل.
مرّت تجربتك الفنّية بمراحل ومحطّات، بدءًا من رموزها وعلاماتها، وصولًا إلى مضامينها الأساسية. حدثينا عن أبرز هذه المراحل – المحطّات.
منذ بداية دراستي للفنّ في جامعة دمشق لم أعمل على شكل واحد بمفهوم اللوحة الخاص من خلال المادة والتقنية، ولكن كان الجسد هو شغلي الشاغل للتعبير بالشكل والمضمون وبعلاقته مع ما حوله، وكل محاولاتي خلال تجاربي العديدة إن كانت باللوحة أو غيرها، فقد كانت تعطشاً ذاتياً ومحاولة لإغناء تجربتي الشخصية، قبل أي اهتمام بمرحلة الوصول لأي نتيجة ومن ثم عرضها، وكان لدوراني الدائم مركز هو اللوحة والعمل الفنّي.
في عام 2011 خلال وجودي في سورية، لم تعد اهتماماتي تركز على ما أملكه من أدوات ومواد ومكان، وإنما التركيز على تعبير العمل خلال اللحظة المتاحة، أما بابتعادي وخروجي من سورية، فقد تحولت جميع رموزي وموادي إلى مكان أعيشه وأعود به إلى الوطن مع من أحب، حتى برائحة تفاصيل الأماكن وأشخاصها، وازداد توحدي مع ازدياد انغماسي بتفاصيل عملي مع الوقت، إن كان بالذاكرة أو بالخبر أو بانتظار الغد.
لنتوقف عند تجربتك الفنّية مع الشعر، برأيك ما مدى استفادة الفنّ التشكيليّ من الفنون الأخرى اللغويّة والسمعيّة والبصريّة؟
بالتأكيد منذ محاولتي الأولى عام 2010 استمرت علاقتي مع الكلمة والشعر، بالذات في عملي الفنّي أكثر تفاعلًا وتواصلًا بإغناء التجربة، كالخروج من حالة تبادل الأفكار الذاتيّة في دائرة واحدة إلى عالم الحوار الممتع بلغاته، وهذا ينطبق بالعلاقة مع جميع الفنون، وهذا ما أثبتته العديد من التجارب الفنّية خلال التاريخ بأهميتها وقوة توثيقها أيضًا، لمرحلة يمر بها تاريخ الفنّ وتطوره وثقافة المجتمع بعلاقته بالفنون.
ما الذي تبقى في ذاكرتك عن دمشق؟ وعن مرسمك الذي تركته هناك؟
من أكثر الأسئلة المؤلمة التي لا يمكنني طرحها مع نفسي في الوقت الحالي، ولكن يمكن لعملي مع الوقت واستمراريته أن يتكلم.
هل أنت راضية عن إنتاجك الفنّي حتى الآن؟
لا أفضل التفكير بدرجة الرضى لدي لأنها تستدعي تجميداً للوقت والاستسلام له، فبكل بساطة أعتبر أن تجربتي وعملي على تطوير أدواتي أو الخوض في تجارب جديدة لا تنتهي بالنسبة لي، لأنني أترك للعمل القوة لتحديد اتجاهي، وأعتقد أيضاً أن لا أحد يملك نقطة النهاية ليتوقف عندها.
لو قيّض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
أعتقد أن إجابتي ستتعلق بشخصي الآن كريم يسّوف ، سأكرر بالتأكيد خياري لعالم الفنّ وبتجارب وأدوات أخرى أيضًا.
أخيرًا، ما الذي يشغلك هذه الأيام؟ وما هو مشروعك القادم؟
إلى جانب عملي المستمر مع اللوحة بالتأكيد، أعمل على محاولة جديدة لتطوير أدواتي من خلال المادة ومفهوم اللوحة كسطح إلى عالم أقرب للفراغ، ولكن سيكون فيها حضور النص أكثر وضوحًا وإبرازًا في اللوحة وبالتواصل مع المتلقي ضمن الفراغ، طبعًا أحتاج إلى المزيد من الوقت لإظهار النتائج والحديث عنها كعنوان.
الصور من مجموعة أعمال “حكاية قبل النوم”