أنا في المقبرة. أستغرب ولا أصدق كيف عبرتُ الحدود إلى هنا؟ رائحة الموت تفوح حولي. الصمت يهيمن على المكان. الصمت سلطان.
حولي تنتصب شواهد قبور حجرية صغيرة. كثيرٌ منها بلا أسماء. بعضها مكتوب بالعربية وبعضها باللاتينية. تكاد القبور تكون في مستوى الأرض.
ليست القبور سوى أكوام من التراب الأحمر وشاهدتان، إحداهما في الغرب والأخرى في الشرق. تفوح في الأجواء رائحة نار خامدة ودخان لا أراه.
أنا لوحدي في هذه المقبرة الموحشة. أبحث عن قبر أخي. أقرأ شواهد القبور شاهدة شاهدة. قبور كثيرة هي لشهداء سقطوا في حرب هزَّت الدنيا. أقف أمام قبر صغير. أتمعن في شاهدته:
الشهيدة الخالدة رَوْشَنْ حَمْزِراڤْ مهاجر (بهار كوباني)
ولدت بتاريخ: 9.9.1999
استشهدت بتاريخ: 10.10.2014
لا يبدو الاسم غريباً. أبتعد بحزن. أقول لنفسي: هي في عمر ابنتي.
بعيداً عن ذلك القبر أجلس على حجر. أسحب لفافة تبغ من علبة السجائر. لقد تركت التدخين منذ سنوات عديدة. فما هذه العلبة ومن أين أتت؟ لا أعرف الجواب. أنظر إلى المقبرة من خلال الدخان الذي أنفثه. المقبرة هادئة، صامتة، حزينة، يتيمة ووحيدة في هذا العراء غربي كوباني. أرمي لفافة التبغ قبل أن أنتهي منها وأسحقها برأس حذائي. أغادر المكان. أبحث عن قبر أخي دون جدوى.
لقد أخبرني صهري أنهم دفنوا أخي في مقبرة غربي المدينة وهأنذا هناك فأين قبر أخي؟ أخاطب نفسي بصوت مسموع: “لقد بلغ بي الحزن مبلغاً عظيماً. وربما أسأت فهم الموضوع. إذ لماذا يدفنون أخي في المقبرة الغربية ونحن لنا مدفن خاص بالعائلة في مسجد جدي في حارة سَيْدا لا يبعد عن هذه المقبرة أكثر من كيلومترين؟ ها؟”
مع لفظة “ها” ألمح معدناً دائرياً مثل طاسة نصفها في التراب ونصفها بارز. أمعن النظر فإذا هو يلمع، الصباغ الأخضر تقشر عن بعض أجزاء ذلك المعدن الدائري.
- إنه لغم.
أصرخ مرتعباً وأبتعد ثم أمشي بحذر شديد بين القبور إلى أن أجتازها جميعاً.
أتجه شرقاً. إلى الحارة الشرقية. في كوباني كانوا يطلقون على المنطقة المحصورة بين المخفر وحارة سَيْدا، حتى كانيا عَرَبا وگرێ کانی أي تلة النبع، اسمَ الحارة الشرقية. كما كانوا يطلقون على مركز كوباني اسم “باژار” أي المدينة وهي عبارة عن الدكاكين والسوق المركزي وعيادات الأطباء والصيدليات والبقاليات ومراكز بيع الخضرة ومحلات الحرفيين والصناع.
رويداً رويداً أقترب من المنازل.
هل قلت المنازل؟
ما أراه ليس سوى أكوام من الإسمنت المسلح المتراكم بعضه فوق بعض، وأعداد هائلة من أسياخ الحديد الخارجة من بين تلك الأكوام، والحجارة، والوسائد والفرش وألعاب الأطفال والطاولات والكراسي والأسرة مرمية بعضها فوق بعض تبدو من بين الأكوام وكأنها تستغيث وتئن تحت وطأة الإسمنت الثقيل. حارات بأكملها تفترش الشارع. أنقاضٌ أنقاض. أصحح جملتي السابقة:
رويداً رويداً أقترب من الأنقاض.
الأنقاض التي تتكلم الصمت بطلاقة.
أحياناً تتناهى إلى سمعي أصوات من بعيد. أصغي إليها بانتباه. هي أصوات دراجات نارية.
وحدها تلك الأصوات علامة وجود حياة بين هذه الأطلال. ما من طائر يطير في السماء. ما من كائن حي يدب على الأرض حولي. أنظر إلى السماء. أكاد أُصعق!
المئات من الغربان تطير فوقي. لا أرى السماء. السماء التي نعرفها غير موجودة. ليست هناك سوى ما يشبه أسفل قبة معدنية. الغربان تحاول تجاوز تلك القبة فلا تستطيع. ترتطم أجنحتها بالمعدن فتصدر طنيناً وتسقط الغربان على الأرض لتموت. يمتلىء الجوار بجثث الطيور السوداء.
أهرب فزعاً، أقول لنفسي محاولاً أن أهدئ روعي:
- إنه كابوس.
إنني ألهث. أشعر بالعطش. أهرب عبر الأنقاض. أمر من المساجد والدكاكين والبيوت المدمرة. رعب الألغام ما زال يلازمني. لكنني أسرع في الهرب. أسمع نشيجاً وحشرجة من مكبرات صوت المساجد. يبدو كأن أحداً يُنحر. المآذن مضطجعة على الأرض كأنها جثث مرمية على الأنقاض. إنها أصابع الرب المقطوعة هناك. صامتة ميتة. وحدها تلك الحشرجة الصادرة عنها تشعرني بأن بها رمقاً من الحياة.
ألمح إبريقاً. إنه إبريق وضوء في المسجد الكبير وسط المدينة. يدفعني الظمأ الشديد إليه. أرفع الإبريق لأشرب. أجده مليئاً بالدم. أرميه من يدي مرتعباً وأهرب كمن أصابه مسٌّ.
أركض بضع مئات من الأمتار جنوباً ثم أنعطف إلى اليسار، أي إلى الشرق، فأدخل في الشارع الطويل الذي يوصل إلى سراي الحكومة فالمخفر ثم يمتد حتى حارة سَيْدا ليصل بعدها إلى كانيا عربا.
أركض عبر الدكاكين على طرفي الشارع.
الدكاكين؟
يصحح خيالي المرعوب العبارة من جديد:
أركض عبر أطلال الدكاكين الجاثمة على طرفي الشارع وكأنها تعبت من الوقوف فأرادت أن تستريح فانهارت.
أركض دفعة واحدة من رأس السوق وحتى حارة سَيْدا. لا أتوقف.
ومع أن الأنقاض كلها متشابهة فإنني أعرف بالحدس أنني وصلت إلى الشارع الذي يفضي بي إلى حارتي حارة سَيْدا.
لا أستغرب. فأنا حتى لو عميت، قادرٌ على تمييز حارتي التي ولدت فيها وفتحت قلبي فيها أول مرة لأول فتاة أعرفها وأرسلت منها أول رسالة حب، حارتي التي شهدت أول قبلة لي، أول عناق، أول دمعة حزن، حارتي التي تعلمت فيها أول حرف من الأبجدية ونطقت فيها أول كلمة لي، خطوت فيها أولى خطواتي، كتبت فيها أولى قصائدي، الحارة التي يضم ترابها عظام أبي وأمي وأخي وأبناء عمومتي وأعمامي وعماتي وجيراني الأقربين، الحارة التي عشت فيها خمسة وثلاثين عاماً من عمري بين الغبار والطين وصخب الحياة والحب والقهر والخوف. هل يمكن أن أنساها؟
***
أنا الآن في رأس الحارة.
ظهري إلى الشمال ووجهي إلى الجنوب.
خلفي على بعد سبعمئة متر إلى الشمال تقع حدود تركيا. حدود الرعب والألغام: الموت المدفون تحت طبقة رقيقة من التراب. هناك تقع سكة القطار التي كثيراً ما تجاوزناها في طفولتنا بمتعة عظيمة ممزوجة بخوف لا حدود له لنذهب إلى الجهة الأخرى حيث نجمع اللوز من “أشجار تركيا” ونعود بنفس المتعة التي يخالطها الخوف.
أمامي هضبة مِشْتَنُور. تبدو مثل عجوز غاضب. نتبادل النظرات. تؤلمني نظراته. إنها مليئة بالغضب والأسى. مليئة بحقد مقدس. أرمقه بدوري بنظرات ملؤها الاعتذار. البيوت التي كانت تتسلق سفح الهضبة تبدو الآن مرتمية على الأرض. ميتة. لا حراك فيها ولا حياة.
تحتضن هضبة مِشْتَنُور تلك البيوت المهدمة مثل أم ثكلى تضم أطفالها الميتين. أكاد أسمع نشيج الهضبة يمر كالريح من الحارات الوحيدة.
يفصلني عن مسجد سَيْدا، أي مسجد جدي الشيخ صالح، حوالي مئة وخمسين متراً. بيني وبين منزلي مئتا متر لا أكثر.
يا إلهي.
قلبي ينبض بشدة. أسمع دقاته تبدد صمت الحارة. قلقٌ أنا كقطرة مطر على زهرة في يوم ريح. أخطو بضع خطوات. الأنقاض تسد الطرقات حتى ليخال المرء أن زلزالاً عنيفاً ضرب المكان.
المنازل مهدمة. كتل الإسمنت المسلح متراكمة بعضها فوق بعض.الأثاث محطم، النوافذ مكسرة، الأبواب مخلوعة، واجهات بعض المحلات مرمية بعيداً، الطوابق العليا تتمدد الآن وسط الشارع، مدافئ الحمامات بين الأنقاض، الجدران تناثرت حجارتها وتبدو كأنها تئن وتستغيث. سيارة بيضاء تبدو مغمورة بالأنقاض.
علي أن أمشي على مهل بين تلك الأنقاض التي تسد الآن طريقي. علي أن أنتبه إلى مواطئ قدمي وأمشي حذراً. قد تكون ثمة قنبلة غير منفجرة أو لغم مزروع هنا. الموت، الصمت والخوف ثلاثي يبسط سلطته على المكان، يغزو قلبي الذي يدق بعنف أكثر استعداداً للوصول إلى حارتي المدمرة.
ينتصر قلبي. ينتصر بدون أدنى مقاومة من الغزاة الثلاثة المرعبين. أتقدم أكثر. أعرف هذه البيوت بيتاً بيتاً. أراها من بعيد فأقول بلهفة من يكتشف شيئاً فقده: “ذاك هو بيت جاري الحاج مسلم حَمْزِراڤْ المهاجر، والمنزل الذي يقابله هو منزل الخالة خَجو الداية التي ولد أغلب أبناء وبنات الحارة على يديها المقدستين. ذاك منزل عمي المرحوم مدرس اللغة العربية، يليه بيت ابن أختي الذي يعيش الآن وحيداً في إسطنبول بعد أن لجأ أبناؤه وزوجته عبر البحر إلى أوربا. ذاك منزل عمي الآخر مدرس الرياضيات المقيم الآن في تركيا، ذاك منزل ابن عمي الذي لا أعرف أين هو الآن، وذاك هو بيت صديقي وجاري وأخي في الرضاعة الذي قضى نحبه شهيداً على ذرى جبال بعيدة، أمه وإخوته الآن في أربيل، ذاك بيت ابن عمي المقيم الآن في الدانمارك، وأبناؤه وزوجته، ابنة أختي، في إسطنبول يستعدون للحاق به ولم الشمل، ذاك بيت أخي المرحوم خلّو، ذاك بيت أختي، ذاك بيت أختي الأخرى، ذاك بيت أخي الذي قضى نحبه في حادث سيارة منذ سنوات وتقيم زوجته في إسطنبول وابناها في المانيا، ذاك بيت أخي الأكبر المقيم حالياً في إسطنبول وتناثر أبناؤه في كل مكان. ذاك بيت جارنا حيدو، جارنا حج ويس، جارنا بوزان حج كوسي، جارنا حَمْسيوي، جارنا حَمْجِنْ، جارتنا وَرْدِينه، جارنا حج محمد توب إبرام. ذاك كان بيت حَمِه خوجه، ولأن الجدران تهدمت فإنني أرى الشوارع المحيطة أيضاً: ذاك هو بيت أختي التي تقيم الآن في إسطنبول، ذاك بيت جارنا أحمدى كمال، ذاك بيت أمين مامى، وذاك البيت الذي يقع شرقي المسجد، البيت المؤلف من طابقين والمهدم هو بيت أختي المقيمة حالياً في أربيل، ذاك بيت ابن عمي المقيم في مخيم اللاجئين في علي كور في سروج، ذاك بيت عمي المرحوم شيخ الطريقة النقشبندية ملا حسين الذي توزع أبناؤه بين دول كثيرة. ذاك بيت أختي المقيمة في ماردين بتركيا، وذاك البيت البعيد المستوي مع الأرض هو بيت أختي القريب من مسجد الشريعة، إنها أيضاً تقيم في إسطنبول وزوجها في اللاذقية وأولادها توزعوا أيضاً في دول كثيرة، وذاك بيت، وذاك بيت…..
يا إلهي. تستبد بي رغبة عارمة أن أذهب إلى كل تلك البيوت وأطرق أبوابها.
أبواب؟
وهل بقيت أبوابٌ تُطرق في هذه المدينة المنكوبة؟
لا أبواب.
لا جدران تستند إليها الأبواب.
ولا أحد هنا يطرق الأبواب سوى الريح والفجيعة.
حين كنا أطفالاً صغاراً، كنا نمارس الشقاوة فنمر بالليل من أبواب الحارة ونرميها بالحجارة ثم نهرب. كنا نرمي الحجارة حتى على أبواب بيوتنا. يمنحنا ذلك لذة تفوق الوصف. تختلط المتعة بالخوف فيتولد مزيج غريب من المشاعر حين كنا نراقب من زوايا الشارع حيث نختبئ كيف أن آباءنا أو إخوتنا الكبار أو أمهاتنا يخرجون رؤوسهم من الأبواب وينقبون في الظلام عن زوار متخيلين.
لا أبواب الآن. لا أطفال يطرقون الأبواب من بعيد بالحجارة. لا أمهات تفتح الأبواب للزوار.
ليس على مد البصر سوى الأطلال. الأطلال. الأطلال.
ما من أثر سالم في الحارة سوى مئذنة مسجد جدي المعدنية.
أخطو خطواتي الأولى وأتقدم.
أمرُّ بجانب بيت صديق المدرسة والطفولة حلمي محمود الذي كان لقبه هِرمي حِسْنيري. صديقي هذا قتل في تفجير البوابة الحدودية في مرشد بينار وتمزق إلى أشلاء. أمام بيته أرى جثة. أتفاجأ.
ليست هذه المرة الأولى التي أرى فيها جثة ميت. في لبنان، وخلال خدمتي العسكرية في بيروت شاهدت جثث عسكريين سوريين مقتولين. شاهدت الدماء التي تلطخ الجدران والأدمغة التي أريقت في الخوذات المعدنية. بل شاهدت حتى الدود الذي ينغل في تلك الأدمغة البشرية الملتصقة بقعر الخوذات المعدنية. بالرغم من ذلك لم أخف.
لكنني الآن أشعر برهبة. أخاف من هذه الجثة.
رأس يعلوه شعر أشعث طويل، وجه مكفهر تغطيه لحية غبراء طويلة. أثر دم سال من أذني صاحب الجثة وعينيه لا يزال طرياً. يغطي جسمه ثوب فضفاض من الجوخ البني الخشن والذي لا يتجاوز الركبتين إلا بسنتيمترات فوق سروال قصير. قدماه حافيتان وحذاءاه مرميان بعيداً عنه: إنها جثة داعشي.
جثة لها رائحة وخازة. أسد أنفي. أبتعد عن الجثة وأقترب من بيت الداية خجو.
لم يبق بيني وبين مقبرة المسجد سوى ثلاثين متراً.
لم يبق بيني وبين أبي وأمي سوى حوالي خمسين خطوة.
كنت طوال أربعة عشر عاماً من الغربة أزور في خيالي قبري أبي وأمي. كنت أنتظر عودتي إلى البلاد وأحلم بزيارة حارتي من جديد لأسلم أولاً عليهما ثم أزور أخواتي وإخوتي وأقاربي وجيراني. كنت سأعتذر لأبي وأمي قائلاً بخشوع أمام قبريهما: “عفوك يا أبي، عفوك يا أمي. لقد تركت روحيكما هنا وهاجرت. تجاوزا عن خيانتي هذه. لا تؤاخذا ابنكما على عقوقه. عفوك يا أبي، عفوك يا أمي”.
الفصل خاص برمان الثقافية، والرواية تصدر قريبا