خمسة أيام هي التي أمضيتُها في مدينة مارسيليا جنوب فرنسا، وكانت لي، يوماً بيوم، مورداً معرفياً (وعاطفياً) لتعريف “فلسطينيتي” ولإدراكي أكثر للثقافة التي تنتمي إليها هذه “الفلسطينية”، من هذه الموارد كانت مثلاً أحاديث على طول الأيام مع فواز طرابلسي، أو تناول لوجبات الفطور مع ليلى شهيد، ومنها كذلك المتن والهامش في التظاهرة: برنامج “تصوير فلسطين” المتنوّع، والأحاديث الجانبية المتخللة له.
في متحف «ميوسم» جنوب مارسيليا، هذه المدينة الواقعة أقصى جنوب فرنسا، في جنوبها، في أقصاه كذلك يقع هذا المتحف، فيه، تحديداً في طابقه الأول تحت الأرض، الملامس لسطح البحر، هناك كانت التظاهرة، كأنّها حافّة فرنسا على البحر المتوسّط، النقطة الأقرب من هذه المدينة إلى أخرى في فلسطين، لتكن عكا. إن أراد أحدنا انتشال قارب ما للإبحار به إلى عكا لخرج من هنا، من باب زجاجي في الصالة يفتح على البحر.
هناك كانت تظاهرة «تصوير فلسطين» التي نظّمت لها رشا سلطي، ودعت إليها فلسطينيين من مجالات إبداعية ومواقع جغرافية متنوعة، وهو حال الثقافة الفلسطينية، كحال أهلها الآتين إلى مارسيليا من عكا وباريس وبيروت ورام الله وغزة وحيفا ونيويورك…
ليست التظاهرة تقليدية بمعنيين: أنها أولاً لا تنحصر بشكل ثقافي دون آخر، بل تقصّدت التنويع في ذلك، وأنها ثانياً لا تنحصر فقط في النتاج الجديد، بل كذلك تتقصد المضمون الاستعادي للثقافة الفلسطينية، مقدّمةً هذه الثقافة بشكل عابر للمكان الفلسطيني المشتت، وللزمان الذي سجّل هذه النتاجات وامتد عبره الشتات المكاني، ومقدّمة الوسائط المتنوعة لتلك النتاجات التي شاركت في تشكيل الثقافة الفلسطينية كما هي اليوم.
أما الوسائط هذه فهي متراوحة من الكتاب إلى الفيلم، من الكلمة إلى الصورة والصوت، وقد شملت التظاهرة أفلاماً وندوات ومعارض وعروض، في التاريخ والأدب والسينما والفنون الحديثة بأشكالها وتداخلاتها المتنوعة، دون أن أضطر لأدخل هنا في تسميتها، إذ يمكن الاطلاع عليها في الخبر الذي نشرناه من هناك.
لم يكن تقديم النتاج الفني الفلسطيني في التظاهرة محدوداً بالعرض ذاته، كما هي الحال “العادية” لتقديمه، أي لا نحكي عن عرض فيلم هنا وندوة هناك وكفى، بل كان ذلك يُرفق بحضور صاحب العمل، الفنان/المؤلف، ليناقش عمله مع الجمهور، من خلف الطاولة، ومن أمامها لاحقاً، قبل وبعد عرض عمله أو خلال أيام التظاهرة، ليكون المتلقي هنا، وهو جمهور فرنسي في غالبيته، أكثر من متلقٍ لعمل فني ينتهي بانتهاء عرضه، ليكون لتقديم العمل بعداً ثقافياً نقدياً يتخطى العمل بحذ ذاته.
نحن بحاجة للإكثار من التظاهرات التي تحتفي بالثقافة الفلسطينية وتمنحها فرصاً للوصول إلى العالم، بما يتناسب مع كمية ونوعية النتاج الثقافي الفلسطيني، وهذه ساحتنا الوحيدة التي يمكن أن نتقدّم فيها على محتلّنا: الثقافة والآداب والفنون، لا بإنتاجها وحسب بل بتقديمها للمتلقي الأجنبي، دون أن تكون هذه التظاهرات بالضرورة بتنوّع وشمولية تظاهرة «تصوير فلسطين»، وهي عديدة، هنا في فرنسا مثلاً، مهرجانات أفلام وفنون معاصرة وموسيقى… لكنّنا، أساساً، بحاجة إلى ما تميّزت به «تصوير فلسطين»، وهو ما ذكرته أعلاه: التنوع والشمولية من جهة والتوجّه الاستعادي من جهة أخرى. إذ يتم التركيز غالباً على النتاجات الجديدة.
لم أشعر بأني، هناك، كنت في نقطة بدت كالأقرب إلى فلسطين ويكفي أن أحمل قارباً وأفتح باب الصالة الزجاجي لأقفز إلى البحر، لأني هناك، بل لأن الفلسطينيين واللبنانيين والفرنسيين هناك جعلوها كذلك. دونهم، لوقفتُ خلف الزجاج ونظرت إلى البحر، أتأمل زرقته ربما حتى لو كانت باهتة، بدل أن يخطر لي قارب يصل عكا.
لي حكاية فلسطينية صغيرة أحب أن أنهي هذه الأسطر بها، وإن كان جميلاً أن تنتهي بـ “…قارب يصل عكا”:
خرج جدي من ترشيحا، قضاء عكا، عام النكبة وأخته بقيت هناك. كنت في التظاهرة كمحرّر هذه المجلة، وكان مدير “المتحف الفلسطيني” كذلك. سألتْه أخته، التي أعرفها، أثناء إحدى الندوات إن كان في مارسيليا وأين هناك، وسألتني السؤال ذاته، عبر الفيسبوك. أخبرتني، أخيراً، أنّ محمود هواري موجود في الندوة ذاتها، وكان جالساً خلفي.
أخت جدي التي بقيت في ترشيحا عام النكبة هي أم مروان، زوجة عمّه لمحمود.
لم تكن التظاهرة إذن لمّ شتاتٍ فلسطيني بالمعنى الثقافي والفني وحسب، بل كانت، كذلك، وهو حال الفلسطينيين، بالمعنى الشخصي والعائلي.