صباح السادس عشر من شباط عام 1977، وعلى منعطفٍ حادٍ عند بلدةٍ من جبال الشوف اللبنانية، وُجِدت سيّارة المرسيديس ذات اللوحة التي تحمل رقم 5888/ الخاصّة بالزعيمِ اللبنانيّ كمال جنبلاط، وقد توسّطت الطريقَ بصورةٍ مريبة، وفي داخلِها كان زعيمُ الحركةِ الوطنيّة اللبنانية قد تحوّل إلى جثّة مزقها الرصاص، في الاغتيال الذي يعتبرُ حتى اليوم، واحدًا من أكثر الاعتداءات وأشدّها أثرًا في تاريخ الاغتيال السياسي في لبنان.
لم تقتصر الرغبةُ بإحياء ذكرى اغتيال الراحل على ابنِهِ وخلفهِ وليد جنبلاط، الذي حشدَ لها مؤخراً عشرات الآلاف من المناصرين في ساحة قصر العائلة في المختارة، ليُلبسَ نجلهُ تيمور الكوفية الفلسطينية أمام الجموع، موصيًا إياهُ بالمتابعة والمحافظة على إرث جدّهِ كمال. لكنّ الرغبةَ تلك كانت فيما يبدو هاجس المخرجة دعاء الأشقر أيضًا، الذي تزامنَ عرضُ فيلمها “مقتل كمال جنبلاط”، في إحدى تحقيقات برنامج الصندوق الأسود الذي بُثّ على قناة الجزيرة، بالتزامن مع الذكرى الأربعين لرحيلِ رجل المختارة. ومن المُرجح أن تكون المخرجة قد أرادت لفيلمها أن يخرجَ إلى النور في هذا الوقت تحديدًا.
يطرح الشريط الاستقصائيّ “مقتل كمال جنبلاط” مجموعةً من الأسئلة ويحاول الوصولَ بصورةٍ منطقية إلى خلاصاتٍ تفيدُ في معرفةِ الجُناة المسؤولين.
سياسيًا، كانَ لكمال جنبلاط، حسب الفيلم، ثلاث خصوماتٍ يُمكنُ أن تكون لها مصلحة في التخلصِ منه، أولاها، الجبهة اللبنانية، ممثّلةً بالقيادات السياسية للمسيحيين الموارنة، في بلدٍ كان يعيشُ منذُ حوالي سبعمائة يومٍ حربًا أهليةً ضروسًا، امتدت على نحو عقد ونصف، ودفع ثمنها أكثر من ربع مليون شخص. كان من بينهم الراحل، وإن لم يكُن الجناةُ لبنانيين. الخصومةُ مع الجبهة اللبنانية لم تكن مخفية، والتصريحات الإعلاميةُ بين الطرفين والاشتباكات المسلحة آنذاك تُبقي احتمالَ تورطِ الجبهة في الجريمة. حيثُ وفي تسجيلٍ عرضهُ الفيلم نرى جنبلاط يتهمُ الجبهة بإقامةِ فصلٍ عنصريّ بين الموارنة وبقية طوائف المجتمع اللبناني.
أما الخصومةُ الثانية فكانت مع إسرائيل، وهي ليست غريبةً على الطرفين، إذ لا يُمكنُ للمرءِ بحالٍ من الأحوال أن يُنكرَ عداء جنبلاط لدولة الاحتلال، وهو ذو المنبت العروبيّ، الميّال منذُ لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره إلى الانخراط في كلّ ما يتعلّقُ بقضايا المنطقة العربية. والذي كانَ يُعتبرُ حليفَ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ثمّ إنهُ وعلاوةً على كلّ ذلك، كان سندَ الفدائيين الفلسطينيين منذ بداية تشكلِ منظمة التحرير، وحتى آخر حياته. والمُشكّل الأبرز للحركة الوطنية التي كانت حليفَ الفلسطينيين الأهم خلال سنوات الحرب. ومثلما يصعبُ إنكارُ ذلك، يصعبُ أيضَا إنكار، أو نسيان، أن إسرائيل وأجهزتها لا خيارَ لها مع خصومها إلا التصفية، تحديدًا في لبنان، حيثُ لها سجلّ حافل من الاغتيالات السياسية في السبعينيات.
ثالث وآخر تلك الخصومات التي افترضها الفيلم، كانت مع نظام الرئيس السوريّ حافظ الأسد. الذي لم يتوانَ عن قتلِ خصومِهِ من قبل وصوله إلى سدة الحكم في سوريا عقب انقلاب 1970.
كان حافظ الأسد لاعبًا رئيسًا في حرب لبنان، عبر قوات الردع العربية التي مثّلَ جيشهُ الأسّ الأكبر لها، وكان جنودهُ يشكّلون القوة الأثقل فيها. ولم تكن خيارات كمال جنبلاط خلال سنوات الحرب قابلةً للأخذ والردّ وألاعيب السياسة، حيثُ ظلّ الموقفُ من القضية الفلسطينية محرّكًا لسلوكِ الحركة الوطنية اللبنانية، بصرفِ النظرِ عن أنّ أحدًا لا ينجو من سمة التلوّثِ بدماء الحروب الأهلية. وقد وصل النزاعُ بين جنبلاط والأسد لاعتبار الأخير أنّ الأول كان يخطط للاستيلاء على الحكم في لبنان بقوة السلاح وطرد المسيحيين من المنطقة، بينما كان كمال جنبلاط يعتبر أن مؤامرةً تُحاكُ ضدّ لبنان والحركة الوطنية والثورة الفلسطينية، يشتركُ فيها حافظ الأسد مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
إنّ عدم القدرة على استبعادِ ضلوعِ جهةٍ من الجهات السياسية الثلاث بجريمة الاغتيال، ذهبَ بالمهتمين، ومنذُ ما بعد الـ 1977 وحتى أيامنا هذه، إلى تحرّي الجريمة جنائيًا. ومن بينهم طاقم الفيلم.
وفي هذا الصددِ لم يقُل الفيلمُ ما لم يُقل سابقًا، إذ يعرفُ المُتابعونَ أكثر الملابسات الجنائية التي سردَها، من السيارة البونتياك (التي يُحسبُ للفيلمِ اتصالهُ بالشركة الصانعة لها) ذات اللوحة العراقية، وبقيّةِ الملابساتِ التي تُعتبرُ فرضيّاتٍ ذات إحساسِ جنائيّ أمنيّ لدى العميد عصام أبو زكي، أحد شهودِ الفيلم الرئيسيين، وأول ضابط تحقيق وصلَ إلى موقع جريمة الاغتيال (إذ كانَ العميدُ قد رواها في لقاءات سابقة)، حتى أنّ أسماء الجُناةِ التي قدّمها الفيلمُ في نهايتهِ كانت معروفةً إعلاميًا. لكنَّ قوّةَ الفيلمِ كانت في جمعهِ لكلِّ تلكَ الأدلّة التي كانت معروفةً فُرادى، في وثيقةٍ شبهِ شاملة لكلّ من يبحثُ في أرشيفِ حادثة الاغتيال. لقد نجحت المخرجة وفريقها في جعلِ تحقيقِها الاستقصائيّ أقرب إلى الشموليّ، من حيثُ جمعِ كلّ الأدلّةِ، بشكل دراميّ بوليسيّ جيّد، في وثيقةٍ واحدة.
هنا نعرفُ الصلة المباشرةَ للنظامِ السوريّ باغتيالِ كمال جنبلاط، حيثُ الفندق الذي كانَ الجُناةُ ينزلونَ فيه في رأس بيروت، وكان مؤجرًا لسوريٍّ جعلهُ مقرًا لقوات الردع (السورية طبعًا)، وحيثُ النقيب الذي سيصيرُ فيما بعد اللواء قليل الظهورِ إبراهيم حويجة، مدير المخابرات الجوية السورية المخيف لدى السوريين. وحيث تسجيلات رفعت الأسد الواضحة.
لقد شاهدنا مشاهدَ تمثيلية سوفَ تجعلُ من حادثة الاغتيال أكثرَ رسوخًا في عقولِنا، بحيثُ كُلّما ذُكرَ اغتيالُ كمال جنبلاط، استرجعنا حادثةَ اغتيالَهُ من خلال مشاهد الفيلم.
لقد سردَ الفيلمُ الحادثةَ بشكلٍ جنائيّ منطقيّ، لكنّ السؤال، يبقى في إمكانيةِ حصول جريمةٍ كهذهِ بدونِ تخلٍّ سياسيّ، أو ضوءٍ أخضرَ للنظامِ السوريّ بتصفيةِ جنبلاط، حليفِ السوفييت وحلفائهم، من قبلِ هؤلاء السوفييت وحلفائهم بالذات؟ سؤالٌ كانَ من نواقصِ هذه الوثيقة الاستقصائيةِ الجيّدة.