ترجمة: رهام محمد
ولد فالتر بنيامين في برلين عام 1892، درس الفلسفة والأدب في فرايبورغ وبرلين. كتب في مواضيع كثيرة وواسعة إذ يتنقل في أسلوبه بين النثر والمقطوعات والأقوال المأثورة والاستشهاد بالأقوال والاقتباسات. تعتبر أطروحته للدكتوراه بعنوان “أصل الدراما المأساوية الألمانية” هي الكتاب الوحيد الكامل له، أما بقية كتاباته فكانت على هيئة مقالات وتراجم وشذرات، وهذه المقالة هي جزء من مجموعة مقالات جُمعت في كتاب تحت عنوان “إضاءات” قامت حنا أرنت بتحريره وتقديمه. في أيلول عام 1940 حاول بنيامين العبور إلى أمريكا عن طريق إسبانيا لكن تم منعه، لذلك أقدم على الانتحار لأنه لم يتحمل فكرة الوقوع أسيراً في أيدي الغستابو. يتجلى في هذا المقال أسلوب بنيامين في حياته وفكره فهو مفكر عاش حراً ومات حراً.
تفريغ مكتبتي ……حديث عن اقتناء الكتب
إنني أفرغ مكتبتي. نعم إنني أفرغها. لم تعد الكتب على الرفوف، ولم يمسها بعد مللٌ طفيفٌ من التنظيم. لا أستطيع أن أصعد وأنزل هذه الرفوف من أجل أن أعرض تلك الكتب على الجماهير الصديقة. يجب ألا تخشى شيئاً كهذا، بل عوضاً عن ذلك، يجب عليّ أن أسألك الانضمام إليّ في فوضى صناديق الكتب هذه التي فتحت لتوها، الهواء مشبع بغبار الخشب، والأرض مغطاة بالأوراق الممزقة، عليك أن تنضم إلي بين كومة المجلدات هذه التي عادت لترى ضوء النهار مرة أخرى بعد سنتين من الظلام، لربما تكون جاهزاً لمشاركتي هذه الحالة – بالتأكيد هي ليست حالة رثائية بل حدس – تثيره هذه الكتب عند مقتني الكتب الحقيقي، عند رجل يتحدث إليك وبصورة أقرب تدرك بأنه يتحدث فقط عن نفسه. ألن تكون عجرفة مني بأن أصنف لكم الأقسام الرئيسية أو الكتب القيمة من أجل أن أبدو لكم موضوعياً وواقعياً، وأن أعدد لكم الأقسام الرئيسية والكتب القيمة، ما الفائدة من أن أقدم لكم تواريخهم أو حتى أن أتحدث عن أهمية كاتب ما؟ أنا ككاتب لدي في رأسي أشياء أقل إبهاماً وأشياء أكثر وضوحاً من ذلك، فما أهتم به حقيقة هو أن ألفت انتباهك للعلاقة بين مقتني الكتب وممتلكاته وما الذي يدفعه لاقتناء أكثر من مجموعة. من الاعتباطي أن أشرح لك طرق اقتناء الكتب، لأن هذه الأساليب وغيرها هي مجرد وضع سد أمام طوفان من الذكريات يندفع تجاه أي مقتنٍ وهو يتأمل مقتنياته. فكل شغف محاط بالفوضى، لكن شغف المقتني محاط بفوضى الذكريات، بل وأكثر من ذلك فإنه محاط بالحظ والقدر اللذين يظهرا الماضي أمامي حاضراً بوضوح في الفوضى المعتادة لهذه الكتب. وما كل هذه الكتب سوى فوضى تلاءمت مع نفسها حتى غدت تبدو وكأنها منظمة؟ بالطبع قد سمعتم عن أشخاص تحولوا بعد فقدانهم كتبهم إلى أشخاص عديمي الجدوى، أو سمعتم عن أشخاص أصبحوا مجرمين خلال سعيهم لاقتنائها وجمعها. هذه هي المساحات التي يوازن فيها النظام الهشاشة المتطرفة، ويقول آناتول فرانس: “المعرفة الوحيدة الدقيقة المتاحة هي معرفة تاريخ نشر وتنسيق الكتب”. وفي الواقع لو كان هناك نظير لهذا اللبس في المكتبات فهو نظم فهرستها.
بالتالي، هناك صراع في حياة مقتني الكتب، صراع جدلي بين قطبي النظام والفوضى، ووجوده مرتبط بشكل طبيعي بأشياء أخرى أيضاً: بعلاقة مُلكية غامضة جداً، وهو ما سنتحدث عنه أكثر لاحقاً. وأيضاً بالعلاقة مع الأشياء التي لا تعبر قيمتها عن وظيفة نفعية – أي الأشياء التي ليس لها فائدة – ولكن يدرسها المقتني ويحبها كمشهد أو كمسرحية لمصيره. السحر الأكثر عمقاً لدى المقتني هو أن يضع أغراضه الشخصية داخل دائرة سحرية كي تظل ثابتة فيها كأنها لذة التشويق الأخيرة، لذة اقتنائها وإهمالها. كل شيء يتذكره ويفكر فيه وكل شيء واعي يصبح ركيزة وإطاراً وأساساً وقفلاً على ممتلكاته، أما الزمان والمكان والمهنة والمقتنيات السابقة فهي بالنسبة للمقتني الحقيقي الخلفية الكاملة لشيء يضاف إلى موسوعة سحرية يكون جوهرها هو مصير ممتلكاته. في هذه المساحة المقيدة، يمكن أن نعرف كيف لعلماء الفراسة الكبار- والمقتنون هم علماء فراسة عالم الأشياء – أن يتحولوا إلى مفسرين للقدر. على المرء فقط أن يراقب مقتنياً يتعامل مع الأشياء في حالات ضعفه العاطفي. فعندما يمسكها بيديه يبدو كأنه ينظر من خلالها إلى ماضيها البعيد الذي ألهمه. أما الجانب السحري للمقتني فهو صورته وهو كبير السن كما يمكن أن أدعوها.
Habent sua fata libelli (أي بحسب مقدرات القارئ تتحدد مصائر الكتب) ربما هذه الكلمات كانت تشير إلى مقولة عامة عن الكتب. لذا كتب مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتي و«الأخلاق» عند اسبينوزا و«أصل الأنواع» لديها نفس المصير. ولكن المقتني يفسر هذه الجملة اللاتينية بشكل مختلف، فبالنسبة له ليس فقط الكتب بل أيضاً نسخ الكتب لها مصائر. وبهذا السياق يعتبر أهم مصير للـ “نُسخ” هو أن يصادفها المقتني ويضمها إلى مجموعة مقتنياته. إنني لا أبالغ عندما أقول بأن المقتني الحقيقي عنما يقتني كتاباً قديماً إنما يقوم بإعادة إحيائه، وهكذا تمتزج الطفولة والشيخوخة عند المقتني. أما بالنسبة للأطفال، فلديهم القدرة على تجميع وتجديد الوجود بمئة ألف طريقة لا تعرف الفشل، فبالنسبة للأطفال الاقتناء هو عملية التجديد الوحيدة، أما الطرق الأخرى مثل تلوين الأشياء وتفكيكها ولصقها – تشكل النطاق الكامل للوسائل الطفولية للاقتناء، منذ لمس الأشياء حتى منحها أسماء كي يعيد تجديد العالم القديم – وهي رغبة المنتقي العميقة عندما يندفع لانتقاء الأشياء الجديدة، ولذلك مقتني الكتب القديمة أقرب إلى اقتناء أمهات الكتب أكثر من اقتناء الإصدارات الفخمة. كيف يمكن للكتب أن تعبر عتبة المجموعات لتصبح ملكية لمقتنٍ؟ تاريخ اقتنائها هو الموضوع الذي سنأخذه بعين الاعتبار فيما يلي.
من بين كل طرق اقتناء الكتب تعتبر كتابتها بخط اليد أكثر طريقة تستحق التقدير. وعند هذه النقطة العديد منكم سيتذكر بسرور المكتبة العظيمة التي اقتناها أستاذ المدرسة الفقير ووتس في قصة جان باول، الذي قام بكتابة كل الأعمال التي أثارت عناوينها اهتمامه عندما شاهدها في دليل معرض الكتاب لأنه لم يكن يستطيع أن يشتريها. الكتاب الحقيقيون هم الذين يكتبون الكتب ليس لأنهم فقراء، بل لأنهم لا يقبلون الكتب التي يستطيعون شرائها ولا يرغبون بها. أنتم سيداتي وسادتي، من الممكن أن تعتبروا هذا الكلام تعريفاً غريباً عن الكاتب. ولكن كل شيء يقال من وجهة نظر مقتنيي الكتب الحقيقين غريب الأطوار.
ومن بين أكثر حالات انتقاء الكتب شيوعاً والتي تعتبر الأنسب للمنتقي هي استعارة كتاب دون تحديد موعد إعادته. مستعير الكتاب ذو المكانة الحقيقية الذي أخذناه كمثال هنا يحاول أن يثبت لنفسه بأنه مقتن رفيع للكتب، ليس بالحماسة التي يحرس بها كنوزه المستعارة أو بعدم اكتراثه بمواعيد التذكير اليومية لإعادة الكتب المستعارة، إنما لفشله بقراءة هذه الكتب. ويمكنني التحدث عن تجربتي إذ تخدم كدليل، يقوم الإنسان غالباً بإعادة الكتاب في الوقت المحدد عوضاّ عن قراءته، ولكن هل يمكن اعتبار عدم قراءة الكتب سمة المقتنين؟ ربما تبدو هذه المعلومة جديدة بالنسبة لك، ولكن في الحقيقة هي ليست معلومة جديدة على الإطلاق إذ يتفق معي الخبراء عندما أقول بأن هذه المعلومة قديمة. وأعتقد أنه يكفي أن نقتبس الإجابة التي رد بها آناتول فرانس على شخص غير مثقف أعجب بمكتبته وكالعادة وجه إليه السؤال المعتاد، “وهل قرأت كل هذه الكتب سيد فرانس؟- ولا حتى عُشْرها، أنا لا أعتقد أنك تستخدم طقم المائدة الصيني كل يوم؟”.
وبالصدفة منحت لنفسي الحق لأضع هذه الفكرة موضع الاختبار، لسنوات أو في الثلث الأول الذي بدأت به بتأسيس مكتبتي إذ لم تتجاوز حينها رفين أو ثلاثة وكانت هذ الرفوف ترتفع بضع انشات كل سنة. كان هذا عصر التشدد فلم أكن أسمح لنفسي بأن أدخل أي كتاب دون أن أتأكد بأنني لم أقرأه بعد، لذلك ربما لم أقتنِ مكتبة شاملة بما فيه الكفاية لتستحق اسمها إن لم يكن فيها حالة تضخم. وفجأة تغير هذا وصارت الكتب غالية بالفعل ومن الصعب الحصول عليها. على الأقل هذا ما بدا في سويسرا. في الساعة الحادية عشرة عندما أرسلت طلباتي الرئيسية الأولى للكتب من هناك وبهذه الطريقة كنت قادراً على الحفاظ على الأشياء غير القابلة للتبديل مثل مجموعة كتب الفارس الأزرق Der blaue Reiter وكتاب باخوفين “ملحمة تانكويل” التي كان يمكن الحصول عليها من الناشرين في هذا الوقت.
حسناً، – ربما ستقول – بعد تقصي كل هذه الطرق التي يجب أن تجعلنا نصل في النهاية إلى الطريقة الأكثر انتشاراً لاقتناء الكتب، أو ما يسمى بشراء الكتب، تعتبر هذه الطريقة واسعة الانتشار ولكن ليست مريحة. فعملية الشراء التي يقوم بها جامع الكتب لا تتشابه كثيراً مع عملية الشراء التي يقوم بها الطلاب في المكتبات لشراء الكتب الدراسية، وأيضاً هي عملية لا تتشابه مع شراء رجل كتاب كهدية لمحبوبته، أو رجل أعمال يرغب في أن يمضي وقته حتى يحين موعد رحلته في القطار. لقد قمت بعمليات شراء كتب خلال رحلاتي، ستبقى محفورة في ذاكرتي كعابر سبيل. فالملكية والاستحواذ ينتميان إلى مجال تكتيكي لأن المقتنين هم أناس ذوو غريزة تكتيكية تعلمهم خبرتهم أنهم عندما يغزون مدينة غريبة فإن أصغر محل أنتيكا يمكن أن يكون قلعة، وأبعد مكتبة يمكن أن تكون موقعاً محورياً. عديدة هي المدن التي كشفت نفسها لي من خلال المسيرات التي قمت بها لمطاردة الكتب.
على أي حال أهم عمليات الشراء التي قمت بها كانت بالاتفاق مع بائعي الكتب، لأن الكتالوجات تلعب دوراً عظيماً من هذه العملية حتى إن كان المشتري مطلعاً تماماً على الكتاب الذي طلبه من أحد هذه الكتالوجات لأن النسخة الفردية دائماً تحمل المفاجآت وطلبها يكون دائماً كنوع من المقامرة. هناك دائماً إحباطات مؤلمة ولكن هناك أيضاً اكتشافات سعيدة. على سبيل المثال أذكر أنني في إحدى المرات طلبت كتاباً برسوم ملونة لأضمه لمجموعتي القديمة من كتب الأطفال فقط لأنه يحتوي على قصص شعبية لآلبرت لودفيج جريم، ونشر بمدينة جريمّا بثورينجيا. كانت جريمّا أيضاً مكاناً لنشر كتاب عن القصص الشعبية وقام بتحريره أيضاً آلبرت لودفيج جريم. كانت نسختي من هذا الكتاب – برسومها الستة عشرة – المثال الوحيد الموجود للعمل المبكر لرسام الكتب الألماني العظيم الذي عاش في هامبورج في منتصف القرن الماضي تقريباً. حسناً، كان نطقي للأسماء الألمانية صحيحاً وفي هذه الحالة أيضاً اكتشفت عمل ليسار، أي “قصص لينا”Linas Märchenbuch، وهو عمل لايزال مجهولاً بالنسبة للعاملين على نسخ الكتب وتوصيفها وهو يستحق مراجع أكثر تفصيلاً من المراجع التي قمنا بالإشارة لها هنا.
اقتناء كتاب لا يعتمد فقط على توافر الأموال أو معرفة الخبير فقط. فالعاملين مجتمعين لا يكفيان لتأسيس مكتبة حقيقية والتي غالباً ما تكون عملية غامضة وصعب فهمها وفي نفس الوقت فريدة من نوعها. يجب على أي شخص يريد أن يقوم بشراء كتاب عن طريق الكتالوجات أن يمتلك ذائقة بالإضافة إلى الصفات التي أشرت لها سابقاً مثل معرفة: التواريخ وأسماء الأماكن والتصميم والمالك السابق والغلاف، وكل هذه التفاصيل التي يجب أن تخبره بشيء ما ليس عن طريق الحقائق الجافة أو المنعزلة إنما بطريقة الكل المتناغم، فمن خلال جودة وكثافة هذا التناغم يجب أن يستطيع المقتني التمييز فيما إذا كان الكتاب يناسبه أم لا.
أما المزادات العلنية فتتطلب مجموعة صفات أكبر عند المقتني، فبالنسبة للقارئ فهرس الكتاب يعتبر دليلاً أو من الممكن معرفة مالكه السابق إن كان مصدر النسخة يعود إليه. يجب على الإنسان الذي يرغب بالمشاركة في مزاد علني أن يعير انتباه للكتاب ولمنافسيه على حد سواء بالإضافة إلى أنه يجب أن يتمتع بهدوء الأعصاب كي لا ينجر وراء هذه المنافسة، وغالباً يتورط شخص ما بشرائه بسعر غال لأنه استمر في رفع رهانه أكثر وأكثر كي يثبت نفسه بدلاً من غايته الأساسية وهي اقتناء الكتاب. ومن ناحية أخرى، واحدة من أجمل الذكريات عند المقتني هي انقاذ كتاب لم يكن في حسبانه كتاب تمنى أن يقتنيه فقط لأنه وجده وحيداً ومتروكاً في المكتبة واشتراه ليمنحه حريته – كما يشتري أمير فتاة جميلة من الرقيق في قصص ألف ليلة وليلة – فبالنسبة لجامع الكتب الحرية الحقيقية لكل الكتب هي بأن تتواجد على رفوف مكتبته.
حتى هذا اليوم تبرز رواية بلزاك «الجلد المسحور» الموجودة في الصفوف الطويلة للمجلدات الفرنسية في مكتبتي كتذكار لأكثر تجربة ممتعة خضتها في المزادات العلنية، حدث ذلك في عام 1915 في مزاد رومان الذي أقامه إيميل هيرش، واحد من أعظم خبيري الكتب وأحد أفضل البائعين المتميزين. ظهرت النسخة المعروضة في المزاد عام 1838 في باريس، في قصر دي لا بورس، وحالما حصلت على نسختي لم أقرأ فقط رقمها في مجموعة رومان، وإنما أيضاً ملصق المكتبة التي اشترى منها أول شخص الكتاب الأصلي منذ تسعين عاماً بثُمن سعرها الحالي. مكتوب على الملصق “مكتبة فلانيو”. يا لها من متعة أن تشتري مثل هذه النسخة الممتازة بعد هذا العمر من عند بائع كتب! كان هناك نقش للكتاب صممه رسام فرنسي بارز، ونفذه مصممو غرافيك محترفين. ولكني سوف أخبرك عن سبب حصولي على هذا الكتاب. لقد ذهبت إلى إيميل هيرش لأقوم بفحص مسبق وحصلت على أربعين أو خمسين مجلداً، تلك المجلدات أوحت لي برغبة عارمة بالتمسك بها للأبد. وفي يوم المزاد حيث سيكون لي فرصة اقتنائها، وفي سياق المزاد اقتناء هذه النسخة من رواية «الجلد المسحور»، كانت مقدمة مع مجموعة كاملة من الرسوم التوضيحية المطبوعة بشكل منفصل على أوراق هندية. جلس المزايدون على طاولة طويلة وكان يجلس بجانبي الرجل الذي كانت كل الأعين تتجه إليه، جامع الكتب الشهير من ميونيخ بارون فون سيمولين. كان مهتماً بشدة بهذه المجموعة، ولكن أيضاً كان لديه منافسون، وبشكل مختصر كانت هناك منافسة حماسية مما أدى إلى عرض أعلى سعر في المزاد بأكمله، بما يزيد عن ثلاثة آلاف مارك، ولم يكن أحد يتوقع رقماً عالٍ كهذا، وتحمس كل الحاضرين لذلك، بينما بقي اميل هيرش غير مبال سواء أراد أن يوفر الوقت أو كان يرشده أحد ما من أجل اعتبارات أخرى تقدم نحو القطعة التالية دون أن يعيرها أحد أي انتباه. نادى على السعر في تلك اللحظة أدركت من أعماق قلبي وبكامل وعيي أنني لن أستطيع أن أنافس أياً من هؤلاء المقتنين الكبار، زايدت بمبلغ أعلى بقليل دون أن ألفت أنظار المزايدين، ثم تابع بائع المزاد بروتينه المعتاد وقال: “هل هناك سعر أعلى؟” وبدت الأبدية كأنها تفصل بين كل طرقة وأخرى – واستمر مضيفاً نسبة رسوم مدير المزاد إلى السعر. بالنسبة لطالب مثلي ظل السعر معقولاً. ما حدث في اليوم التالي في مكتب الرهان لم يعد جزءاً من القصة، وأنا أفضّل أن أتحدث عن حادثة أخرى أحب أن أسميها “التجربة السلبية للمزادات”. حدثت في العام الماضي في مزاد برلين. كانت مجموعة الكتب المعروضة متنوعة في القيمة والمحتوى وكان هناك أعمال نادرة عن السحر والفلسفة الطبيعية تستحق الاهتمام. قمت بالمزايدة على عدد منها، ولكن في كل مرة أقوم بها بالمزايدة ألاحظ رجلاً محترماً في الصف المواجه يبدو وكأنه ينتظر مزايدتي ليطرح سعراً أعلى، ومن الواضح أنه يحضّر لأعلى سعر لا يمكن لأحد أن يزيده بعده. بعد ذلك كرر الأمر عدة مرات، واستسلمت وخابت كل آمالي للحصول على الكتاب الذي كنت مهتماً به بشكل كبير في ذلك اليوم. كان كتاب نادر عن “المقتطفات المنشورة لطبيب شاب بعد موته” Fragmente aus dem Nachlass eines jungen Physikers الذي نشره يوهان فيلهلم ريتر في مجلدين في هايدلبرج عام 1810. لم تعَد طباعة هذا العمل، ولكني لطالما اعتبرت مقدمته نموذجاً مهماً جداً للنثر الذاتي في الرومانتيكية الألمانية، وفيها يتحدث الكاتب عن قصة حياته بطريقة ينعي فيها صديقه المفترض الراحل الذي يتطابق مع شخصيته بالفعل. كلما يخطر هذا الكتاب ببالي أشعر بالدوار. كانت طريقتي بسيطة بما يكفي: طالما أن رهاني مقيد وملزم بإعطاء الكتاب لرجل آخر كان يجب عليّ ألا أراهن عليه أبداً. أمسكتُ نفسي وبقيت صامتاً. ما كنت أتمناه كان على وشك أن يحدث: لم أعد مكترثاً، لم يعد هناك أي مزايدات، وُوضع الكتاب جانباً. رأيت أنه من الحكمة أن أدع عدة أيام تمر، وعندما ذهبت إلى المكتب بعد أسبوع، وجدت الكتاب في قسم الكتب المستعملة وربحته بسبب عدم الاكتراث الذي قصدته. وعندما تصل إلى حقائب الكتب المجمعة كالجبال لكي تنقب بداخلها عن الكتب وتخرجها إلى ضوء النهار أو ربما إلى الليل عندما تحتشد الذكريات بداخلك! لا شيء يسلط الضوء على السحر المحيط بك أثناء تفريغ مكتبتك أكثر وضوحاً من صعوبة توقفك عن هذا الفعل، لقد بدأت بهذا عند الظهيرة وها هو منتصف الليل قد حل قبل أن أصل إلى الحقيبة الأخيرة. الآن أضع يديّ على مجموعتين من المجلدات المهترئة لم أستطع أن أنسبهما إلى أي من الحقائب. ألبومين مع صور ملصقة صنعتهما أمي لي عندما كنت طفلاً وقد أورثتني إياهما، إنهما بذور أول مجموعة كتب أطفال لازالت تنمو وتكبر حتى اليوم بالرغم من أنها لم تعد في حديقتي، ليس هناك مكتبة حية لا يشغلها عدد من الكتب التي توضع على الهامش ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون ألبومات لملصقات أو ألبومات عائلية أو دفاتر ذكريات أو كتيبات وكراسات دينية فبعض الناس لديهم شغف الكتيبات والنشرات، وهناك آخرون يهتمون بالنسخ المكتوبة والمطبوعة من الكتب التي لا يمكن الحصول عليها، وبالتأكيد يمكن للنشرات الدورية أن تشكل هوامش براقة في المكتبة، ولكن بالعودة إلى هذه الألبومات، في الحقيقة يعتبر التوريث من أكثر الطرق المجدية لاقتناء مجموعتك. من خلال طريقة تعامل المقتني مع ممتلكاته ومن إحساس المالك بالمسؤولية تجاه ممتلكاته هذا هو الحس الأعلى الذي يتمتع به الوريث بالمعنى الأعم، وأكثر صفة مميزة لأي مجموعة هي دوماً قابليتها للانتقال. عليكم أن تعرفوا أنني أدرك تماماً أن حديثي عن المناخ الفكري للاقتناء يؤكد كثيراً قناعتكم بأن هذا الشغف يتجاوز الزمن، ويؤكد عدم ثقتكم في نموذج المقتني. وأبعد شيء أقصده هو هز قناعتكم أو عدم ثقتكم. ولكن هناك شيء واحد يجب ذكره: ظاهرة الاقتناء تفقد معناها عندما تفقد مالكها الشخصي: حتى عندما تكون المجموعات العامة أقل رفضاً في المجتمع وأكثر فائدة أكاديمياً من المجموعات الخاصة، تحصل الأشياء على قيمتها فقط عندما تكون وسط مجموعة خاصة. أعلم أن النموذج الذي أناقشه وأقدمه هنا يتجاوز الزمن. ولكن كما قال هيجل، فقط عندما يحل الظلام تبدأ بومة مينرفا بالطيران. فلا يمكن فهم المقتني إلا في زمن انقراضه.
الآن أنا أملأ النصف الأخير من الحقيبة الأخيرة وقد تجاوزت منتصف الليل. تشغلني أفكار أخرى مختلفة عن التي أتحدث عنها -هي ليست أفكاراً ولكن صور وذكريات، ذكريات عن المدن التي وجدت فيها العديد من الأشياء: ريجا ونابولي وميونيخ ودانزيش وموسكو وفلورنسا وبازل وباريس، ذكريات من غرف روزنتال الفخمة في ميونخ، في دانزيش ستوتورك حيث أقام هانز رو، عن قبو سوزينجت الرطب في شمال برلين، وذكريات عن الغرف التي وضعت فيها هذه الكتب في وكر طالب لي في ميونيخ وفي غرفتي في برن، في عزلة آيزلتوالد على بحيرة بيينز وفي النهاية في غرفة صباي، المكان القديم الذي كان يحتوى على أربعة أو خمسة آلاف أو بضعة آلاف مجلد مكومة من حولي. فليتبارك المقتني، ليتبارك الرجل الشغوف! الرجل الذي لم يتوقعه أحد، لا أحد لديه حس أعظم بوجوده أكثر ممن يستطيع دوماً أن يحمل صفة “دودة الكتب” سيئة السمعة كما في لوحات الفنان الألماني كارل سبتزويج. فالمقتني تسكن بداخله أرواح، أو على الأقل يسكن جني صغير، يعرف كل ذلك عن المقتني – وأنا أعني المقتني الحقيقي، المقتني كما يجب أن يكون – يعرف أن الملكية هي أفضل علاقة يمكن أن تتحقق للمرء مع الأشياء. ليس لأن الأشياء تصبح حية بداخله إنما لأنه هو الذي يعيش فيها، لذلك أقمت له مسكناً من الكتب وكأنها حجارة بناء أمامكم، والآن هو سيختفي بداخلها في أكثر مكان ملائم له.
ترجمة خاصة من كتاب “illuminations”
(Houghton Mifflin Harcourt, Oct 23, 1968 – Philosophy – 288 pages)