شبق لارس فون تراير

من فيلم «Nymphomaniac» (الشبقة)

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/05/2017

تصوير: اسماء الغول

جولان حاجي

شاعر ومترجم سوري كردي

جولان حاجي

مقيم في فرنسا

سأجازف بهذا الافتراض: كآبات لارس فون تراير تنتقم من العالم. أليس في فيلمه الأخير “الشبقة” ضيق وتبرم بصفاء تاركوفسكي وباخ اللذين لا يخفي دَينهما عليه؟ ربما بسبب عجزه عن بلوغ تلك البراءة وعجزه عن السخرية منها أو الاستخفاف بها، رغم معرفته بجلالها وجمالها، نراه مندفعاً عنيفاً يذهب إلى النقيض ليمرّغ الجسد في القرف. إنه جادٌّ كل الجدية ولا يحبّ اللهو. في شاشة واحدة مشطورة إلى ثلاثة أعمدة، كما في المسلسلات التركية أو المكسيكية، يضع نمراً يفترس غزالة بعضِّ عنقها أولاً، وفي عمود آخر قدمي عازف الأورغن الكنسي، وفي الثالث رجلاً عارياً تصفه بطلة الفيلم بالنمر، وهو رجلٌ من آلاف الرجال الذين عاشرتْهم. تُروى حكاية امرأة طوال ما يزيد عن أربع ساعات، بين تلك المرأة نفسها التي تؤدي دورها شارلوت غينزبورغ، ورجل غريب التقاها في الليل؛ يبدأ الفيلم بموسيقى الروك وما يتصل بها من تداعيات تتعلق بالجنس العنيف والمخدرات، ثم تظهر امرأة كجثة على خشبة مسرح، غائبة عن الوعي، مضروبة ملقاة في فناء خلفي لأبنية القرميد الشبيهة بمباني لندن.

تروي إحدى الحكايات، داخل الحكاية الكبرى، كيف تختار مراهقة أن تفقد عذريتها وهي بنت طبيب مولع بالأشجار، تلصصت في طفولتها على أطالس التشريح في مكتبة أبيها، ثم تتوالى الفصول والقصص والشخصيات لتنغلق هذه الدائرة الشهرزادية فجراً بجريمة قتل: القاتل على الأرجح هو الراوية وصاحبة الحكايات، المرأة التي ضُربت في الزقاق، والقتيل هو الرجل الذي أنقذها، الراوي الآخر الذي لعب لساعات دورَ المنصت والمعلّق والمحلّل والمتفهّم، ثم فضحته في دقيقة الفيلم الأخيرة رغبتُه في الاغتصاب. النهاية طلقة تدوّي في الظلام.

نعلم إن بورخيس تخيّل شهرزاد، في إحدى ليالي ألف ليلة وليلة، وهي تروي قصة شهريار أمام شهريار، ليعود السرد بالتالي إلى نقطة البداية ونبقى مأسورين في دائرة الليالي. كان أوسكار وايلد قد سبقه إلى التحدث عن رغبة الوحيد في إفشاء أسرار حياته كلها دفعة واحدة على مسامع أول غريب يصادفه. الأسرار في حالة فيلم فون تراير الأخير هي المغامرات الجنسية، أو القصص القذرة كما تقول البطلة، مما يصبو إلى معرفته المتلصصون من شتى الأعمار، في المخيلات التي أمرضها البورنو، وتتجلّى في الإعلانات مثلاً، أو في الأبواب الأوتوماتيكية التي تذكّر بانفتاح الفرج وانغلاقه. الجنس في كل مكان ومن المستحيل تحاشي تداعياته، واحتمالات ممارسته قائمة على الغسالات الأوتوماتيكية، وفي المصاعد، ووقوفاً أمام النوافذ، وعلى أسرّة المرضى حيث لا يميز السامع البعيد بين آهات النشوة وصرخات الموجوعين. ألا يتحول المشاهدون إلى مرضى أيضاً؟ حين ترغمهم المشاهدة نفسها على تحول مؤقت إلى مغتصبين، ملاحقي قاصرات، مغويي مراهقات يقلّدن مومساتِ الأرصفة، متجوّلات في القطارات ومراحيضها لتربح إحداهن رهاناً من بضع حبات شوكولاته، إن تمكنت من مضاجعة رجل في القطار.

تقول بطلة الفيلم لكل مَن يعاشرها إن هذه هي المرة الأولى التي تبلغ فيها الأورغازم، فيسعَد أحدهم ويتلعثم، ويسخر آخر ويكذّبها حين تقول له إنها وهبته ما لم تسمح به لأحد من قبل؛ وأمام مثل هذه الاعترافات، نجدُ الرجل الذي أنقذها منصتاً، الراوي الآخر، المثقف اليهودي الذي معنى اسمه سيلغمان هو “السعيد” (ولا ننسى إن فون تراير قد قال مرة، في زلّة لسان على الأقلّ: “أنا نازي”)، ثم يستعيد مفارقة زينون الأيلي عن الوهم واستحالة وجود الحركة، من خلال مثال السباق بين أخيل والسلحفاة.

يحمل أحد فصول “الشبقة” عنوان “المرآة”، والممثلة (شارلوت سليلة المغني الفرنسي سيرج غينزبورغ) تلمح أيقونة منسوخة عن أعمال أندريه روبليف الذي ربما كان وراء تسمية الشاعر آرسيني تاركوفسكي لابنه باسم أندريه، ثم تسمع شيئاً من افتتاحية آلام يوحنا لباخ التي افتتح بها تاركوفسكي فيلمه “الحنين”، أما اسم تراير فتصحيفٌ على الأرجح لكنية المخرج الدنمركي كارل دراير، مخرج جان دارك ودراكولا. وفي نهاية “الشبقة”، حين تسودُّ الشاشة وتبدأ أولى الحروف البيض بالظهور، نلمح في قطار أسماء المشكورين اسم تاركوفسكي، وليست هذه المرة الأولى، فقد أهدى إليه فون تراير فيلمه “المسيح الدجال”. مرة أخرى تعود موسيقى هاندل، ويتكرر لحن “لاشا بيانغا” المرافق لمشهد الطفل الذي يوشك أن يهوي من الشرفة، مثلما هوى طفلٌ آخر في “المسيح الدجال” بينما أبواه غافلان عنه لأنهما مستغرقان في الجنس. 

فوان تراير بذكائه الحاد وتنوع معارفه واصطفائيتها يشفي خياله، ثم لا يلبث أن يعود بكوابيس اليقظة والأمراض والذكريات والأوهام الجنسية العنيفة إلى الفوضى، لينظمها جميعاً في إطار كلاسيكي مؤلف من فصول كفصول مآسي الإغريق، مثلما فعل من قبل في “دوغفيل”. يسمي بعض الشخوص بالأحرف كما كان يسمي كافكا شخوص رواياته، ولم يذهب في السرد هذه المرة إلى أقاصيص هوفمان الرهيبة بل إلى سقوط منزل آشر لدى إدغار ألن بو.

خيال تراير يتخبط مثل خيال فيليب روث في قذارات الشهوة التي لا يجد منها فكاكاً، كعنف الخيال الذي أطلقه المركيز دو ساد، ومن بعده جورج باتاي في “حكاية العين”، وربما بازوليني في “سالو”، لكن الأخير يفترق تماماً عن فون تراير من جوانب عديدة، ولا أتصوره ممكناً لديه مشهدٌ مثل مشهد الشابين الأسودين اللذين تطلب بطلة “الشبقة” الذهاب معهما إلى مضاجعة مدفوعة في غرفة فندق رخيص، ثم الحوار حول استخدام مفردة “زنجي”، في ذاكرة البلدان الديمقراطية القصيرة الأمد. الفيلم كله بالإنكليزية، والدنمرك، على أية حال، أحد أفضل البلدان غير الناطقة بالإنكليزية من ناحية إجادة هذه اللغة.

طغيان الاستهلاك طال الحرية أيضاً، وكثيرون سيرون في الذوق رداءة ذوق، وفي اللطف جبناً، وفي الرقّة قناعاً أو فخاً، وما أسهل وصم المغايرين بالتهريج أو بالسذاجة أو بالمحافظة والتخلف. يفترض أن الجنس بداية رعب أو نهايته، أمرٌ في غاية الجدية، خلاصة الوجود واحتقار الحياة أو بالأحرى انتقام من الحياة، فالإنسان سفاح بغيض جدير بأحقادنا وبغضائنا. يفترض أن مثل هذا الإنجاز بعيد الغور وشديد التركيب. لعلّ المكتئبين القساة، منذ المشرعين والقديسين الأوائل إلى مهرطقي العصور الوسطى ومفكري العصور الحديثة، أوهموا أنفسهم بأنهم من يغوصون إلى الأعماق ويتحرّون ظلمات النفس التي يعتبرونها مملكتهم، وهم بذلك يعبرون عن الحقيقة ويفصِحون عنها ثم يمثّلونها حين تسنح لهم القوة، والقوة في حالة فون تراير هي الشهرة ومضخات الإعلام.

أمثل هذا الفيلم درس لتعليم المرضى أم لردعهم؟ إلى أين إذن؟ إلى غرف سرية يجلد فيها الشبّان نساء مازوخيات باردات، يعذّبهن فرادى، يعلّمهن درس البطة الصامتة، يروّضهن بالصفعات، يرى كيف تندى فروجهنّ بالهلع وترقب العقاب الوشيك، وعيونهن مسمَّرة على حبال السياط التي يجدُلْنها بأيديهن في منازلهن. ثمة جلاد شاب وسيم يستعيد على جسد الزبونة الموثقة إلى الكنبة الضرباتِ الأربعين التي تلقّاها المسيح.

إلى أين إذن؟ إلى جلسات الاعترافات الجنسية والعلاج النفسي الجماعي داخل حلقة من المعترفات (سيان في الكنيسة أو على أرائك التحليل النفسي)، تُرتَكب الأفعال القديمة نفسها، وتُقْتَرفُ الأخطاء نفسها من جديد، ذهاباً إلى الجريمة والمسدسات؟ أليس في تفاسير فون تراير ما يُعيدنا إلى ألغاز دان براون المستثمرة هوليوودياً، ودقائق باولو كويلهو الإحدى عشر؟ أليس في مثل هذا التناول ما يذكر بتشويق هوليود التي انتقد تراير بلادها، وقال مرة إن صناديق الاقتراع يجب أن توزَّع في بلدان العالم كله حين تجري الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة؟

هل سنقول مع فون تراير إننا خُلقنا في الدنس ونحن مجرمون، وكراهيتنا لأنفسنا تدفعنا إلى احتقار النساء؟ ألا يفوح تأويل كنسي من هذه الفكرة، إذا ما تذكرنا سان أوغسطين حين قال إن الولادة سقوط إلى هذا العالم من بين البول والبراز؟ أم سنقول مثل بيكيت في “مولوي” إننا جميعاً نولَد مجانين، ثم يبقى بعض منا على حال الجنون هذه حتى وفاته؟ الاحتقار صامت، الحب مضحِك، الاشمئزاز علامة قوة، الرغبة وسخة مُغثية، الهيمنة هي الغاية، هي الانتصار الوحيد، وكلُّ شريك يبكي عارَ رغبته.

الكاتب: جولان حاجي

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع