روزا ياسين حسن: لسنا مخيّرين في أن نكون معنيين بالوطن أو لا!

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
خمس ممثلات إيطاليات أيقونيّات (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

22/05/2017

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

«الذين مسّهم السّحر.. “من شظايا الحكايات”» (دار الجمل – 2016)، هي آخر روايات الكاتبة السورية روزا ياسين حسن (1974)، التي كانت في طليعة السوريين المنتفضين في آذار/ مارس 2011 ضد طغيان نظام الأسد، مطالبة برحيله لتنعم سوريا بمستقبل يليق بكل السوريين الذين مسّهم السّحر.

تبدأ الرواية، رواية كل السوريين الذين نادوا بالحرية والكرامة، في 2011، لكنها تعود عبر حكاياتها إلى ما قبل ذلك بكثير، وتتلمّس الأسباب التي أوصلت البلاد إلى خضمّ حرب شرسة، وحوّلت ثورة تنادي بالديمقراطية والحرية إلى دمار شامل! وفيها تطرح أسئلة عن أسباب تراجع المجموعات العلمانية والديمقراطية، وكذلك المجموعات الدينية المعتدلة، لصالح سيطرة التطرّف وسيادة لغة الكره والعنف؟!

فضاء الرواية، على الرغم من طرحه لأزمة سياسية وطنية، إلا أنه يدور حول قصص الناس العاديين عبر رصد تفاصيل عيشهم الصغيرة، وعبر رصد حيواتهم الداخلية ورغباتهم ومشاعرهم وتغيّرها عبر الزمن، في محاولة لقراءة المجتمع السوري الملوّن عبر مجموعة مختلفة من الشخصيات، متناقضة متصارعة وتنتمي إلى الفئات والجماعات المختلفة والمتصارعة في سوريا، سواء أكان اختلافها سياسياً أو دينياً أو طائفياً أو عرقياً. حيث ترصد روزا تلك الاختلافات والصراعات التي تمتدّ لتغدو صراعات طبقية وثقافية. الواقع والتخييل نهجان يجتمعان في الرواية لصنعها، بالإضافة إلى استخدام العديد من التقنيات الروائية مثل تقنية “تعدّد الأصوات”، فيدور السرد في دوران مستمر بين الرواة المختلفين لمحاولة إحاطة الحكاية من مختلف الجوانب. وهي تقنية طالما استخدمتها الروائية، كما يتشظّى السرد في تنقل مفاجئ بين الأماكن والتواريخ، ويمتلئ بالحوارات والمونولوجات الطويلة.

رمان التقت صاحبة «أبنوس» و«نيغاتيف» و«حراس الهواء» و«بروفا»، ليدور الحديث معها حول روايتها الأخيرة «الذين مسّهم السّحر»، وملامح مشروعها الروائي بعد خمسة أعمال ترجم بعضها إلى عدة لغات، كما دار حديثنا عن أثر المهجر على نتاجها الأدبي بعد أربع سنوات من إقامتها في ألمانيا، ولمعرفة ما يشغلها الآن على صعيد الكتابة الإبداعية، فكان هذا الحوار ..

جميع السوريين (بغض النظر عن موقفهم من النظام)، جميعهم مسّهم السّحر كما تقولين في الرواية، أيّ سّحر هذا الذي مسّهم ومسّك معهم؟

الرواية كلها، برمتها، هي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، ولا أعرف إن كانت قد تمّت الإجابة عنه. على كلٍّ فأنا أفضّل النصوص التي تثير الأسئلة بدلاً من الإجابة عنها، وأفضّل أن يجيب قارئ الرواية عن هذا السؤال بالذات: أي سحر مسّنا؟! ولكن ما يجدر قوله، إن كل ما حاولته هو التأكيد على أن لحظة السحر لم تكن آنية، بل هي نتاج تراكمات وتحولات وحتى انزياحات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وصولاً إلى التبدلات الثقافية التي احتاجت إلى لحظة السحر تلك كي تغيّر المشهد السوري.

ما هي حدود الواقعي والمتخيل في «الذين مسّهم السّحر»؟ ومشروعك الروائي امتاز بالاهتمام في التدوين والتوثيق، حتى وُصفت أنك تحسنين الإنصات الى أصوات الآخرين. في روايتك هذه، أصوات مَن نقلتِ لنا؟

أعتقد بأن الرواية هي نصّ ديمقراطي، الروائي الذي لا يجيد الإصغاء للآخرين، ولا يسمع إلا نفسه، لن يتمكّن من كتابة رواية! لكني أرى أيضاً إن كلّ نصّ روائي هو مزيج من الواقع/التوثيق والتخييل، بين المعاش والمفترض، بين جمود الوثيقة وألاعيب الأدب. و«الذين مسّهم السحر» هي ذلك المزيج أيضاً. أحياناً يتداخل الأمران وأحياناً ينفصلان. النص الروائي خلطة من التجربة الخاصة وما نقرؤه ونسمعه ونحسّه ونتخيّله ونتمناه مع رشّة من بهارات الكاتب/الكاتبة الخاصة التي تميّزه/ها عن غيره من الكتّاب، وهنا تتولّد لذعة النص المغايرة. 

بما يخصّني فأنا أحاول أن أخرج الوثيقة/الواقع من وثائقيتها الجامدة باتجاه الأدب. ففي الوثيقة لا يمكنك أن تقرأ دواخل الشخصية ولا مشاعرها، لا يمكنك تفكيك الحدث وقراءة تفاصيله وما يحيط به، ولا مراقبة تطورات السرد، لا يمكنك ببساطة أن تطرح الأسئلة! هناك من قال يوماً بأننا، كلنا، نكتب الوثيقة بشكل أو بآخر، لأننا كلنا نكتب الواقع، مهما اعتقدنا بأننا نكتب التخييل! فكل ما نكتبه يدور في النهاية في رؤوسنا وحول حيواتنا، وما تخييلنا إلا جزء من قدراتنا “الواقعية”! بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا الرأي، فإن أهم ما يميّز الأدب عن “الوثيقة” هو تحريض الجمال الكامن في داخل كل منّا عبر التقنيات الروائية. وأما هذه الأخيرة :”التقنيات الروائية” فقد كانت مكثّفة أكثر من أي وقت مضى في «الذين مسّهم السحر»، التعدّد الكبير والعمودي للشخصيات المتناقضة والمتصارعة أحياناً، ذاك الذي يعكس الموزاييك الاجتماعي المتشظّي اليوم للمجتمع السوري، الأمكنة المختلفة بأحداثها المتنوّعة المتوازية، تطلّبت تقنيات أكثر تعقيداً. تقنية تدوير الحكاية التي أحبّ استخدامها بقيت أيضاً، حين يتغير السرد بين الراوي العليم والشخصية في دوران مستمر يحيط القصة من كل جوانبها، والتشظّي السردي الذي أعشقه في الروايات، وغيرها من التقنيات تجعل النص مستفيداً من الوثيقة مبتعداً عنها باتجاه السرد التخييلي. 

في نهاية الرواية لم تضعي نقطة (.) كما هو المعتاد في النهايات، بل كتبت “وللحديث بقية…”. أهو نوع من الأمل؟ وهل تستطيع الكتابة الروائيّة برأيك التنبؤ أو استشراف المستقبل؟

أعتقد أن وظيفة الكاتب/الكاتبة تكمن في تحريض القراء على إعادة تعريف مسلّماتهم ومساءلة إجاباتهم الجاهزة، وليس تبديل المسلّمات بالمسلّمات والإجابات بالإجابات. ربما يمكن للروايات أن تفكّك الواقع، تحلّل مكوناته، تسبر عمق الشخصيات، تتقصّى تلك التفاصيل العميقة في الأشياء، ومن هنا ربما أمكنها أن تتلمّس تطوّر الواقع ومآلاته، فهي تعمل على إرغام الواقع على إظهار نفسه بكل قباحاته وتعقيداته، وبكل جماله أيضاً! لكن على ما يبدو، ومن خلال قراءة التاريخ العربي، سيبقى الكتّاب للأسف حاملين أبداً للعنة “كاساندرا”، تلك الكاهنة اليونانية التي وهبها “أبولو” نعمة النبوءة شرط ألا يصدق نبوءاتها أحد! أنا أعتقد بأن كل الكتّاب مصابين بشكل أو بآخر بلعنة “كاساندرا”! لكن عدم تصديق الناس لها لا يعني أن تكفّ العرافة عن نبوءاتها، ولا يعني أن يكفّ الكتّاب عن الكتابة، هي حالة جدلية دائمة من الفعل وإقصائه، من محاولات الفهم ومحوها، من اجتراح الحلول ونقضها، هذه إحدى مهمات الكتّاب دائمة التوالد. 

كتبت من الروايات «أبنوس» و«نيغاتيف» و«حراس الهواء» و«بروفا» وصولاً إلى «الذين مسّهم السّحر». سؤالي: هل تُعدّين هذه الروايات (روايات توثيقية) أم هي (روايات تاريخية) أم ماذا؟ وما هي ملامح مشروعك الروائي بعد خمسة أعمال؟

ببساطة، ما يشغلني هو كتابة تاريخ موازٍ للبشرية خارج/مناقض للتاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصرون الأقوى، تاريخ سرّي ممتع يشعل القارئ بالفضول، تكتبه الشخوص المختلفة والمتباينة، المتلاقية أحياناً والمتصارعة أحياناً أخرى، فالتاريخ هو ما نحكم نحن بكونه تاريخاً. نص بلا بطل فالكل أبطال هنا، نص مليء بالأسئلة ولا يقدّم الإجابات الجاهزة، نصّ يزيح بقعة الضوء باتجاه الأماكن المعتمة المنسية، ونص يتموّج ويتلاعب بتقنيات فنية كثيرة ومعقدة أحياناً. نص شاهد! والأهم نصّ يؤكد بأنه ما من شعوب تمثّل كتلة واحدة، كل مجموعة ثقافية هي تنوّع من البشر المختلفين في دواخلهم اختلاف حبات الرمال. الهامش بكل تنوعاته يثيرني للكتابة عنه. 

أنجزت هذه الرواية، بدعم من مؤسستين ألمانيتين هما: “هاينريش بول” و”هامبورغ شتيفتونغ”، وذلك بعد عثرات عديدة في طريقك إلى النشر ورفض عدد من دور النشر العربية نشرها. ما هي أسباب تعثر صدورها؟

الدعم كان باستضافة المؤسستين لي ولابني في منحة للكتابة لمدة سنة بدأت فيها بكتابة الرواية. كنت خارجة للتو من الجحيم السوري في أوائل سنة 2013 وكانت الكتابة سلاحي لقول ما أؤمن به، كما كانت حاميتي من الغرق في شعور الذنب القاتل، ذاك الذي يشعر به كل ناجٍ من مجزرة. الكتابة ساعدتني على اتقاء الموت غرقاً في النوستالجيا، وما زالت حتى اليوم. إذاً الدعم كان مؤقتاً قبل أن نضطر كمعظم السوريين في المنافي لطلب اللجوء. أما لماذا لم تقبل بعض الدور العربية نشرها، فأعتقد بأن الأمر يتعلّق بالوضع السوري الشائك، والحسابات السياسية والاصطفافات والقراءات التي لا تنظر أحياناً إلى محتوى النص بقدر ما تهمّها موقف كاتبه وشخصه، بمعنى قراءة خارجية وليس داخلية للنصوص.

طاولت رواياتك آليات الحذف أو المنع كما في روايتي «أبنوس» و«حراس الهواء»، كيف كنت تقودين نصك للتملص من عيون الرقابة؟ وهل فقدت اليوم، بعد الخروج من الوطن وغياب سقف الرقابة، متعة التلاعب على حبال الخطوط الحمراء التابعة لأمن النظام؟

بالنسبة لي ولمن قرأ نصوصي السابقة، التي كتبتها في بلدي سوريا، فأنا لم ألعب كثيراً على حبال الخطوط الحمراء، ولم أراوغ التابويات كثيراً ولا كتبت نصوصاً متنكّرة بأزياء مواربة، على الرغم من اعترافي بأن بعض تقنيات التلاعب الترميزية تخلق آداباً ممتعة. لكني مع ذلك أعتقد بأن النص الروائي يصطدم كل يوم بتحدٍ حقيقي يتمثّل في كيفية انقلابه على ذاته، وتطوير تقنياته من داخله وليس من خارجه فقط. بمعنى أن النص الروائي الساكن غير المتطوّر بشكل دراماتيكي مستمر سيسجن كاتبه في حدود أعماله السابقة، الأمر الذي أخشاه جداً. التحدي الأكبر لكل روائي هو إبقاء النص الروائي مفتوحاً دوماً على تأويلات وقراءات أخرى، كيف يخرجون في كل عمل من أسر العمل الذي سبقه، وكيف ينجحون في اجتراح تقنيات روائية جديدة تبقي الرواية على شكلها الحالي: ذلك الفن الذي لا يكفّ عن التطوّر باطراد، المستغلّ لكل الفنون الأخرى، الانتهازي والديمقراطي بآن. إذاً الأمر لا يتعلّق هنا بمراوغة التابوهات فحسب بقدر ما يتعلّق بمراوغة السكون والثبات في النص.   

تقيمين منذ أربع سنوات في ألمانيا، فكيف أثّر المهجر على نتاجك الأدبي؟ وإلى أي مدى مازلت معنية ككاتبة اليوم بسوريا، في راهنها تحديداً؟

الوطن كما أراه مكان متخيّل دوماً، أقرب إلى تصوّر ميتافيزيقي طوباوي. والرحيل عن مواطن غذائنا الروحي، أن نشعر بأننا فقدنا بلحظة كل ما نعرفه، يجعلنا نصطدم بإعادة تعريفه: ما هو الوطن؟! بالنسبة لي سوريا ليست قطعة أرض، ليست جغرافية أثنية فحسب، بل هي ذاكرة، ونحن ببساطة كائنات من ذاكرة، نكتب كي لا تتبدّد ذاكرتنا، ونعيش لنبني هذه الذاكرة، ونحارب كي لا تمتصّنا هذه الذاكرة نفسها كثقب أسود قاتل. علاقة جدلية معقدة، مما يعني ببساطة أن الموضوع ليس خياراً، ولسنا مخيّرين في أن نكون معنيين بالوطن أو لا!    

أما التغيير الذي طال كتاباتي فمازلت بحاجة لوقت كي أتلمّس ما تغيّر في دواخلي، فما بالك في كتاباتي! لكن ما أستطيع أن ألاحظه بأني بتّ أكثر اعتناءاً وانتباهاً إلى تفاصيل لم أكن أكترث بها قبلاً، كانت أشبه بالبديهيات حين كنت أعيشها فيما مضى. كما لمحت مواطن جمال وقبح في ثقافتنا كنت أعيشها دون تفكيك.

ببساطة هناك الكثير من البديهيات المعلّبة تغيرت عندي. تغيّر منظور أو زاوية الرؤية يجعلك ترى الكثير مما كان غائباً عنك وأنت في خضمّه، تفقد أشياء وتكتسب أشياء أخرى. والزمن هو الذي يقرّر في النهاية، الزمن الذي يعشق اللغة ويسامح كل من تعيش اللغة بفضله، حسب قول “و.ه.أودن”، وهذه قناعتي. 

هل صحيح أن الكتابة الرّوائيّة هي حرفة تستدعي اللجوء الكامل إلى الإطمئنان النفسي والمكاني، وهي تأتي غالباً في وقت لاحق للأحداث الكبرى؟

لا، لا أعتقد ذلك، الأمر يعتمد على طبيعة الكتّاب وأساليب معالجتهم للنصوص. التنوّع الزماني والمكاني والنفسي يخلق نصوصاً روائية مختلفة متباينة، وهذا أمر جيد ويغني المشهد الإبداعي. فترة الكمون والتخمّر، إذا صحّ التعبير، مهمة للغاية في تفكيك أكبر للأحداث وفي قراءة متأنية وهادئة بعيداً عن ضجيج الجنون ورائحة الموت، ولكن الكتابة في خضم العاصفة ينتج أيضاً جمالاً خاصاً لا يبتعد عن رائحة الدمّ الواخزة ولا حرارة الأرواح! لكل منها لذعته الخاصة. المهم أن لا يخضع النص إلى أية اعتبارات خارجة عن الإبداع، أن لا يفسح المجال للخوف أو الضغينة الشخصية أو الهوى الشخصي. بمعنى أن لا يكون الكاتب/الكاتبة إلا بوق نفسه وليس بوقاً لأي حزب أو إيديولوجيا أو طائفة أو دين أو انفعال آني خارج إبداعي، باختصار أن يكون وفياً لروحه الروائية. والذي يحدّد جمال النص، سواء كُتب بعد سكون العاصفة أو في خضمّ جبروتها، فهو النصّ ذاته، كيف كُتب؟ وما هي تقنياته؟ وما الأسئلة التي طرحها؟ أفضّل أن أقرأ النص من داخله على قراءته من الخارج كما سبق وقلت.

إلى أيّ مدى يمكن للكتابة الإبداعيّة أن تتجاوز سيول الدم وتقترح إبداعها في مواجهة المستبد؟

أنا أؤمن بقوة الكلمات، أؤمن بالتعويذات السحرية اللغوية، التي لا يكون تأثيرها بالضرورة آنياً، بمعنى الكلمة مقابل الرصاصة، بل ربما احتاجت لأجيال قادمة كي تتحقّق. الحكايات ببساطة لا تنقذنا من الكوارث التي ترتكبها الإنسانية، ولا تحمي الإنسانية ذاتها من صنوف الألم والقهر، لكن يمكنها، كتعويذات سحرية لغوية، أن تكون أشبه بناقوس الخطر، أن تحذّرنا من الآتي ومن العتمة في دواخلنا، أن تنبئنا عبر تفكيكها للواقع ومآلاته ودواخله. ربما ببساطة تجعلنا الكتابة يقظين حيال ما يحصل ولا نذهب في التنويم الجماعي للضمير الإنساني. ربما لن يسمعها أحد كما سبق وقلت، لكن يكفي أنها تنقذ معاناتنا من الذهاب في النسيان، وقد تقرؤها أجيال قادمة، وتعمل على تعريف تجاربنا بالكلمات، وربما تقترح حلولاً وسيناريوهات بديلة كي نبقى أحياء!

يقول “روبرتو كالاسو” جملة فيها من المفارقة المضحكة المبكية ما فيها، يقول: “الحياة التي لا تُدعى الآلهة إليها ليست جديرة بالعيش!”، إذاً ستكون أهدأ وأكثر اطمئناناً لكنها خالية من براكين القصص. هذه رؤية مبالغ بها، ولكن ربما استطعنا استغلال الشقّ الإيجابي من معاناتنا لتوليد المزيد من الحكايات.

ثمة طفرة تشهدها الرواية السورية الشابة مؤخراً. برأيك ما هي أهم العوامل التي أدت إلى ذلك؟ وما هي نظرتك لواقع الرواية الشبابية في سوريا؟

جدار الخوف سقط باختصار على الرغم من كل الآلام السابقة واللاحقة لسقوطه، وربما كانت الويلات التي حدثت وتحدث في سوريا هي السبب الرئيسي لانهيار حاجز الخوف، وتكسير التماثيل المكرّسة، ليس الأنظمة والسلطات فحسب، بل أيضاً أجيال من الكتّاب المكرّسين الذين كانوا يشكّلون باعتقادي حاجزاً نفسياً للكتّاب الجدد. هناك غنىً واضح في المشهد الإبداعي السوري اليوم، بغض النظر عن القيم الفنية المصاحبة لكثرة النصوص، وهذا سيتغربل مع الزمن. لكن الأهم أن يحاول الكتّاب الجدد عدم قتل آباءهم بهذا المعنى، بل تجاوزهم باتجاه نصوص مبتكرة أكثر جدة. فأنا أرى اليوم بأننا نفقد الكثير إذا لم نستفد من التجارب السابقة، فنحن ببساطة ما علّمتنا إياه التجارب السابقة جماعياً وفردياً. سلسلة ذهبية كل حلقة منها متعلّقة بالأخرى وتخلق جمالها. ربما هذه هي إحدى الأشياء التي تغيّرت في رؤيتي للمشهد الأدبي اليوم. 

كيف جاءت فكرة ترجمة روايتك «حراس الهواء» إلى اللغة الألمانية ثم تحقّقها مؤخراً؟ ولماذا هذه الرواية تحديداً؟ ماذا عنى لك ذلك؟ وهل في الأفق مشاريع لترجمة أعمال أخرى؟

«حراس الهواء» ترجمت إلى ثلاث لغات: الفرنسية والإيطالية وأخيراً الألمانية، «أبنوس» ترجمت أيضاً إلى الألمانية، و«الذين مسّهم السحر» في طريقها للترجمة كذلك. بالنسبة لي الترجمة ليست مطمحاً بحدّ ذاتها، إنما طريق للوصول إلى قارئ آخر، أي إلى ثقافة أخرى. الهجين دائماً أجمل، وخلخلة مركزية الثقافات بنصوص جديدة من ثقافات مغايرة تغني المشهد الإبداعي دوماً. أن تقرأ ثقافات أخرى نصوصنا، هذا يعني أن ثقافتنا استطاعت اختراق عقول لم تعرفنا، واختراق آراء بنيت واكتملت ونحن اليوم بكلماتنا نحاول تغييرها. الترجمة طريق إلى ضفة أخرى، كتابة أخرى للنصوص، وهذا أمر جيد باعتقادي لأي روائي. المهم أن لا نقع في مطبّ الكتابة بغاية الترجمة، فهذا فخّ قاتل بالنسبة لأي كاتب. الترجمة لا تجعل من النصوص الرديئة جيدة، كما أن غيابها لا يقلّل من أهمية النصوص الجيدة، هي كما قلت طريق للوصول إلى ألسنة أخرى، وكلما ازدادت الترجمة إلى لغة ما كلّما ازدادت تلك اللغة غنى وثقافة بتنوّع المصادر التي ترفدها.  

لماذا تكتبين وماذا تنتظرين من الكتابة الإبداعية؟ 

أكتب ببساطة لأني لا أجيد شيئاً آخر، الكتابة بالنسبة لي نوع من الاحتفال بالحياة على طريقتي، نوع من تبجيل تنوّع الحياة وغناها، والتملّص من أسر المكان والزمان والهوية المغلقة. الكتابة وسيلة لمعرفة ذاتي كما معرفة الآخر. ليس لدي وهم الخلود بالكتابة، ولكن لدي إيمان بأن الصوت لا يتبدّد في الكون، والكلمة قد تصل إلى روح أخرى في عالم آخر وزمن آخر أجهله. 

حين أكتب عن الذاكرة باعتبارها الحبل الذي يصلنا بمخازن الماضي، والذي يلفّ أحياناً حول رقابنا حتى يخنقنا، فأنا أريد بذلك قتلها: قتل الذاكرة/النوستالجيا بكتابتها، وبالغوص فيها حتى الأقاصي! إذاً هو نوع من الحياة ولكن في عالم الكلمات. يشغلني مفهوم الذاكرة الآن، ما يتمّ تذكره هو ما حدث وما لا نتذكره لم يحدث! بمعنى أنه ما من قصة حدثت حين لا نتخيّلها، وما يتمّ تذكره هو الحاضر الذي نعيش فيه.

أخيراً، ما الذي يشغلك هذه الأيام على صعيد الكتابة؟ 

تشغلني الكتابة عن العيش على التخوم، بين عالم الواقع وعالم الفانتازيا، كما تشغلني الكتابة عن تعدّد الهويات، عن الآخر الذي يشكّلنا، والذي نخاف منه بقدر ما نخاف ممّا في أنفسنا، فالآخر هو نحن بشكل من الأشكال، وفهمنا له يعادل فهمنا لأنفسنا، ولتلك الزوايا المعتمة والمخبّاة في دواخلنا.

ننشر غداً مقطعاً من رواية «الذين مسّهم السّحر» بعنوان “عن الرجل البخاخ وأحاديث الجدران”

غلاف

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
عن السيرورة والصيرورة
10 أفلام عظيمة عن الوحدة (ترجمة)

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع